د. هشام العوضي*
*أستاذ مشارك في التاريخ والعلاقات الدولية – الجامعة الأميركية في الكويت
تدعو هذه المقالة المعرفيّين العرب إلى تأسيس مجمَع خلدوني مُبتكِر، لا ينشغل بالأحداث العربية التي تشبّعت بها الساحة، ولم تُسفِر سوى عن مزيد من التشوّش والاضطراب في الرؤية، ولكن التأمل الجذوري العميق في ما يجري للخروج بمعادلة أو نمط استدلالي آخر لما يحدث ولما سوف يحدث، على شاكلة المعادلة التي خرج بها ابن خلدون في فلسفته للتاريخ. وستستعرض هذه المقالة المختزلة نشأة الدولة العربية والتحدّيات التي تواجهها حالياً ومستقبلاً، وما يشبه المقترح لمعادلة خلدونية معاصرة.
مجمل ما تخيّله القوميون الأوائل هو إقامة دول إقليمية مركزها الشام الكبرى أو العراق، أو مملكة تقليدية ثقلها في شبه الجزيرة العربية – الحجاز تحديداً. ولكن طموح القوميّين في إقامة دولتهم العربية الموحّدة لم يتحقّق، لأن سطوة القوّة المركزية لإسطنبول تغوّلت داخل المناطق العربية في أواخر القرن 19 بدرجة أفقدت هذه المناطق حالة الاستقلال النسبي الذي حظيت به في الماضي، ولأن القوّة الأوروبية التي أسقطت الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى قسّمت المنطقة وفق المصالح الأوروبية، وليس وفق المخيّلة العربية التي بشّر بها القوميّون الأوائل.
وتحوّلت الأجندة العربية من إقامة كيان عربي موحّد إلى الرغبة في الاستقلال بالدول التي للتوّ رسمت حدودها القوّة الأجنبية ذاتها التي قاوموها. وبمرور الوقت، تكرّست شرعية هذه الحدود، وشرعية المؤسّسات والرموز التي انبثقت عنها، كالدستور، والمجالس النيابية، وعلم الدولة ووحدتها النقدية. وذهب الجيل الذي شهد ولادة الدولة الحديثة وجاءت أجيال جديدة تطّبعت مع الواقع الذي لم تشهد غيره. وحتى جيل الإسلاميين الذين ولدوا بعد نشأة الدولة القومية واستقلالها في الخمسينيات والستينيات، والذين ظلّوا يتحدّثون عن الأمّة بوصفها يوتوبيا متخيَّلة، لم يجدوا حرجاً شرعياً من التعايش الطوعي مع الحدود المصطنعة. ولم يكن التحدّي الذي واجهته الأنظمة العربية وقتئذ هو شرعية حدود دولها (أصبحت بالنسبة إليهم مسلّمة) وإنما في أدائها كأنظمة حاكمة.
وعلى الرغم من أن تلك الأنظمة لم تحقّـق إنجازات هائلة ومطّردة، إلاّ أنها ظلّت تحكم لعقود طويلة لسببين: أولاً، توغّل تلك الأنظمة في فضاءات المجتمع، واحتكار وسائل القمع، وصناعة الرأي العام، وبالتالي منع أيّة محاولة للتحشّد الجماهيري ضدّها. وثانياً، الدعم الأمني والاقتصادي الذي قدّمته القوى الكبرى لتلك الأنظمة. وبالتالي، وطبقاً لنزيه الأيوبي، (مؤرّخ مصري حديث، أستاذ فلسفة التاريخ المعاصر في جامعة كاليفورنيا سابقاً، رحل عن عمر ناهز الـ51 عاماً (1944- 1995) لم يدلّ استقرار الدولة على صلابتها، وإنما على سطوتها، و”سطوة الدولة قد لا تشير إلى قوّة الدولة، إذ إن الدولة القوية تكمّل المجتمع ولا تناقضه، ولا تُظهر قوّتها في إخضاعها له، بل في قدرتها على العمل مع مراكز القوّة في المجتمع أو من خلالها“ [من كتاب ”تضخيم الدولة العربية.. الدولة والمجتمع في الشرق الأوسط“ لنزيه الأيوبي - ترجمة أحمد حسين وإصدار المنظّمة العربية للترجمة،ـ بيروت 2010]. وفيما بعد أحدثت تفجيرات سبتمبر2001 ردّة عميقة في التصوّر الغربي، خلاصتها أن دعم الأنظمة السلطوية يولّد الإرهاب، والمطلوب الضغط على تلك الأنظمة لدعم نسبي للحريات التي تُنفّس عن الشعب وتُقصيه عن اللجوء إلى العنف.
غير أن ملفّ العلاقة بين الأنظمة والجماهير لم تعد السلطة تحتكر بنوده، فأدوات التأثير والنفوذ التي كانت تحتكرها السلطة تآكلت، بظهور قنوات التلفزة الخاصة، وللمرّة الأولى، العابرة لحدود الدول العربية وشعوبها، تطرح على شاشتها وبجرأة موضوعات هي من الممنوعات أو المحرَّمات (”التابو“) السياسية الموروثة والمتّبعة. كما مكّنت تلك القنواتُ الجماهير (masses) من التعبير عن رأيها، من خلال الاتصالات الهاتفية الخاصة ببرامج هذه أو تلك من القنوات الفضائية. ثم إن الإنترنت، ومن بعدها شبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، وتويتر تحديداً) مكّنت الأفراد (individuals) من حشد الجماهير وتوجيهها.
وعلى الرغم من استمرار دعم القوى الكبرى (ما خلا الدعم الأمني الذي خفّ بعد أحداث 11 سبتمبر)، إلّا أن تراكم إخفاق الأنظمة في الإنجاز، خلق حالة من السخط الشعبي المتزايد، والذي لم تعد ترهبه سطوة الدولة الواهنة. ولم يأتِ ”الربيع العربي“ كمرحلة كي يخلق معنى جديداً واضحاً في تطوّر صيرورة العرب، ولكن على العكس، خلق فوضى ومزيداً من التشوّش في محاولة فهم إلى أين يتجه العرب؟ وما هو مصير أنظمتهم وحدود دولهم القومية؟ وهذه الضبابية في الرؤية، على الرغم من تشبّع الساحة بالأحداث، هي التي عزّزت حاجة العرب اليوم إلى البحث عن معنى لما يحدث، وليس التعرف إلى ما يحدث. وبمعنى آخر، قد يبدو هذا الأمر بالنسبة إلى البعض رومانسياً، ولكنّه في رأيي يندرج في صميم الواقعية، حيث إن العرب عادوا بالفعل إلى مَسيسِ حاجتِهم إلى عقل ابن خلدون وفلسفته في التاريخ وعلم العمران البشري (علم الاجتماع) وذلك أكثر بكثير من حاجتهم إلى عقل الطبري ومدرسته السردية للتاريخ.
حاجة العرب إلى ابن خلدون القرن 21
ان ما يميّز القرن 21 هو تسارع وتيرة الأحداث فيه، ولدرجة لم تعد تسمح بالتأمل والخروج بمعنى عام، أو بصورة كليّة لما يحدث. وهذا الأمر لا يخصّ العالم العربي وحده، وإنما هو، على ما يبدو، إحدى ميزات القرن الـ21 التي تشمل العالم كلّه. من هنا فلم تعد الحاجة ضرورية اليوم إلى المعلومات التي تيسّر الحصول عليها بضربة زر (الاطلاع على ويكيبيديا مثلاً) والتي أحياناً لا تزيد القارئ سوى تشوّشاً وإنما إلى مَن يعالج هذه المعلومات، والخروج بصورة كليّة أو نمط منتظم (pattern) أو قوالب وإن تقريبية، تُعطي معنىً لما يحدث.
إننا نعيش منذ قرون، وحتى اليوم، أفق مدرسة الطبري في التاريخ، بينما الأصحّ، لنا ولأجيالنا من بعدنا، أن نعيش أفق مدرسة ابن خلدون، وبخاصة لجهة فلسفة التاريخ. عاش الطبري في القرن التاسع بإحساس أنه يوثّق التاريخ حدثاً بحدث – وإن تضاربت الروايات – من دون أن يهتمّ بمنح قارئه معنى أو معادلة ناظمة لتلك الأحداث. ولكن ابن خلدون الذي عاش في المغرب والأندلس في القرن الرابع عشر، كتب مقدّمته بعقلية مختلفة تماماً، هي التي بالتأكيد خلّدت ذكراه كأعظم رائد كتب في فلسفة التاريخ… والذين كتبوا لاحقاً عن التاريخ العربي المعاصر هم كُثُرٌ ولا شكّ: ألبرت حوراني، فيليب حتّي، يوجين روجن وغيرهم.. وغيرهم، ولكن كان المنهج أكثر ما يكون في سرد تفاصيل الأحداث وإعطاء عناوين توصيفية للمراحل أكثر منه فلسفة أو خارطة ذهنية.
بالنسبة إلى ابن خلدون كانت معادلة أحداث عالمه والخطوب فيه، هي هذه الدائرة: البدو يؤسِّسون دولة بفضل عصبيتهم الدينية والقبلية، البدو يفسدون من ترف الحاضرة، بدو آخرون بالعصبية نفسها يقضون على المترفين ويؤسّسون دولة جديدة، وهكذا.
والمثير ليس أن هذه المعادلة لم تعد تصلح لفهم واقعنا، إذ الدولة العربية الراهنة مصطنعة ومسندة بدعم خارجي يُطيل من أمد النخبة المترَفة، ولكن منذ القرن الرابع عشر لم يستكمل أحدٌ عقلية ابن خلدون في تحديث معادلته، أو ربما الاجتهاد بمعادلة جديدة. وهذا هو الذي يدعونا، وبجدية مطلقة، إلى ضرورة تأسيس مُجمّع خلدوني، لا يقوم محوره على شخصية واحدة، وإنما على عقول رياديّة متنوّعة، وذات تخصّصات مختلفة، لا تنشغل، بالقطع، بما يجري من أحداث تغطّيها الصحافة يوماً بيوم، وإنما بمجمل ما تنطوي عليه هذه الأحداث من معانٍ استراتيجية تحسم حالة التشوّش والاضطراب هذه، وتتَّجه لطرح أسئلة كبرى ومتجاوزة من مثل: على أيّ مفترق فعلي يقف العرب اليوم؟ وأيّ وهمٍ يمارسونه على أنفسهم قبل غيرهم في معركة رسم مستقبلهم وتحديد هويتهم؟ والهوية، هل هي نتاج لعلاقة المجتمع بالسلطة، أم لعلاقة المجتمع بذاته تاريخاً وحضارة وإنجازاً إنسانياً؟ ثم كيف تكون الطريق إلى الديمقراطية الصحيحة؟ هل هي ”ثورية“ مثلاً وفق ما نشهده من طُرُز ”ثورات عربية“ اليوم، أم هي شأن يبدأ من الإصلاح، والإصلاح بالتأكيد ليس رفضاً للأمر الواقع، بل هو انطلاق منه لتطويره وتحسينه وصولاً إلى واقع أكثر تقدّماً منه؟ فالحركات الثورية في العالم الحديث، ولاسيّما في أوروبا، تخلَّت اليوم – كما يقول عبد الوهاب المؤدب – وبصورة نهائية، عن شعار ”إصلاح أم ثورة؟“ واختارت طريقاً وحيداً ونهائياً هو طريق الإصلاح المتدرّج.. وهكذا، فالديمقراطية هي في الحقيقة نتاج مجتمع متقدّم لمجتمعات متقدّمة، والهوية الحضارية في المحصلة تعني التاريخ، بما هو وحدة إبداعية متجدّدة لبشر أحرار وسياديّين، لا يجترّون أنفسهم في ماضيهم، وإنما يجترحون عليه، ولأجله، أسئلة جديدة لإنجازات جديدة لهم وللإنسانية جمعاء.
ولو حُقّ لنا رسم معادلة لحال الدولة العربية الراهنة اليوم لألفينا المشهد الآتي: إرادة خارجية، أو إقليمية ترسم حدودها من جديد، دولة تخفق في الأداء على المستويات كافة، وتستفزّ شعوبها، وتقودها إلى نزاعات أهلية مدمرة، أو – على الأقل – إلى صراعات سياسية أو إيديولوجية تشغلها عن التطوّر وخوض معركة التحديث التي لا بدّ منها لاستكمال كلّ خطوة نهضوية نتطلَّع إليها، والحداثة في المحصلة هي، فضلاً عن علاماتها في السباق مع الزمن والأخذ بركائز العلم وشروطه، طورٌ أخلاقيٌّ متقدّمٌ أيضاً، ومن أطواره الفكرة التوحيدية أو التضامنية نفسها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق