12 أكتوبر 2021

سيد أمين يكتب: عبد القدير خان.. عالم غير مصير أمته

هذا الاختزال مكن باكستان من مفاجأة العالم بنجاحها في تصنيع قنبلة نووية وسط دهشة القوى الغربية التي اعتقدت أن المساعي الباكستانية لامتلاك سلاح ردع نووي يجابه القنابل النووية الهندية ما زالت في طورها الأول، وأنها يمكنها عرقلتها بوسائل متعددة كالحصار والانقلابات العسكرية خاصة مع طول فترة التصنيع التي تصل إلى عقدين من الزمان.
تخطي الحجب: https://ajm.me/58a2t7
للمزيد: https://ajm.me/aq8ywz


07 أكتوبر 2021

سيد أمين يكتب: صلاح سالم.. قصة أطول شارع وأشهر غرام

وعلى غرار قصة شقيقه جمال سالم مع سلوى، كانت من أشهر قصص صلاح هى تحرشه بالأميرة فايزة شقيقة الملك وزوجة الأمير محمد على رؤوف الذي كان يكبرها بخمسة وعشرين عاما، ومع تواتر المضايقات الأمنية بحثا عن ثروات العائلة لتأميمها، آثر السلامة وفر هاربا للخارج، فيما منعتها السلطات من السفر.

تخطي الحجب: https://ajm.me/t7u67j
للمزيد: https://ajm.me/63pfgc

05 أكتوبر 2021

ما هية الحروب الصليبية.. الدكتور قاسم عبده قاسم

انتقل الى رحمة الله يوم الاحد الموافق 26 سبتمبر 2021 المؤرخ الكبير الدكتور/ قاسم عبد قاسم، الذى تعتبر كتاباته عن الحروب الصليبية وعن العصور الوسطى من اهم المراجع المنهجية والتاريخية فى المكتبة العربية، والتى تمثل بالنسبة لنا النافذة الاوسع والادق والاكثر مصداقية للتعرف على هذه المرحلة الهامة والمفصلية من تاريخ الامة، بالذات فى كتابه "ماهية الحروب الصليبية" الذى اصدرته سلسلة عالم المعرفة الكويتية، والذى قمت منذ بضع سنوات بتقديمه فى عدة حلقات.

واليوم أعيد نشر هذه السلسلة التى تتكون من أربع حلقات، تكريما للراحل العزيز، وتنويها للقراء الكرام بالذات من الاجيال الجديدة باهمية الاطلاع والانفتاح على الانتاج الفكرى والتاريخى لمفكر ومؤرخ ثقيل الوزن وغزير العلم.
محمد سيف الدولة
***

 قراءة تاريخية عامة للحروب الصليبية.

ولكن قبل ان أبدأ، أود ان اعرض الاسباب التى دفعتنى الى ذلك:
· كان السبب الاول هو تميز ودقة وموضوعية الدراسة المقدمة.
· والسبب الثانى هو غياب الوعي الشعبى بالقصة الكاملة والحقيقة للحروب الصليبية، فقد نجد حتى الآن ان المصدر الرئيسى لمعلومات الكثيرين عن هذا الموضوع هو فيلم الناصر صلاح الدين للمخرج يوسف شاهين.
· السبب الثالث هو ان نجاحنا فى دحر تلك الحملات الشرسة، كان بمثابة النجاح فى الاختبار الاول لاختصاصنا باوطاننا وامتلاكنا لها، وهو ما كان الغرب يشكك فيه منذ الفتح الاسلامى.
· السبب الرابع والأهم هو التشابه الكبير بين ذلك العدوان القديم، وبين العدوان الذى لا نزال نعيش فيه منذ أن بدأ منذ حملة نابليون 1798 ولم ينتهِ حتى الآن 2021، وفى القلب منه المشروع الصهيونى الاستيطانى، واهمية ذلك فى استخلاص الاسباب والعناصر التى أدت الى انتصارات الاجداد، علها تفيدنا فى تحقيق التحرر والنصر فى المستقبل القريب.

***

مدخل تاريخى:

· يمكن اعتبار يوم 27 نوفمبر 1095 هو البداية الفعلية لأحداث الحركة الصليبية، وهو تاريخ الخطبة الشهيرة التى القاها البابا "أوربان الثانى" فى منطقة كليرمونت بجنوب فرنسا، والتى وجه فيها الدعوة الى شن حملة تحت راية الصليب ضد المسلمين فى فلسطين.
· وكانت هذه الخطبة بمثابة اشارة البدء لسلسلة من الحملات الصليبية، قادتها اوروبا الكاثوليكية للعدوان على العالم العربى تحت راية الصليب.
· بدأت اولها عام 1096 ولم تنتهِ وتندثر الا عام 1291.
· خلال هذه الفترة اسس المعتدون عدد من المستوطنات الصليبية على التراب العربى فى فلسطين وأعالي بلاد الشام والجزيرة.
· وكانت هذه الحملات سببا رئيسيا من اسباب تعطل قوى الابداع والنهوض والنمو فى الحضارة العربية الاسلامية، والتى ادت فيما بعد الى ضعفها ووقوعها تحت السيادة العثمانية.
· ورغم ان العثمانيين قاموا بحماية العالم الاسلامى من العدوان الغربى لقرون طويلة، الا انهم لم ينجحوا فى اعادة استنهاضه من التراجع الذى تم بسبب الحروب الصليبية، مما ادى فى النهاية الى سقوط العالم العربى تحت الاستعمار الاوروبى الحديث.
· كما كانت هذه الحروب هى اول المشروعات الاستعمارية الاوروبية، وكانت السابقة او التجربة التى سبقت مرحلة الاستعمار الحديث.
· فضلا على انها كانت الهاما للتجربة الصهيونية الاستيطانية.
***
مصطلح الحروب الصليبية :


· تتمثل اشكالية مصطلح "الحروب الصليبية"، فى اقتران حركة استعمارية شريرة وعدوانية، بالصليب وما يمثله من رمز دينى تميز بالسلام والفداء والتضحية من اجل الآخرين، خاصة ما يمكن ان يثيره المصطلح من اشكاليات معاصرة بين عناصر امة واحدة تتشكل من المسلمين والمسيحيين. وهى الاشكالية التى عالجها يوسف شاهين فى فيلمه الشهير بتقديم شخصية البطل العربى المسيحى "عيسى العوام".
· وقد أطلق العرب على هذه الحروب " حروب الفرنج " ولم يرتبط اسمها فى الكتابات المختلفة بالصليب الا بعد قرن ونصف من بدايتها.
· بل ان اول ظهور لكلمة الصليبين كان وصفا للموسومين بالصليب لانهم كانوا يخيطون صلبانا على ستراتهم، ولم يكن وصفا للحركة.
· ولقد اطلق الكتاب والمؤرخون الغربيون القدماء عليها مصطلحات متعددة مثل حركة الحجاج، رحلة الحج، الرحلة الى الارض المقدسة، الحرب المقدسة، حملة الصليب، الحملة العامة، مشروع يسوع المسيح..الخ
· ولكن لم يستقر مصطلح الحروب الصليبية الا فى القرن الثامن عشر على ايدى المؤرخين الغربيين المحدثين.
· وعندما تقدم الآلة الاعلامية الغربية الاستعمارية الحديثة، قصة الحروب الصليبية للراى العام، فانها تقدمها كمثال براق يوحى بالشجاعة والتضحية بالنفس فى سبيل المثل الاعلى.
· وهو ما يكشف تناقضا كبيرا مع الصليب نفسه، بصفته رمزا للفداء والتضحية بالنفس فى سبيل الآخرين، وليس رمزا للحرب والقتل والعدوان.
· ولكن فى جميع الاحوال لا يمكن التغاضى عن مصطلح الحروب الصليبية التى ترسخ فى الدراسات العربية وأصبح له مدلول تاريخى، والذى قد يكون المعنى الادق له هو: "تلك الحملات الاستعمارية الاستيطانية التى قام بها الغرب على اوطاننا متذرعا بذرائع دينية فى القرنين الثانى والثالث عشر."
***

جذور الايدولوجية الصليبية:
اولا ـ الحج والحرب الصليبية:

· ظهرت فكرة الغفران الصليبى والنظام الكنسى المبكر للتكفير عن الذنوب. والغفران له ثلاث خطوات هى الاعتراف بالذنب والرضا والمصالحة بمعنى العودة الى الجماعة المسيحية. وكان الحج هو احد الوسائل الهامة للتكفير عن الذنوب (الحج التكفيرى)
· لم تتوقف رحلات الحج الى الاراضى المقدسة عبر العصور، فى ممارسة دينية هادئة وطبيعية، وتنامت هذه الرحلات فى القرن الحادى عشر كوسيلة للتكفير عن الذنوب، كما أسلفنا، بتوجيه من الكنيسة او بفرض منها، او الحج للرغبة فى الخلاص قبل نهاية العالم، وفقا لبعض الاساطير والخرافات التى سادت، عن نهاية العالم بعد الالفية الاولى من ميلاد السيد المسيح. المهم ان حركة الحج ظلت حركة متصاعدة.
· ولقد استثمر اصحاب الدعوة الصليبية، حركة الحج التى وصلت فى القرن الحادى عشر الى مجموعات يصل عددها الى عدة آلاف.
· ثم تطورت فكرة الحج فيما بعد الى فكرة الحرب الصليبية، انطلاقا من افكار مثل: ان الارض التى شهدت قصة المسيح وفيها ضريحه لابد وان تكون تحت سيطرة اتباعه، وضرورة تخليص الارض المقدسة من المسلمين، وحملات الحج المسلحة او عسكرة الحج. ومما جاء فى خطبة البابا الشهيرة:
((اننى اخاطب الحاضرين، وأعلن لاولئك الغائبين، فضلا على ان المسيح يامر بذلك، انه سوف يتم غفران ذنوب اولئك الذاهبين الى هناك اذا ما انتهت حياتهم باغلالها الدنيوية سواء فى مسيرتهم على الارض او اثناء عبورهم البحر، او فى خضم قتالهم ضد الوثنيين. وهذا الغفران امنحه لكل من يذهب بمقتضى السلطة التى اعطانى الرب اياها))
· ولقد منح البابا الغفران الجزئى من الذنوب الى كل الذاهبين للحملة الصليبية ضد الوثنيين.
· وطور البابا اجينيوس الثالث الغفران فى الحملة الثانية 1145/1149 الى غفران الخطايا والاعفاء من التوبة والتكفير.
· وتطورت مسالة الغفران لتشمل الحملات ضد اعداء الكنيسة داخل اوروبا نفسها.
· ولقد أصبح الغفران بعد ذلك سلعة تباع بالمال فيما عرف من صكوك الغفران، ولكن هذه مسألة أخرى.

***

ثانيا ـ الحرب العادلة و الحرب المقدسة:

· كان مفهوم الحرب المقدسة من اهم روافد الايدولوجية الصليبية.
· وكان موقف آباء الكنيسة حرجا وهم يواجهون مشكلة التوفيق بين تعاليم المسيحية الداعية الى السلم ونبذ الحرب من ناحية، وبين مقاومة الشر الحتمى فى الحياة الدنيا من الناحية الأخرى.
· ولقد ادان اللاهتيون فى العالم البيزنطى، الحرب باعتبارها عملية قتل جماعى، ولكن فى الغرب اللاتينى كان الموقف مختلفا، تحت تاثير الغزوات الجرمانية التى اجتاحت اوروبا بين القرنين الخامس والسابع الميلادى. مما ساعد على تقديم تبريرات دينية لضرورة الحرب.
· وكان القديس اوغسطين 354-430 م هو اول من طرح فكرة الحرب العادلة ووضع لها 3 شروط:
1) ان يكون هناك سبب عادل لشن الحرب مثل رد العدوان او الاعمال الضارة.
2) ان يصدر قرار الحرب من سلطة شرعية.
3) سلامة القصد بمعنى انه يجب على كل مشارك فى الحرب ان تكون دوافعه نقية سليمة، وان تكون الحرب هى الوسيلة الوحيدة المتاحة لتحقيق هدف عادل.
· وكان مما دعم فكرة ضرورة الحرب كوسيلة دفاعية من ناحية اخرى، هو اطماع جماعات الغزاة فى اوروبا فى ثروات الكنائس والاديرة.
· وحيث ان المغيرين والغزاة لم يكونوا مسيحيين، لذا اقترنت فكرة الحرب العادلة بفكرة الحرب ضد الوثنيين اى غير المسيحيين عموما، وهو ما حول فكرة الحرب العادلة الى فكرة الحرب المقدسة.
· وهو المعنى الذى صاغه فى صيغته النهائية جريجورى السابع 1073-1085 م ولقد استخدم تعبير " جيش المسيح " لاول مرة.
· من ناحية ثالثة تاسست حركة تحمل اسم "سلام الرب" فى مواجهة المنازعات والحروب الاقطاعية الكثيرة التى سادت اوروبا فى هذه المرحلة. وتاثرت بها الكنيسة ومن ثم تورطت فى تنظيم الحملات العسكرية ضد كل من يعكر صفو السلام. واعتبرت بهذ المعنى بمثابة حروبا مقدسة.
· ولقد استثمرت فكرة الحرب المقدسة على أكمل وجه فى الحملات الصليبية المختلفة.
· ورويدا رويدا، صارت الكنيسة الكاثوليكية قوة عسكرية اقطاعية استخدمت قواتها فى الدفاع عن الدويلات البابوية.
· وكذلك كانت الحرب ضد المسلمين فى الاندلس، هى الأخرى، أحد المقدمات التاريخية للحروب الصليبية.
· كل ذلك مثل سوابق وتجارب عملية مهدت للحروب الصليبية.
· وبحلول القرن الحادى عشر صارت البابوية قوية بالقدر الذى يجعلها تفكر جديا فى تجريد حملة عسكرية ضد الشرق العربى الاسلامى.

***
واخيرا كان لطبقة الفرسان الاقطاعيين التى تطورت ونضجت فى اوروبا عبر احداث القرون الماضية دورا رئيسيا فى الحروب الصليبية، من خلال مصالحها ونفوذها وقوتها العسكرية.
***
تناولنا اليوم جذور الحركة الصليبية فى مسائل مثل الحج والحرب المقدسة وتطور الفكرة الصليبية.
ولكن لا شك ان العوامل الاقتصادية والاجتماعية كان لها اهميتها البالغة فى فهم وقراءة الحروب الصليبية وهو موضوع الحلقة القادمة باذن الله.


(2)

"الظروف التاريخية والدوافع"

 الظروف التاريخية التى أحاطت بهذه الحملات والحروب، وكذلك الدوافع والاسباب التى حركت كل قوى وأطراف العدوان، وذلك من خلال المحاور الاربعة التالية:

الدكتور قاسم عبده
1)   مشروع العصر.

2)   حال اوروبا عشية الحرب: (الفلاحون ـ الفرسان ـ البرجوازية الناشئة ـ الكنيسة)

3)   الوضع فى الامبراطورية البيزنطية.

4)   العالم العربى الاسلامى.


***

مشروع العصر:

·       مثلت الحرب الصليبية انعطافا خطيرا فى تاريخ الغرب الاوروبى من حيث مجالها الجغرافى او اطارها الزمنى او اعداد الذين شاركوا فيها.

·       وهى اول حرب يخوضها الاوروبيون تحت راية ايدولوجية واحدة.

·       وكانت افرازا للتفاعل بين الكنيسة والاقطاع.

·       فكانت الكنيسة تهدف الى السيادة المطلقة على العالم المسيحى منافسة فى ذلك الامبراطورية.

·       وكان فرسان الاقطاع يتوقون الى توسيع سلطانهم واملاكهم، ولم يكن هذا ممكنا دون الصدام مع الملكية وكان الحل فى الحملات الصليبية.

·       اما البرجوازية الناشئة ممثلة فى المدن التجارية الايطالية فكانت تهدف الى السيطرة على تجارة البحر المتوسط وتجارة العالم.

·       اما الفلاحين فكانت الحملات الصليبية بالنسبة لهم، محاولة للتحرر من حياة البؤس والشقاء الذى كانوا يعيشونه فى ظل النظام الاقطاعى.

·       وبذلك مثلت الحملة الصليبية مشروع العصر بالنسبة للكثيرين.

***


حال اوروبا عشية الحرب:

·       منطقة جغرافية لم تتشكل بعد على المستوى السياسى.

·       وكانت مجرد منطقة ريفية بالقياس بكل من العالم البيزنطى والعالم العربى الاسلامى.

·       فلقد كان الطابع الريفى مسيطرا وكان هناك ادراك بضيق الاراضى الاوروبية.

·       وكانت البلدة والقرية هما النموذجان السائدان.

·       بالاضافة الى عدد قليل من المدن التجارية الايطالية على البحر المتوسط مثل البندقية وجنوا وبيزة.

·       وكانت الناس تحت رحمة الطبيعة الى حد كبير: فيضانان ومجاعات واوبئة كانت قد ضربت اوروبا قبل الحملة الاولى بعشرة سنوات.

·       وشهدت اوروبا بدءا من القرن الحادى عشر ثلاثة قرون من الابداع فى القرون الوسطى، فلقد كان تبللور المؤسسات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية الذى بدأ منذ خمسة قرون، هو الاساس الذى قامت عليه الحضارة الاوروبية فى العصور الوسطى وشهدت هذه المرحلة عدد من الشخصيات البارزة مثل وليم الفاتح ملك انجلترا وهنرى الثالث وغيرهم من الحكام الجنود الذين يبحثون عن السلطة ، كما عاش فى القرن الحادى عشر معظم البابوات الاصلاحين الذى كان ابرزهم جريجورى السابع الملقب بالشيطان المقدس، الذى كان خليفته هو البابا اربان الثانى صاحب الدعوة الشهيرة الى الحملة الصليبية .

·       كان التوسع والتنظيم من اهم سمات القرن الحادى عشر.

***


الفلاحون:

·       كانوا يعيشون حياة قاسية ويعملون فى ازالة الغابات واستصلاح اراضيها.

·       وكانت الاراضى الزراعية لا تزال ضئيلة المساحة بالنسبة الى مناطق البرارى والغابات والاراضى البور.

·       يعيشون فى اكواخ حقيرة وطعامهم فقيرا وبسيطا من انتاج حقولهم، وملابسهم من انتاج جلود حيواناتهم، يأكلون اللحوم الطازجة مرة واحدة فى اعياد الميلاد ويحتفظون بالباقى مقددا ومملحا لباقى السنة.

·       وكان القساوسة فى الريف فى معظمهم اميون، يقدمون الى الفلاحين معلومات مشوشة عن المسيحية يسودها التعصب والتزمت.

·       وكان القرويون يجمعون بين التدين العاطفى والايمان بالخرافات والمعجزات.

·       وكان الفلاح مقيدا بالتزامات قاسية تجاه السيد الاقطاعى، وتحول بالفعل الكثير منهم الى اقنان وفقدوا حريتهم. وفيما يلى إحدى وثائق القنانة فى ذلك العصر:

" ليكن معلوما، لكل من يجيئون بعدنا، ان رجلا فى خدمتنا يدعى وليم، شقيق رينالد، الذى ولد لابوين من الاحرار، قد تحرك مدفوعا بحب الرب صوب غاية يحسبها له الرب حسنة. اذ وهب نفسه قنا للقديس مارتن فى مورموتيه، ولم يكتف بان يهب نفسه فقط، بل وهب جميع ذريته من بعده لكى يظلوا الى الابد فى خدمة رئيس الدير والرهبان فى هذا المكان بشروط واضحة. ولكى يتم التاكيد على هذه الهبة وتوضيحها وضع حول رقبته حبلا، كما وضع اربع قطع من النقود على مذبح القديس مارتن اعترافا بالقنانة، وكرس نفسه للرب العظيم. وقد راى ما حدث، وشهد عليه اولئك الآتية اسماؤهم .. "

·       وكان القن مربوطا بالارض لا يمكنه الرحيل عنها، كما لا يستطع ان يستبدل سيده.

·       ولم تقف الكنيسة ضد ظاهرة الاقنان، بل استفادت منها بصفتها من أكبر ملاك الاراضى الزراعية.

·       وكان الاقنان يحتلون مكانة فى البناء الاجتماعى بين الفلاحين الاحرار وبين عبيد الارض من الارقاء.

·       وكان الاقنان يشكلون قطاعا هاما من سكان الريف الاوروبى عشية الحملة الاولى.

·       وكان النظام الاقطاعى بجناحيه الفرسان والقساوسة يعيشون من ناتج عمل الفلاحين.

·       وكان للاقطاعين السيطرة السياسية والقضائية على الفلاحين بما فيها حق جمع الضرائب منهم.

·       ولذا كان الفلاحون فريسة للخوف الدائم والاضطراب المستمر والافتقار للامن، فمن ناحية يقعون تحت وطأة الطبيعة بمجاعاتها واوبئتها، ومن ناحية اخرى وقعوا تحت وطئة السادة الاقطاعيين الذين جعلوهم وقودا لحروبهم الاقطاعية.

·       ولانهم قد تشبعوا منذ فترة طويلة بافكار الوعاظ الجوالين، فانهم قد وجدوا فى دعوة البابا فرصة للخلاص الدنيوى والاخروى.

·       وهكذا كانت الاوضاع الاجتماعية المحبطة والجو الفكرى المشبع بالخرافات والتعصب الدينى من اهم الدوافع التى حركت المقهورين من ابناء الغرب الاوروبى الى المشاركة فى الحملة الصليبية الاولى، وهو ما ادى الى الحملة الشعبية وهى الحملة التى ازعجت البابا الذى لم يرى فى هؤلاء القوى المناسبة لتحقيق اهداف الحملة.

·       لقد كان الجوع الذى عض بانيابه معظم انحاء الغرب الاوروبى فى سنة 1095 وراء خروج اعداد غفيرة من الفلاحين والمعدمين خلف قادة العصابات التى شكلت تلك الحملة الشعبية او ما سميت بحملة الفلاحين.

***


الفرسان:


·       كان للعوامل الاقتصادية والاجتماعية الجافة اهمية كبيرة فى تفسير الدور الكبير الذى لعبه الفرسان الاقطاعيون فى الحركة الصليبية.

·       ان من اهم خصائص القرن الحادى عشر الميلادى فى اوروبا الغربية هو بلورة النظام الاقطاعى الذى كانت مؤسساته آخذة فى التطور والنمو منذ القرن الثامن الميلادى.

·       وقد قام النظام على ثلاثة عناصر هى:

اولا ـ عنصر شخصى يربط السيد الاقطاعى بتابعه ويتمثل هذا العنصر فى رابطة الولاء الشخصى الذى يدين به التابع لسيده وقد اصطلح على تسميته السيادة والتبعية

ثانيا ـ عنصر فعلى وهو حيازة الاقطاع فى مقابل تقديم الخدمة العسكرية المناسبة فى جيش السيد الاقطاعى

ثالثا ـ لا مركزية القضاء وقد اتاح هذا العنصر حقوقا قضائية للسادة الاقطاعيين على حساب سلطة الملك المركزية

·       وتتلخص الفكرة الاقطاعية فى انه "لا ارض من دون سيد اقطاعى".

·       وبذلك ظهر هرم اقطاعى على قمته الملك الذى له سلطة اسمية على كبار السادة الاقطاعيين.

·       يليه مباشرة عدد من الامراء الاقطاعيين، لكل منهم اتباعه، ولكل تابع تابع، الى نصل الى الفارس العادى الذى يملك ارضا بالكاد تعوله وتكفيه.

·       ولكل عضو فى الهرم الاقطاعى التزاماته وواجباته تجاه سيده وتجاه اتباعه.

·       وكان الهدف الاساسى من التنظيم الاقطاعى هو التعاون فى الحرب.

·       وكانت الحرب هى الحرفة الاساسية للفارس الاقطاعى، وكانت هى مهنة الرجل الراقى، يقضى الشطر الاكبر من حياته متدربا على القتال او مشتبكا فى معركة حقيقية.

·       وكان من عادة فرسان الغرب الاوروبى منح الهبات السخية للاديرة التى اسستها العائلة او تاسيس اديرة جديدة باعتبار ان ذلك وسيلة للتكفير عن الخطايا.

·       ولذلك كانت الدعوة الى الحملة الصليبية وما يصاحبها من غفران مصدر اغراء لابناء هذه الطبقة.

·       ولم يكن الفارس يعيش فى مستوى افضل كثيرا من مستوى الفلاحين فى ارضه.

·       وكانت الاقطاعات اقل من عدد الفرسان الطامحين الى الحصول على الارض وقد عرفت هذه الظاهرة باسم الجوع الى الارض وقد تسببت فى كثير من الحروب الاقطاعية التى مزقت اوروبا تماما.

·       وقد جاء فى الخطبة الشهيرة للبابا اربان الثانى اثناء الدعوة الى الحملة الاولى ما يلى:

 هذه الارض التى تعيشون عليها محاطة بالبحر من كل جانب، تحوطها سلاسل الجبال ، وتضيق باعدادكم الكبيرة ، وهى لاتفيض بالثروات الكبيرة ، وانما تكاد تعجز عن توفير الطعام لمن يقومون بزراعتها . وهذا هو السبب انكم تشنون الحرب ضد بعضكم بعضا " 

·       وكانت هناك اسباب أخرى وراء ضيق الارض فى اوروبا، فلقد دأبت طبقة الفرسان على اتباع عدة وسائل للحفاظ على اقطاع العائلة دون تفتيت مثل أن حق الارث قاصر على الابن الاكبر

وكان الابناء الصغر بناء على ذلك، ينتهى بهم المطاف الى الانضمام الى الكنيسة او الالتحاق بتبعية احد السادة الاقطاعيين.

·       وكان هناك ايضا نظام الملكية على المشاع، او ما يسمى بملكية الاخوة، وهو النظام الذى تم ابتكاره لمنع تفتيت الارض ايضا، وهو ما ادى الى ان يتشارك الاعمام وابناء اخوتهم فى الملكية التى تضيق عليهم، مما دفع الكثير من الورثة الى الالتحاق بالاديرة والكاتدرائيات.

·       وفى القرن الحادى عشر كان الانضمام الى الحملة الصليبية فرصة حقيقية للهرب من نظام ملكية الاخوة وتحقيق الاستقلال عن العائلة.

·       لقد جاءت الحملة الصليبية متنفسا لطبقة الفرسان التى كان عددها ينمو باستمرار بدون نمو فى الارض

·       على اى حال كانت ثمة اهداف ومطامع دنيوية عديدة وراء مشاركة ابناء هذه الطبقة فى الاشتراك فى الحملات الصليبية تبلورت كلها حول الرغبة فى التوسع وملكية الارض.

***


البرجوازية الناشئة:

·       على الرغم من ان غرب اوروبا فى القرن الحادى عشر، كان منطقة ريفية الطابع، الا ان كان هناك عدة مدن ايطالية احتفظت بعلاقتها التجارية مع القسطنطينية وخرجت سفنها تجوب البحار.

·       وفى منتصف هذا القرن كانت البندقية قد بنت اسطولها البحرى القوى.

·       واخذت جنوا وبيزا زمام المبادرة فى الهجوم على اساطيل المسلمين التى كانت قد دابت على مهاجمة موانيهما والاستيلاء على سفنهما.

·       وتحولت الى جمهوريات مستقلة غير خاضعة لسلطة الكنيسة وفرضت نفسها على تجارة البحر المتوسط.

·       وكان لها دورا هاما فى الحملة الاولى فى مقابل السيطرة على موانىء شرق المتوسط.

·       كانت هذه الجمهوريات تحاول ان تفوز بالثروة الطائلة التى نعم بها العالم الاسلامى.

***


الكنيسة


-كانت الكنيسة الكاثوليكية قد تورطت فى الشؤون العلمانية البعيدة عن المجالات الدينية الى حد بعيد:

o      فملكياتها الكبيرة من الاراضى الزراعية، يقوم بحمايتها عسكريا وكلاء علمانيين.

o      والسادة الاقطاعيون يعينون الاساقفة ومقدمى الاديرة داخل اقطاعاتهم واماراتهم، فكانوا يعملون لديهم مستشارين ورجال ادارة.

o      وكذلك كان التنافس بين العائلات الكبيرة على الفوز بمنصب البابا وجعله عرشا وراثيا.

o      وأدى تداخل الكنيسة مع النسيج الاقطاعى ادى فى النهاية الى أن صارت الوظائف الكنسية تباع وتشترى.

o      ولقد أضر كل ذلك بالوظيفة الروحية للكنيسة الى حد بعيد.

o      ولقد ادى ذلك فى مرحلة ما الى ضعف البابوية وهوانها.

·وبدءا من بدايات القرن العاشر الميلادى بدأت تتبلور على مستوى اوروبا حركة اصلاحية داخل الكنيسة، هدفت الى عدم تدخل النبلاء فى اختيار البابا وقصر هذه المهمة على الكنيسة وحدها، كما سعت الى زيادة سلطة البابا على الكنيسة فى كل مكان، مما ادى الى بداية الصدام مع سلطات الدول وملوكها فى اوروبا.

·ولقد وصل هذا الصراع الى ذروته فى عهد البابا جريجورى السابع 1073 م، الذى قام بما سمى بالاصلاح الجريجورى او الثورة الجريجورية واهتم بتدعيم سلطة الكنيسة الى ابعد الحدود واصدر مرسوما يحدد هذه السلطة يتكون من 26 نقطة كلها تدور حول مفهوم سمو البابوية على الدولة

ودخل معارك كبيرة ضد الملك الالمانى لمنعه من التدخل فى تعيين كبار رجال الكنيسة وقام بخلعه ووقع عليه قرارا بالحرمان

· وكان هذا نموذجا للصراع الذى دار بين الكنيسة والدولة. وقد وجدت الكنيسة فى الدعوة الى الحروب الصليبية وسيلة وفرصة لتحقيق السمو البابوى على الامبراطورية، فهذه الدعوة تضعها فى مكانة المدافع عن الاراضى المقدسة، وتقربها من الوجدان الدينى لدى مختلف فئات الشعب، ويمكنها من توظيف الميول الحربية لدى الفرسان بعيدا عن الملوك المنافسون لها على السلطة والسيادة على اوروبا. كما ان الحملات على الشرق ستكون بعيدة عن الاراضى التى تسيطر عليها الملكية فى اوروبا، فى ارض لا يملكونها وليس لهم عليها نفوذ.

***

اذن كان التوسع فى الخارج هدفا مشتركا للجميع: الكنيسة والفرسان والفلاحون والمدن التجارية فى ايطاليا.

***

الوضع فى الامبراطورية البيزنطية:

·عندما مات باسيل الثانى الامبراطور البيزنطى سنة 1025 م، كانت الامبراطورية شاسعة.

ولكن كان هناك مشاكل من المسلمين على الحدود الشرقية ومن السلاف فى منطقة البلقان ومن الروس ايضا.

هذا بالاضافة الى الاعداء الجدد من البشناق والنورمان والاتراك السلاجقة.

·اما البشناق فهى قبائل بدوية من اصل تركى، حاربت البيزنطيين فى البلقان وحققت انتصارات كبيرة.

·اما فى الجبهة الايطالية فكان العدو هو النورمان الذين غزوا صقلية وجنوب ايطاليا وهددوا وجود الامبراطورية ذاتها.

·اما الاتراك السلاجقة الذين ظهروا فى القرن الحادى عشر، فقد كانوا علامة على بداية مرحلة جديدة فى تاريخ العالم الاسلامى وفى تاريخ الامبراطورية البيزنطية ايضا.

وهم قبائل بدوية من الاتراك الغز وقد اعتنقوا الاسلام على المذهب السني فى القرن العاشرثم تاقلموا مع المعطيات الحضارية فى العالم الاسلامى.

ودخلوا بغداد بناء على دعوة من الخليفة العباسى 1055 م لصد مؤامرة لبسط سلطة الخلافة الفاطمية الشيعية على عاصمة الخلافة العباسية السنية، وبذلك حلوا محل البويهيين فى الهيمنة على الخلافة العباسية الضعيفة.

وبدأ نفوذهم فى التصاعد واشتبكوا فى عدة حروب مع البيزنطيين الى ان انتصروا عليهم فى معركة مانزكرت الشهيرة عام 1071 م . ونجحوا بعدها فى التوغل فى آسيا الصغرى منذ 1073م واستولوا على انطاكية عام 1085 م

· وكانت هذه المعركة تعبيرا عن حالة التردى فى اوضاع الامبراطورية التى كانت جيوشها تتكون من المرتزقة من كل لون. وكان اقتصادها منهارا وخزانتها خاوية والحروب الداخلية مشتعلة.

·       وفى مواجهة هذا طلبت القسطنطينية العون من بابا روما اربان الثانى الذى وجد فيها فرصة لاعادة توحيد الكنيسة تحت قيادته بعد الانشقاق الذى تم عام 1054م.

· وفى 1095م دعا البابا الى مجمعا فى ايطاليا وطلب من الحاضرين تقديم كل مساعدة ممكنة للامبراطورية الشرقية. وكانت هذه مقدمة هامة للدعوة اللاحقة بعدها بعدة شهور الى الحملة الصليبية الاولى.

***

العالم العربى الاسلامى:

عشية الحروب الصليبية كان التمزق السياسى والتناحر العسكرى مخيما على العالم العربى:

 فقد كان المسلمون فى المنطقة العربية موزعين ومنقسمين فى ولائهم السياسى بين الخلافة العباسية السنية فى بغداد والخلافة الفاطمية الشيعية فى القاهرة.

·وكانت بلاد الشام موزعة بين عدة امارات صغيرة على راسها حكام عرب او سلاجقة، تتبادل مشاعر الحقد والشك والعداء السياسى والعسكرى مما حال دون توحدها فى مواجهة الغزو الصليبى

·وكانت الخلافة العباسية فى بغداد ذو سلطة اسمية فقط انتقلت فيها من نفوذ البوهيين الشيعة الى السلاجقة الاتراك

· ونجح السلاجقة فى الاستيلاء على معظم انحاء فلسطين من الفاطميين بما فيهم القدس عام 1071التى استعادوها عام 1098م قبل ان يفقدوها على يد الصليبيين عام 1099 م.

 وساد صراع آخر بين سلاجقة الشام وسلاجقة الروم حول السيادة على حلب

·كانت المنطقة العربية فى أخريات القرن الحادى عشر نهبا للمعارك بين الحكام الكثيرين الذين اقتسموا حكم مدنها واقاليمها بصورة فسيفسائية مربكة.

· والخلافة الفاطمية كانت قد دخلت مرحلة التدهور السياسى بعد ان سيطر الوزراء على الخلفاء وحولوهم الى دمى يحركونها كيفما شاءوا. وضاع نفوذهم فى الشام.

·اما مدن الشمال فى آسيا الصغرى واعالى بلاد الشام فاخذت تنتقل من حكم البيزنطيين الى حكم المسلمين وبالعكس، فخربت وتدهورت بشكل كبير.

· لقد كانت كل هذه الكيانات متورطة تماما فى الحروب والمنازعات على مدى قرن كامل قبل قدوم الصليبيين. وعندما قدموا لم يكن لدى حكام المنطقة سوى ميراث طويل من الشك والمرارة تجاه كل منهم للآخر ومن ثم مضت قوات الصليبيين كما تمضى السكين فى الزبد. وفى طيات الموجة الصليبية الاولى غرقت هذه الامارة الصغيرة واحدة تلو الأخرى. وكان سقوط مدينة نيقية فى ايدى قوات الحصار المشتركة من الصليبيين والبيزنطيين صدمة ونذير خطر لجميع القوى الاسلامية. ولكن الانانية وضيق النظر جعل تلك الصدمة وذلك النذير بلا فائدة.

..........................................................

خطبة البابا والاستجابة الشعبية

الخطبة الشهيرة :

فى السابع والعشرين من نوفمبر سنة 1095 م، ومن مدينة صغيرة فى جنوب فرنسا تدعى كليرمونت، وجه البابا اربان الثانى خطبة الى جمع غفير من الناس يشمل الاساقفة ورجال الدين والامراء والاقطاعيين، دعا فيها الى القيام بحملة مقدسة تحت راية الصليب هدفها تحرير فلسطين من ايدى المسلمين

وكان اهم ما جاء بها:

اولا ـ ان هدف الدعوة هو تحرير الكنيسة الشرقية من ربقة المسلمين. وتخليص الارض المقدسة من سيطرتهم، هذه الارض التى وصفها الكتاب المقدس بانها الارض التى تفيض باللبن والعسل، ووصفها اربان الثانى بانها ميراث المسيح.

ثانيا ـ وانه قد اضفى القدسية على نفسه اعتمادا على نصوص وردت فى الاناجيل المسيحية، واهمها نص من انجيل لوقا يقول: " ومن لا يحمل صليبه وياتى ورائى فلا يقدر ان يكون لى تلميذا"

ثالثا ـ و انه كان يدعو الى هذه الحملة المقدسة باسم الرب بوصفه نائبا عنه فى الارض، فقد ذكر انه قال "ومن ثم فاننى، لست انا، ولكن الرب هو الذى يحثكم باعتباركم وزراء المسيح ان تحضوا الناس من شتى الطبقات ..

رابعا ـ ولقد امتدح البابا شجاعة الفرنج وقدراتهم القتالية وادان حروبهم ضد بعضهم البعض وحثهم على عدم اراقة الدماء المسيحية وفرق بين الفارس الجديد الذى يحب المسيح ويحمل صليبه ويحب جاره ويناضل من اجل تحريره وبين الفارس القديم الذى يسعى وراء اطماعه الشخصية ويصب العنف على اخوانه المسيحيين.

خامسا ـ اشار البابا الى منح غفران جزئى لكل من سيشارك فى هذه الحملة، سواء مات فى الطريق الى القدس، او قتل فى الحرب ضد المسلمين.

***

·ولقد لقيت خطبة البابا استجابة فورية وهائلة، فلقد طرح مشروعا طال انتظارهم اياه بما فيه من مكاسب دنيوية وخلاص للروح. وتجسد هذ القبول والحماسة فى الصيحة المشهورة التى رددها الحاضرين "أى الرب يريدها"

· وظلت هذه هى الصرخة الرسمية للحروب الصليبية والتى يرددونها فى كل معاركهم ضد المسلمين.

·وسارع الكثيرون يقسمون امام البابا على القيام بالرحلة، كما اخذ كثيرون يخيطون صلبانا من القماش على ستراتهم

·وقد تم الاعتراف بجميع الفرسان الذين اقسموا على الذهاب، جنودا فى جيش الرب فى احتفال رمزى، وصار الصليب شارة لكل فارس فى كل حملة صليبية فهو علامة على الحماية الالهية بالاضافة الى تحوله الى شارة قانونية تدل على الامتيازات الدنيوية لان الكنيسة اصدرت مراسيم غاية فى الاهمية لصالح الصليبيين فاثناء فترة غيابه تعفى املاك الصليبى من الضرائب وقد يمنح تسهيلات فى ديون.

· ولقد حدثت استجابة سريعة من جانب الكثير من الفئات، فبدأ الغرب الاوروبى يتحرك كله استعدادا للخروج: " كافة ممالك الارض كانت تتحرك، لم يكن هناك منزل خال من المشاركين .... " على حد قول بعض شهود العصر.

***

المهندس عصمت سيف الدولة

الحملة الشعبية

على عكس رغبة البابا الذى وجه دعوته الى المحاربين من الفرسان والنبلاء، كانت اولى القطاعات استجابة هى العامة من الفلاحين والفقراء، الذين رأوا فى هذه الدعوة فرصة للتحرر من الاحباط والجوع و من نير القنانة وسيطرة السادة الاقطاعيين.

· فقد فاقت استجابتهم كل التوقعات فى فرنسا والاراضى الواطئة والمانيا وغرب ايطاليا.

وتكونت منهم حركة شعبية ارتبطت باسم "بطرس الناسك" وهو راهب هجر الدير بتكليف من البابا لكى يقوم بالدعوة الى الحملة الصليبية.

· وقد تحول بطرس الناسك فيما بعد الى اسطورة، فقد نسب اليه فضل اثارة الغرب الاوروبى لشن الحملة الصليبية ضد الشرق العربى الاسلامى واعتبره بعض المؤرخين نبى الحركة الصليبية.

·وتكونت الحملة الشعبية من آلاف الفلاحين الذين لم ينتظروا الموعد المتفق عليه فبداوا الزحف فى ربيع 1096.

·  وكان اول فرقة من حملات الفلاحين تحت قيادة شخص يدعى "والتر المفلس" وبدا اتباعه فى عمليات السلب والنهب فى اراضى بلغاريا، فقاتلهم البلغار وقتلوا العديد منهم.

· وفى 20 ابريل 1096 غادر جيش بطرس الناسك الاراضى الالمانية، وضم مئات من الافاقين والمجرمين وبنات الهوى والفلاحين والفقراء من اهل المدن فضلا على عدد صغير من الفرسان، متوجها شرقا الى القسطنطينية.

· وعند مدينة سملين على حدود المجر مع الامبراطورية البيزنطية كشف جيش الرب عن وجهه القبيح وجرت على سملين واهلها من المسيحيين مذبحة رهيبة وازهقت ارواح 4000 من ابناء المدينة.

· وتكررت الماساة فى مدينة نيش اذ قام جيش الصليبيين باحراق مساكن القرويين بسكانها الاحياء فى داخلها.

· فقامت الحامية البيزنطية بمهاجمة جيش بطرس الناسك وقتلت الكثيرين من رجاله، فتفرقوا بضعة ايام ثم تجمعوا مرة اخرى ووصلوا مشارف القسطنطينية فى اغسطس 1096 وعاثوا فيها فسادا فنهبوا واحرقوا وسرقوا. فنقلهم الامبراطور بسرعة الى آسيا الصغرى عبر المضايق وهناك ومرة اخرى ارتكبوا ابشع المذابح ضد السكان المسيحيين.

·وانتهى بهم الامر ان وقعوا فى شباك كمين أعده لهم الاتراك السلاجقة. وتم الاجهاز على الحملة الشعبية وقتل والتر المفلس وهرب بطرس الناسك الى القسطنطينية.

وكانت هذه البديات الاولى التى كشفت عن الوجه الحقيقى لجيش الرب.

...............................................

الحملة الاولى واغتصاب القدس

***

فى خضم احداث الحملة الشعبية الفاشلة، كانت البابوية والفرسان بصدد تجهيز حملة من نوع مختلف، وعلى اواخر صيف 1096 وبعد ان حلوا مشكلة التمويل كانت جيوشهم متأهبة للرحيل صوب فلسطين. وتكونت خمسة جيوش على اساس من التقسيمات اللغوية والجنسية وعلى اساس من الروابط الاقطاعية.

فقد تولى جودفرى البويونى قيادة الجيش الأول الذى جمعه من اللورين شمال فرنسا ومن الالمان، واشترك معه اخوه بلدوين.

اما الجيش الثانى فقد تكون من فرسان غرب فرنسا ونورماندى وبعض مناطق الشمال فضلا عن الكثير من الفرسان الانجليز وتولى قيادته دوق نورماندى المدعو روبرت وستيفن كونت بلوا.

اما الجيش الثالث فكان تحت قيادة ريمون الرابع كونت تولوز وتألف من فرسان جنوب فرنسا والبروفنسال وكان فى صحبته اديمار أسقف لوبوى والمندوب البابوى فى هذه الحملة.

وكان الجيش الرابع وهو أصغر الجيوش تحت قيادة هيو كونت فرماندوا المعروف باسم الاشغر وشقيق فيليب الاول ملك فرنسا.

والجيش الخامس والاخير تألف من المقاتلين النورمان الاشداء فى جنوب ايطاليا تحت قيادة بوهيموند النورمانى.

توجهت الجيوش الى القسطنطينية التى كان امبراطورها متوجس من نوايا جيوش الغرب الاوروبى المدعوم من الكنيسة الكاثوليكية. فأصر على عدم السماح بدخول القوات الصليبية المدينة والاكتفاء باستضافة القادة فقط مع اصراره ان يقسموا له يمين الولاء. وحدثت بالفعل بعض المناوشات العسكرية بين قوات الطرفين ولكنها انتهت بالتهدئة.

لتنتهى بذلك المرحلة الاولى من هذه الحملة، وتبدأ المرحلة الثانية بعبور الجيوش الصليبية مضيق البوسفور الى آسيا الصغرى ليجدوا نفسهم لاول مرة فى ارض "العدو".

***

اغتصاب عاصمة السلاجقة الروم:

فى السادس من مايو 1097 وصلت جيوشهم لمدينة نيقية (مقرها الآن مدينة اسيك التركية) عاصمة دولة السلاجقة الروم التى يحكمها قلج ارسلان. وبعد حصار مشترك صليبى بيزنطى سقطت المدينة فى 19 يونيو 1096.

وهزمت قوات قلج ارسلان فى معركة فاصلة فى بدايات شهر يوليو 1097، وقد توقفت بعدها كل مقاومة اسلامية منظمة.

***

اغتصاب الرها:

تلى ذلك سقوط امارة الرها على يد بلدوين القائد الصليبى من اللورين. وهى الآن مدينة تركية تاريخية تقع بالجزيرة الفراتية شمال شرق سوريا.

ولقد أفاد الصليبيون كثيرا، التشرذم السياسى للحكام العرب والسلاجقة فى المنطقة العربية.

***

اغتصاب انطاكية:

فى 21 اكتوبر 1097م  فرض الصليبيون الحصار على انطاكية وبعد صمود دام 8 شهور سقطت المدينة بتآمر بعض الارمن الذين فتحوا احد البراج التى كانت تحت حراستهم.

وحاول جيش فارسى بقيادة كربوقا صاحب الموصل انقاذ المدينة ولكنه فشل.

ولم تسقط المدينة فورا بعد اختراقها، الى ان اخترع ولفق أحد القساوسة حكاية عن رؤية مقدسة اخبرته عن مكان الحربة التى طعن بها المسيح منذ أحد عشر قرنا من الزمان، وربط بين العثور على هذه الحربة وبين النصر. وبطبيعة الحال تم العثور على هذه الحربة بسهولة مما ادى الى رفع معنويات الفرنج وتحقيق النصر على جيش كربوقا. ولم يكن هناك جيش اسلامى آخر يمكنه سد الطريق الى القدس.

تسلم بوهيموند النورمانى القلعة من قائدها احمد بن مروان، وبعد سلسلة من الصراعات والدسائس بين القادة الصليبيين، نجحوا فى تاسيس الامارة الصليبية الثانية على ارض الشرق فى مطلع سنة 1099.

***

اغتصاب القدس:

· وفى مصر كان الوزير الفاطمى الافضل بن بدر الجمالى يراقب الموقف، فحاول مفاوضة الصليبيين على اقتسام بلاد الشام. ولكنه لم يلقَ استجابة، فقرر ان يستفيد من هزيمة السلاجقة فاغار على فلسطين ونجح فى الاستيلاء على القدس عام 1099 م.

·وفى شمال بلاد الشام كانت الاسر العربية الحاكمة ترقب انهيار السلاجقة فى سرور، ولم يتدخل أحد لانقاذ انطاكية.

·وفى يناير 1099 واصل الصليبيون زحفهم الى القدس. وكان الامراء العرب المحليين غاية فى الضعف والتشرذم لدرجة ان معظمهم كانوا على استعداد لتقديم الهدايا والاموال تحاشيا لهجوم الصليبيين عليهم.

·اتخذ الصليبيون الطريق الساحلى من جنوب طرابلس وتوغلوا فى الاراضى الفاطمية وفرضوا حصارا على مدينة القدس لمدة خمسة اسابيع من 7 يونيو الى 15 يوليو 1099 وهو اليوم الذي سقطت وكان يوافق يوم جمعة.

·ولم ينج من سكانها سوى قائد الحامية الفاطمية "افتخار الدولة" وعدد من رجاله واعقب ذلك مذبحة فظيعة وابيحت المدينة للسلب والنهب والقتل عدة ايام وفاض الدم. وظلت الجثث مطروحة فى شوارع القدس عدة ايام.

·وفى هذا الجو الموحش الكئيب، اجتمع الصليبيون فى كنيسة القيامة لاداء صلاة الشكر. وهكذا تم زرع الكيان الصليبى فى الشرق العربى.

· وبعد سلسلة من الصراعات والمناورات السياسية تم اختيار "جودفرى البويونى" حاكما لبيت المقدس تحت لقب فضفاض هو "حامى الضريح المقدس".

· وفى 12 اغسطس 1099 حاول الافضل شاهنشاه امير الجيوش المصرية مهاجمة الصليبيين ولكنه هزم وعاد الى مصر.

·وبذلك تم تامين الوجود الصليبى فى بيت المقدس الى حين.

· وبعد وفاة جودفرى البويونى تم استدعاء بلدوين من امارته فى الرها ليتولى حكم بيت المقدس. وفى الخامس والعشرين من ديسمبر 1100 م قامت مملكة بيت المقدس الصليبية.

·وكانت فى ذلك الحين تتكون من مدينة القدس الى جانب يافا واللد والرملة وبيت لحم والخليل.

·وكان لها ظهير ريفى من المسلمين الذين رفضوا التعاون مع الصليبيين.

·وفى اوروبا توفى البابا اربان الثانى صاحب الدعوة الى هذه الحملة فى 29 يوليو 1099 قبل ان تصله انباء الاستيلاء على القدس وخلفه راهب شاب اعتلى العرش البابوى فى 14 اغسطس 1099 تحت اسم البابا "باسكال الثانى" والذي بدا عملية دعائية نشطة لمساعدة الصليبيين الذين نجحوا فى اقامة مملكة وامارتين فى بلاد المسلمين.

· وبالفعل كانت اخبار النجاح الذى احرزته الحملة الاولى قد شجعت عناصر اوروبية جديدة على القدوم الى الشرق العربى رغبة فى الحصول على نصيب من المغانم التى شاعت اخبارها فى الغرب الاوروبى مع العائدين من فلسطين.

***

مزيد من الدعم الصليبيى:

·وفى عام 1101 م تجمعت حملة جديدة فى الغرب الاوروبى لمساعدة صليبى الشرق.

·ومن لمبارديا تحركت الجموع الى القسطنطينية فى ذات الطريق الذى سارت فيه الحملة الاولى، وعند وصولهم بدأوا فى اثارة المتاعب الصليبية المعتادة، فاسرع الامبراطور البيزنطى بنقلهم الى آسيا الصغرى وهناك لحقت بهم الجيوش الالمانية والفرنسية.

· ولكن تصدت لهم الجيوش الاسلامية بقيادة قلج ارسلان سلطان سلاجقة الروم ورضوان امير حلب والغازى امير سيواس والحقوا بهم الهزيمة.

***

التوسع الصليبى:

· ومن ناحية أخرى بدأ الصليبيون يمدون نفوذهم بين الاراضى والموانىء التى كانت تفصل بين النقاط المتناثرة التى استولوا عليها.

· فاستولوا عام 1101 م على سروج وحيفا وارسوف وقيسارية.

·واستولوا عام 1103 م على اللاذقية من البيزنطيين.

·وعلى عكا عام 1104 م.

· ثم على طرابلس عام 1109 م بعد حصار دام سبع سنوات، لتكون هى الامارة الصليبية الثالثة بعد الرها وأنطاكية.

·وبذلك تمكن الصليبيون من فرض سيطرتهم على كل الساحل فيما عدا صور وعسقلان التى لم تسقط الا عام 1153 م.

· وهكذا اسفرت الحملة الصليبية الاولى عن قيام مملكة فى القدس وثلاثة امارات صليبية فى الرها وانطاكية وطرابلس.

****

بدايات الوحدة والمقاومة والتحرير


المحاولات الأولى:
· فى عام 1101 م نجح تحالف الجيوش الاسلامية تحت قيادة قلج ارسلان سلطان السلاجقة الروم، ورضوان امير حلب، والغازى امير سيواس، فى ايقاع الهزيمة بالحملة الصليبية القادمة من لمبارديا.
· ومن ناحية أخرى فشل الفاطميون رغم محاولاتهم المتعددة، فى استرداد املاكهم من الصليبيين. ولكنهم استغلوا قاعدتهم فى عسقلان فى شن هجمات عديدة ضد الصليبيين فى الاعوام 1101 و1102 و1105 والتى كلفت الصليبيين الكثير من الخسار البشرية والمادية.
· كما ان المقاومة الاسلامية فى الشمال لم تتوقف من جانب السلاجقة الذين نجحوا فى اسر عدد من القادة الصليبيين مثل بوهيموند وبلدوين وجوسلين.
· كما نجحوا عام 1104 م فى الحاق هزيمة كبيرة بالصليبيين فى معركة حران.
· ولكن بعد احكام الصليبيين لسيطرتهم على الساحل فيما عدا صور وعسقلان، شعرت امارة دمشق بالخطر فبدأ اميرها طغتكين محاولات التحالف مع مودود حاكم الموصل ولكن محاولاته باءت بالفشل بسبب المنازعات بين العناصر العربية والعانصر التركية فى بلاد الشام.
· كما ان السلاطين السلاجقة كانوا اكثر اهتماما بفارس اكثر من بلاد الشام.
***
الراى العام العربى والاسلامى
· فى هذا الوقت بدأ يتشكل راى عام غاضب بين عامة الناس فى العالم العربى الاسلامى، تجاه العدوان الصليبيى والمذابح التى ارتكبوها، يقوده الفقهاء والعلماء. وبدأت تتردد الدعوة الى الجهاد وتحرير بيت المقدس.
· فى رحم هذه الحركة القوية تبللورت اتجاهات المقاومة العربية الاسلامية ضد الصليبيين.
· فى هذه الاجواء وفى عام 1113 شنت جيوش المسلمين من دمشق والموصل وسنجار وماردين هجوما على الصليبيين ونجحت فى تدمير جيشهم تماما بالقرب من طبرية.
· ولكنهم لم ينجحوا فى حصد نتائج انتصارهم لاغتيال مودود اتابك الموصل على يد أحد الباطنية بالاضافة الى وفاة رضوان امير حلب.
· وفى عام 1118 حاول بلدوين ملك بيت المقدس غزو مصر ولكنه مرض مرضا عضالا فعاد الى فلسطين ليلقى حتفه هناك.
· ولتنتهى بذلك مرحلة التوسع الصليبيى التى قادها هذا الملك.
· ولتبدأ "مرحلة التوازن" بين الجبهة الاسلامية فى الشمال وبين الصليبيين، وبدأت الانظار تتوجه الى الدولة الفاطمية.
***
بدايات الوحدة والمقاومة والتحرير:
· فى 1127 ظهر القائد عماد الدين زنكى ونجح فى فتح الموصل ليواصل حركة الجهاد والمقاومة التى بدأها مودود قبله على محور الموصل/حلب.
· وسرعان ما صار اقوى حاكم مسلم فى زمانه لانه طوع قدرته وموارده العسكرية فى خدمة الطلب العربى الاسلامى العام وهو الجهاد ضد الصليبيين.
· وشيئا فشيئا تمكن من التغلب على النعرات الانعزالية فى كل بلاد الشام والعراق والجزيرة: ففتح حلب عام 1128 وحماة عام 1129 الى ان استولى على حمص 1143م.
· وهو ما أهله لتوجيه ضربته الكبرى للصليبيين، بتحرير الرها عام 1144م، بعد حصار دام 28 يوما فقط
· والرها كما نعلم هى اول امارة صليبية تقوم على ارض الشرق العربى الاسلامى.
· وقد تسبب سقوطها فى صدمة نفسية عنيفة للصليبيين، ترددت اصداؤها فى كل مكان. فلقد تم تحريرها بعد اقل من خمسين عاما من استيلاءهم عليها.
· وبذلك اصبح وادى الفرات كله منطقة اسلامية، كما ضمن للمسلمين السيطرة على طرق المواصلات التى تربط بين شمال الشام والعراق والجزيرة.
***
فشل الحملة الصليبية الثانية:
· وعلى اثر ذلك استنجدت وفود من الارمن ومن فرنجة الشرق بالبابا ايجينوس الثالث 1145-1153.
· وبالفعل تشكلت حملة صليبية جديدة وهى ما عرفت باسم الحملة الثانية، ضمت قوات كل من كونراد الثالث امبراطور المانيا، ولويس السابع ملك فرنسا اللذين اخذا شارة الصليب نتيجة سقوط الرها فى ايدى قوات عماد الدين زنكى، ووصلا الى المنطقة نهاية عام 1147 اوائل عام 1148. وكان مصيرهما هزيمة فادحة على ايدى المسلمين.
· وكان عماد الدين زنكى قد اغتيل عام 1146 على يد بعض خدمه، مما دفع الصليبيين الى محاولة استرداد الرها، الا ان ولده نور الدين محمود تصدى لهم.
· ثم حاولت الجيوش الفرنسية والالمانية شن هجوم على دمشق ولكنها باءت بالفشل.
· وكان من نتيجة ذلك ان وقعت دمشق فى يد نور الدين محمود عام 1154، بعد ان كان حاكمها السابق أنر يستنجد بالصليبيين فى المرات السابقة.
· وتم توحيد الجبهة الشمالية تحت قيادة نور الدين.
· وكان من نتيجة تماسك هذه الجبهة وتوالى هجمات المسلمين على الصليبيين. ان اتجهت انظارهم الى الجبهة الجنوبية الضعيفة، جبهة مصر التى كانت تعانى ضعفا سياسيا مزمنا تحت حكم الخلافة الفاطمية.
*****    

دور مصر وصلاح الدين الأيوبى وتحرير بيت المقدس والحملة الصليبية الثالثة بقيادة الملك الانجليزى ريتشارد الأول، الشهير بريتشارد قلب الأسد.

بعد تحرير الرها على أيدى عماد الدين زنكى عام 1144، ووقوع دمشق فى ايدى نور الدين محمود عام 1154 م، و تماسك الجبهة الشمالية العربية الاسلامية فى مواجهة الصليبيين، بدأت انظارهم تتجه الى مصر حيث ساد الضعف السياسى الشديد فى السنوات الأخيرة من حكم الخلافة الفاطمية.
وكان اتحاد حلب ودمشق تحت حكم نور الدين قد جعل من غزو مصر الحل الوحيد لنجدة الصليبيين. خاصة وانها بمواردها البشرية والاقتصادية الكبيرة كفيلة بترجيح كفة من يستولى عليها أو يضمها الى جانبه، ولقد خشى الصليبيون بان تقع فى يد نور الدين هى الأخرى، فقرروا ان يأخذوا بزمام المبادرة.

***
الوضع فى مصر:
· كانت مصر تحت حكم الخلافة الفاطمية منذ 969 م.
· ومع قدوم الحملة الصليبية الاولى كان الدولة الفاطمية اشبه بالرجل المريض الذى ينتظر الجميع نهايته والاستيلاء على تركته.
· وكان الصليبيون قد نجحوا عام 1153 م فى الاستيلاء على مدينة عسقلان من المصريين والتى كانت تمثل تهديدا لوجودهم فى فلسطين.
· اما داخل مصر فمنذ وزارة بدر الدين الجمالى عام 1073 م صار الوزراء هم اصحاب السلطة الحقيقية وأصبح الخلفاء الفاطميين ألعوبة بايديهم.
· وبعد اغتيال الأفضل بن بدر الجمالى عام 1121 م دخلت البلاد فى دوامة من المؤامرات والدماء لم تنته.
· والتى كان من آثارها انه فى عام 1163 م، نشأ نزاع على كرسى الوزارة فى مصر بين رجلين هما ضرغام وشاور، وقد هرب الأخير الى الشام يستنجد بنور الدين محمود، من ضرغام الذي نجح فى الانفراد بالحكم.
· وفى نفس العام 1163 م توفى بلدوين الثالث ملك بيت المقدس، وخلفه أمارلريك الأول (عمورى)
· وتحت حجة عدم دفع مصر للجزية التى تقررت عليها فى عهد سلفه، قام امالريك 1163 بعبور برزخ السويس وحاصر مدينة بلبيس.
· ولكن تصدى له ضرغام، وقطع جسور النيل بحيث شكلت مياه الفيضان واوحال الدلتا عائقا رهيبا جعل الصليبيين يعودون الى فلسطين.
· ورغم هذا الموقف من ضرغام، الا انه عندما علم ان نور الدين محمود قد قرر دعم شاور فى استرداد كرسى الوزارة فى مصر، فانه هو الذى قام بطلب دعم الصليبيين، الذين لم يترددوا واطلقوا حملة صليبية جديدة بقيادة ملكهم أمالريك الى مصر.
· وكان نور الدين قد ارسل حملة الى مصر لدعم شاور، بقيادة أسد الدين شيركوه وبرفقته إبن أخيه الشاب ذو السبعة وعشرين ربيعا صلاح الدين يوسف الايوبى. وقد نجحت الحملة فى دخول مصر واعادة شاور الى كرسى الوزارة.
· ولكن شاور هو الذى قام هذه المرة بالاستنجاد بالملك الصليبيى للتخلص من نفوذ أسد الدين شيركوه. والذى استجاب فورا وهاجم مصر.
· وخلال السنوات 1163 – 1169 قام الملك الصليبى بغزو مصر خمس مرات.
· وبعد سلسلة من المعارك انتهى الأمر بانتصار جيوش أسد الدين شيركوه واستتباب الأمر له فى مصر.
· وكانت المحاولة الأخيرة لهذا الملك الصليبى عام 1169 عندما فشلت حملته المشتركة مع البيزنطيين على مصر، بعد ان حاصر ميناء دمياط 50 يوما.
· وفى خضم هذه الأحداث قتل كل من ضرغام وشاور.
· وأصبح أسد الدين شيركوه وزيرا للخليفة العاضد الفاطمى.
· وبعد موته عام 1169 تولى صلاح الدين الوزارة.
***
صلاح الدين يحرر القدس:
· وفى 10 سبتمبر 1171 م أعلن صلاح الدين نهاية الخلافة الفاطمية واعادة مصر الى الخلافة العباسية.
· وفى هذه الأثناء كانت دولة نور الدين محمود قد اتسعت لتشمل خمس عواصم هى دمشق والرها وحلب والموصل ثم القاهرة.
· ولكن وافته المنية عام 1174، وتلاه الملك الصليبى امالريك فى نفس العام، وخلت الساحة لصلاح الدين، والذى استطاع بعد سلسلة من المنازعات والصراعات اعلان نفسه ملكا على مصر والشام بمباركة الخليفة العباسى عام 1175 م.
· وقضى صلاح الدين فى مصر ستة سنوات 1176-1181 لترتيب الاوضاع الداخلية فى مصر والشام، استعدادا للحرب ضد الصليبيين، متجنبا قدر الامكان اى مواجهة كبيرة معهم قبل الأوان.
· وطوال هذه الفترة، لم تتوقف غارات الصليبيين على مصرعبر سيناء، وبل انهم وصلوا فى أحد غزواتهم الى بحيرة البردويل.
· وحاول رينالد دى شاتيون أمير الكرك ان يقتحم البحر الأحمر ويغزو مكة والمدينة وهاجم بالفعل بعض موانىء مصر والحجاز، ولكن الاسطول المصرى سحق اسطوله تماما.
· وبعد مرحلة الاستعداد قرر صلاح الدين بدء عملياته ضد الصليبيين، وكانت قمة انتصاراته فى 4 يوليو 1187 فى موقعة حطين الشهيرة، والتى أدت الى فقدان مملكة بيت المقدس لقواتها العسكرية الرئيسية، وتم تدمير أكبر جيش صليبى أمكن جمعه منذ قيام الكيان الصليبى.
· وبعد حطين كانت الأمور أشبه بنزهة عسكرية، اذ سارعت المدن والقلاع الصليبية الى الاستسلام واحدة تلو الأخرى، فتحررت عكا ويافا وبيروت وجبيل ثم عسقلان وغزة.
· وفى 27 سبتمبر 1187 دخل صلاح الدين المدينة المقدسة وحررها بصورة انسانية تناقض وحشية الصليبيين حين غزوها قبل بضع وثمانين سنة. واقيمت خطبة الجمعة فى المدينة المحررة بعد أن ظلت ممنوعة طويلا.
· ولم يتبق بايدى الصليبيين سوى صور وأنطاكية وطرابلس وبعض القلاع والحصون المتناثرة على الارض العربية فى بلاد الشام.
· وجاء رد الفعل الصليبى عنيفا، فمات البابا اربان الثالث من هول الصدمة حين بلغته الأنباء. وبعث خليفته البابا جريجورى الثامن خطابا بابويا الى " كل المؤمنين فى الغرب " ووعدهم بغفران كامل لخطاياهم اذا شاركوا فى حملة صليبية جديدة، وفرض صياما كل يوم جمعة على مدى خمس سنوات قادمة، والامتناع عن أكل اللحم فى أيام السبت والأربعاء.
· وتم فرض ضريبة مقدارها 10 % على كل دخل وعلى الأملاك المنقولة، عرفت باسم " عشور صلاح الدين".
***
الحملة الصليبية الثالثة :
· واستلم شارة الصليب كل من الامبراطور الالمانى فردريك بربروسا والملك الانجليزى ريتشارد الاول والملك الفرنسى فيليب اغسطس.
· وفى 11 مايو 1189 تحركت قوات الامبراطور الالمانى عبر ذات الطريق البرى الذى سارت فيه من قبل الحملة الاولى، ولكنه لقى حتفه غريقا فى أحد انهار آسيا الصغرى عام 1190، واكتفت قواته بعدها بمشاركة رمزية فى هذه الحملة.
· اما الملكين الانجليزى والفرنسى فتوجها بحرا الى صقلية ثم الى فلسطين، وفى الطريق انتزع الملك ريتشارد قبرص من الحكم البيزنطى.
· وكانت بقايا جيوش الصليبيين فى الشرق قد تجمعت فى مدينة صور. وبدأت الجيوش والامدادات الاوروبية تفد الى بلاد الشام.
· وفى المعارك الاولى سقطت عكا فى يد الصليبيين عام 1191، وعاد فيليب اغسطس الى فرنسا.
· بدأ ريتشارد بعد سقوط عكا يعد للاستيلاء على شاطئ فلسطين من عكا إلى عسقلان، فاستولى الصليبيون على حيفا التي أخلتها حاميتها الإسلامية، ثم على قيسارية التي خربها المسلمون حتى لا ينتفع بها الصليبيون، وفي أثناء ذلك فتح ريتشارد باب المفاوضات مع صلاح الدين، ولكنها فشلت بسبب تمسك ريتشارد بأن تعود مملكة بيت المقدس الصليبية إلى ما كانت عليه قبل حطين. ثم نشبت بين الطرفين معركة أرسوف 7 من سبتمبر 1191م، والتى انتصر فيها الصليبيون. ثم اتجه ريتشارد إلى القدس، ولكنه فشل فى الاستيلاء عليها.

***
صلح الرملة :
وبعد 16 شهرا قضاها الملك الانجليزى فى حروبه ضد المسلمين، اضطر فى النهاية الى عقد صلح الرملة مع صلاح الدين عام 1192، وهو الصلح الذى ابقى الوضع على ما كان عليه. وقد نص على ما يلى:
· أن يسود السلام بين الفريقين ثلاث سنوات وثلاثة أشهر.
· أن يكون للصليبيين المنطقة الساحلية من صور إلى يافا، بما فيها قيسارية وحيفا وارسوف، وتبقى صيدا وبيروت وجبيل للمسلمين.
· تكون عسقلان مدينة غير مسلحة في أيدي المسلمين.
· تكون اللد والرملة مناصفة بين المسلمين والصليبيين.
· تبقى القدس في أيدي المسلمين على أن يكون للمسيحيين حرية الحج إلى بيت المقدس دون مطالبتهم بأية ضريبة.
بعدها، أعلن صلاح الدين أن الصلح قد انتظم، فمن شاء من بلادهم أن يدخل بلادنا فليفعل ومن شاء من بلادنا أن يدخل بلادهم فليفعل.
***
وفى 4 مارس 1193 انتقل صلاح الدين الى جوار ربه، بعد أن سطر سلسلة من الانجازات والانتصارات، ما زالت تمثل مرجعية والهاما لكل الراغبين فى التحرر والنصر على مدار الأجيال و حتى يوما هذا.
ولكن ظل للصليبيين وجودا فى الشام، وظل خطر قدوم حملات صليبية جديدة قائما، ومر قرن آخر قبل ان يتمكن العالم العربى الاسلامى من تحقيق التحرير الكامل والتام للارض المحتلة.

انهيار المشروع الصليبيى واستكمال التحرير بقيادة مصر

الحملة الرابعة 1204 م:

· بعد صلاح الدين، تفسخت دولته بين الورثة من ابناء البيت الأيوبي، وهو ما جاء نعمة على ما تبقى من الوجود الصليبى فى لبنان وفلسطين، وتمتعت مملكة بيت المقدس الوهمية التى اصبحت عاصمتها عكا بفترة سلام قاربت العشر سنوات.
· وفى عام 1200 م تولى السلطان العادل الايوبى منصب السلطنة الايوبية فى القاهرة.
· اما فى اوروبا، فلقد أدرك البابا والغرب ومعهم الصليبيون فى الشرق ان الاستيلاء على مصر هو الخطوة المنطقية والضرورية لتامين وجودهم فى بلاد الشام.
· لقد بات غزو مصر بكل مواردها، قضية منطقية وضرورة حربية لضمان الاستيلاء على ما استرده صلاح الدين من مملكة بيت المقدس اللاتينية.
· واخذ البابا انوسنت الثالث 1198/1216 على عاتقه مهمة الدعوة الى حملة صليبية جديدة يكون هدفها مصر.
· وبالفعل بدات الاستعدادات لتجميع هذه الحملة وتم الاتفاق مع جمهورية البندقية لكي تقوم اساطيلها البحرية بنقل القوات.
· وفى سنة 1201 م تحركت الجيوش الى البندقية لكي تنقلها السفن الى الشواطئ المصرية.
· ولكن بدلا من ذلك، انحرفت هذه الحملة، واتجهت عام 1202 م الى حصار القسطنطينية العاصمة المسيحية، بدلا من القاهرة العاصمة الاسلامية.
· وفى 24 يونيو 1203 رسا الاسطول فى مياه خلقدونية قبالة القسطنطينية.
· وفى اول مارس 1204 كانوا يرسون دعائم دولة جديدة تحل محل الامبراطورية البيزنطية بموجب معاهدة فصلوها على اهوائهم.
· وفى 23 ابريل 1204 تم اقتحام المدينة وتركت عرضة للنهب والمذابح الصليبية على مدى ثلاثة ايام مرعبة.
· وهكذا انتهت الحملة الصليبية الرابعة.
· ولكن بعض الصليبيين الذين لم يعجبهم انحراف الحملة عن وجهتها الاساسية، قد واصلوا الطريق حتى شواطىء الشام وهناك تعاونوا مع المستوطنين الصليبيين لشن هجوم هزيل ضد مدينة رشيد ومدينة فوة المصريتين وقد ظلوا فى حصارهم خمسة ايام من عام 1204م، ثم انسحبوا.
· وسرعان ما أدرك الصليبيون فى عكا استحالة قدوم حملة صليبية من الغرب لنجدتهم، فسعى امالريك الثالث ملكهم لعقد هدنة مع السلطان العادل الايوبى الذى رحب بذلك نظرا لازدهار التجارة ومكاسبها فى حالة السلم وبسبب متاعبه الداخلية مع بقية الايوبيين من ناحية اخرى.
· وبالفعل تم عقد هدنة مدتها ست سنوات فى اواخر 1204.

***

حملة الاطفال 1212 م:
· كرد فعل شعبى فى اوروبا الغربية على فشل البابوبة وحكام اوروبا فى استرداد مدينة القدس، خرجت حملة من نوع عجيب عرفت بصليبية الاطفال.
· ففى عام 1212 م ظهر صبى فرنسى فى الثانية عشرة من عمره اسمه ستيفين، ادعى ان العناية الإلهية اختارته لقيادة حملة من الاطفال الابرياء لاسترداد القدس التى فشل الملوك والامراء والبابا فى استردادها بسبب ذنوبهم.
· ونحج ستيفين بالفعل فى اجتذاب بضعة مئات من اطفال فرنسا وعدد من صغار القساوسة وتوجهوا الى مرسيليا فى انتظار ان ينشق البحر امامهم فى معجزة مثل تلك التى حدثت للنبى موسى عليه السلام، وتكررت نفس الحكاية فى المانيا تحت قيادة صبى اسمه نيقولا، ولكن لم يعلم احد ماذا حدث بعد ذلك لهذه الحملة العجيبة.
***
الحملة الخامسة 1218م:

فى عام 1215م وبسبب ضعف المستوطنات الصليبية وسوء حالها منذ معركة حطين، دعت البابوية وبعض القوى فى غرب اوروبا الى حملة جديدة هدفها مصر للاسباب الاتية:
اولا ـ رغبة المدن التجارية الايطالية الممول الرئيسى للحملة فى السيطرة على تجارة المتوسط وضرب المنافسة المصرية فى عقر دارها بالسيطرة على ميناء دمياط اهم موانئ شرق المتوسط آنذاك.
وثانيا ـ بداية تبللور واستقرار عقيدة سياسية وعسكرية صليبية جديدة مؤداها ان هزيمة مصر او تحييدها على الأقل خير ضمان لبقاء المستوطنات الصليبية.
ثالثا ـ استرداد الشرف العسكرى الذى تمرغ بعد هزيمتهم فى حطين وفقدانهم للقدس.
· وبالفعل بدأت هذه الحملة فى الوصول الى عكا.
· وفى مايو من عام 1218 م وصلت قواتهم قبالة دمياط وحاصرتها.
· فعرض عليهم السلطان الكامل الجلاء عن مصر مقابل أن يأخذوا الصليب المقدس وان يمتلكوا مدينة بيت المقدس ووسط فلسطين والجليل وان يدفع المسلمون جزية عن الحصون التى تبقى بايديهم.
· ورغم هذا العرض الكريم والسخى والمتخاذل، فان الصليبيين رفضوه.
· وفى 5 نوفمبر 1219 سقطت دمياط فى ايديهم.
· وفى صيف 1221 م واثناء تقدمهم الى فارسكور، بدأ فيضان النيل وفتحت الجسور واغرقت كل الطرق امام الجيش الصليبيى.
· وتقدم الجيش المصرى وحرر دمياط فى سبتمبر من سنة 1221م.
· ولقد استمرت هذه الحملة 4 سنوات وانتهت بالفشل.
· ولقد كان فشلها، هو فشل للبابوية وانتقاصا من هيبتها، فلقد كانت هى الداعية الرئيسية الى هذه الحملة.
***
الحملة السادسة ، الحملة العجيبة 1228 م ، والتنازل طواعية عن القدس!
· استغل الامبراطور الالمانى فردريك الثانى والذى عرف باسم اعجوبة الدنيا، الروح السلمية للسلطان الكامل، فتبادل معه المراسلات ضد رغبة البابا.
· وقد اسفرت هذه المراسلات عن قدوم الامبراطور الى فلسطين عام 1228 م وفى صحبته جيش صغير من الفرسان قوامه ستمائة فارس فقط واسطول هزيل، واستطاع رغم ذلك وبدون قتال، ان يوقع مع السلطان الكامل هدنة مدتها عشر سنوات على اساس ان يتسلم الامبراطور الالمانى مدينة القدس وبيت لحم وشريط من الارض يصل بين عكا والقدس ويبقى فى حوزة المسلمين المسجد الاقصى وقبة الصخرة والمناطق الريفية، وفى المقابل يتعهد فردريك بمنع اى حملة صليبية من اوروبا لمدة عشر سنوات.
· وبالفعل توج نفسه ملكا على مملكة بيت المقدس الصليبية، وعاد الى اوروبا فى يونيو1229، بمكاسب لم تستطع اى حملة اخرى قبله ان تحققها منذ الحملة الأولى فى اواخر القرن الحادى عشر الميلادى.
· وثار العالم العربى الاسلامى واعتبر هذه الهدنة كارثة حقيقية، وظهر رد فعل شعبى عنيف ضد السلطان الكامل.
· وفى عام 1239 م مات السلطان الكامل، وبعد سلسلة من الحروب الاهلية بين الايوبيين فى مصر وبلاد الشام والجزيرة، اعتلى ابنه الصالح نجم الدين ايوب عرش السلطنة فى القاهرة عام 1240 م

***
التحرير الثانى للقدس 1244م:

· اتاحت هذه الهدنة فرصة جيدة للصليبيين وزعماء الغرب الاوروبى لكى يستعدوا لجولة عسكرية جديدة ضد المسلمين.
· وفى عام 1239 انطلقت حملة جديدة صغيرة استجابة لدعوة البابا جريجورى التاسع ووصلت الى عكا.
· وفى نوفمبر 1239 التقى جيش الصليبيين المكون من ألف فارس مع الجيش المصرى قرب غزة، وهُزم الصليبيين.
· ومن ناحية أخرى هجم الملك الناصر داود الايوبى حاكم الكرك على بيت المقدس واستعادها من الصليبيين عام 1239
· و لكن نشأ صراعا بين حكام المسلمين ، فتحالف الناصر داود و حكام دمشق وحمص مع الصليبيين ضد الصالح ايوب سلطان مصر، وتنازلوا لهم عن طبرية وعسقلان، ومكنوهم من الصخرة بالقدس، فجلسوا فوقها يحتسون الخمر وعلقوا جرس على المسجد الأقصى.
· وفى عام 1244 م تمكن السلطان الصالح نجم الدين ايوب من أخذ بيت المقدس بواسطة الخوارزمية
· وكانت تلك هى الاستعادة الأخيرة لبيت المقدس التى ظلت بيد المسلمين العرب طوال سبعة قرون قبل ان يدخلها جيش اوروبى آخر وقبل ان يحتلها الصهاينة.

***
الحملة السابعة والأخيرة 1249م:
· وكان رد الفعل الاوروبى سريعا، ففى عام 1245بدأ التنسيق بين الملك الفرنسى لويس التاسع وبين البابا انوسنت الرابع بشأن التجهيز لحملة صليبية جديدة هدفها استرداد بيت المقدس من الخوارزمية، وتكوين حلف مغولى مسيحى بهدف تطويق العالم الاسلامى والقضاء عليه. وهو المشروع الذى فشل بسبب الحلم المغولى بالانفراد بالسيادة على العالم.
· وفى خريف 1248 أبحر الاسطول الصليبيى من ميناء مرسيليا الفرنسى الى قبرص ومنها تجاه الشواطىء المصرية فى مايو 1249
· وفى 4 يونيو نزل الصليبيين قبالة دمياط، التى سقطت بدون قتال تحت تاثير شائعة ان سلطانهم المريض قد مات.
· وكان السلطان قد قام بنقل معسكره الى مدينة المنصورة التى كانت قد خرجت الى الوجود قبل ثلاثين عاما فقط.
· ونشطت المقاومة ضد الصليبيين، وجاء قوات عربية أخرى من بلاد الشام لنصرة المصريين
· وفى خضم ذلك توفى السلطان نجم الدين ايوب واخفت زوجته شجرة الدر نبأ وفاته لكى لا تتأثرمعنويات الجيش
· وتوجهت القوات الصليبية الى المنصورة، ولكن الامير بيبرس البندقدارى الذى صار فيما بعد السلطان الظاهر بيبرس تصدى للصليبيين واوقع بهم هزيمة فادحة فى معركة رهيبة قرب مدينة فارسكور فى فبراير 1250 م
· وتم اسر لويس التاسع ونقل الى دار ابن لقمان القاضى بالمنصورة وأفرج عنه بعد فترة بعد ان افتدى نفسه بفدية كبيرة.
· ولقى لويس التاسع حتفه بعد ذلك فى مغامرة صليية جديدة فى تونس.
· وكانت الحملة السابعة بقيادة لويس هى آخر جهد اوروبى ضد مصر فى تلك المرحلة من العصور الوسطى
***

انهيار المشروع الصليبى:
· اخذ الوجود الصليبيى بعد ذلك يتلاشى رويدا رويدا:
· فبعد ان وحد الظاهر بيبرس مصر والشام، نجح عام 1265 بعد دخوله فى عمليات حربية واسعة فى تحرير قيسارية ثم ارسوف.
· وصفد عام 1266.
· وفى 1268 استولى على يافا.
· وحرر انطاكية فى عام 1268 م بعد احتلال دام 150 عاما وكان ذلك اكبر انتصار حققه المسلمون على الصليبيين منذ ايام حطين واسترداد بيت المقدس، وكان الفرح عظيما.
· ثم عقد هدنة مع ملك عكا الصليى مقابل التنازل عن نصف املاك التاج الصليبى فى عكا
· وفى عام 1271 عقد هدنة مع ملك طرابلس الصليبى بوهيموند السادس بسبب قدوم حملة صليبية جديدة الى عكا تحت قيادة الامير ادوارد الانجليزى.
· وفى 1285 م استولى السلطان المنصور قلاون على حصن المرقب.
· وفى 1287 حرر اللاذقية، وهى آخر ما تبقى من امارة انطاكية الصليبية التى حررها بيبرس.
· وفى ابريل 1289 حرر طرابلس ثم بيروت وجبلة، وانحصر الصليبيون فى عكا وصيدا وعثليت.
· وبدأ الفصل الأخير فى هذه المواجهة المضنية الطويلة بتولى الأشرف خليل بن المنصور قلاون حكم البلاد.
· ونجح عام 1291 م فى تحرير عكا بعد حصار استمر 43 يوما وبعد أسر دام 103 سنة.
· وبعد عكا سقطت بقية المدن والمعاقل الصليبية تباعا، ودالت دولة الصليبيين فى فلسطين الى غير رجعة.
· وعلى الرغم من ان بقايا الصليبيين فى قبرص ورودس ظلوا مصدر ازعاج فى القرنين التاليين الرابع عشر والخامس عشر الا ان قصتهم فى المنطقة العربية قد انتهت على امتداد خمسة قرون تالية.

(8) آثار الحروب الصليبية على العالمين العربى والاسلامى

هذه هى الحلقة الثامنة والأخيرة من هذه السلسلة، التى نتناول فيها كتاب ماهية الحروب الصليبية للدكتور/ قاسم عبده قاسم الذى رحل عن عالمنا فى الاسابيع الماضية. وكنا قد تناولنا فى الحلقات السبع السابقة: الأيدلوجية الصليبية، والظروف التاريخية والدوافع، وخطبة البابا والاستجابة الشعبية، والحملة الاولى واغتصاب القدس، وبدايات الوحدة والمقاومة والتحرير، ومصر وصلاح الدين والحملة الثالثة، وانهيار المشروع الصليبى(مرفق روابطها أسفل المقال).
***
وربما تكون هذه هى الحلقة الاهم فى هذه السلسلة حيث ان موضوعها هو الآثار التى خلفتها هذه الحروب على العالمين العربى والاسلامى، لكن قبل ان نستعرض ما ورد فى الكتاب فى هذا الشأن فإنى أود أن أطرح أهم "خمس" نتائج لهذه الحملات العدوانية لا تزال آثارها ممتدة حتى اليوم:
النتيجة الاولى والاهم على الاطلاق فى تصورى هى انه قد تم اختبارنا فى ملكيتنا لهذه الارض واختصاصنا بها دونا عن باقى شعوب الارض، بعد ان نجحنا فى تحريرها واسترداد كل الاراضى والمدن التى تم احتلالها بعدما يقرب من مائتى عاما من القتال والمقاومة. ليثبت ويتأكد لدى الغرب الأوروبى ولكل أمم العالم، ان هذه الأرض هى ارض عربية، وأن هناك بالفعل أمة عربية وليدة ومكتملة التكوين قد خرجت للوجود منذ الفتوحات الاسلامية، أمة لم يعد من الممكن افنائها أو اندثارها أو انتزاع أوطانها او طرد شعوبها، على غرار ما حدث لعديد من الاقوام والجماعات والقبائل والشعوب التى كانت تعيش فى هذه المنطقة فى العصور القديمة ولكنها اندثرت او انصهرت فى كيانات أكبر، كالفراعنة والفينيقيين والأموريين والكنعانيين والعبرانيين والبابلين والآشورين وغيرهم.
***
النتيجة الثانية هى ثبوت وترسخ حقيقية تاريخية واستراتيجية وجيوسياسية لا تزال تعيش معنا حتى اليوم وهي أن الاطماع الاستعمارية الأوروبية فى بلادنا، التى لم تتوقف منذ الاسكندر الاكبر والرومان والبيزنطيين، مرورا بالحروب الصليبية وانتهاءا بالحملة الاستعمارية الثالثة على الامة 1798-2021، هى عقيدة غربية ثابتة وليست سياسات طارئة أو متغيرة، خاصة بعد ان أصبح الغرب هو معقل الامبريالية العالمية.
***
النتيجة الثالثة هي اكتشاف وادراك المكانة الخاصة التى أصبحت تمثلها مصر فى الدفاع عن الأمة العربية، حيث كانت هى الصخرة الرئيسية التى تكسرت عليها الحملات الصليبية وحالت دون توسع المشروع الصليبيى او بقاءه. وهى الحقيقة الجديدة التى أدركها العرب والمسلمون كما أدركها الغرب، وتم تسجيلها فى أرشيفه وذاكرته الاستعمارية التاريخية. ولذلك حين أراد نابليون بعد خمسة قرون من هزيمة الصليبيين، ان يخترق الشرق لضرب المصالح البريطانية فى الهند، فانه اختار ان يبدأ بمصر فى حملته الشهيرة 1798 ـ 1801. وهو ما تكرر بضرب دولة محمد على الوليدة للحيلولة دون وراثتها لمكانة الدولة العثمانية المريضة واجباره على توقيع معاهدة لندن 1840 التى قامت بعزل مصر عربيا واسلاميا، ثم تكرر مرة ثالثة بعد الحرب العالمية الثانية حين أراد قادة الاستعمار الغربى تثبيت الكيان الصهيونى فى فلسطين فوجهوا ضرباتهم الرئيسية والمتتالية الى مصر فى 1956 و1958 و1967، ثم استماتوا بعد حرب 1973 لانتزاعها من محيطها العربى باتفاقيات كامب ديفيد عام 1978. وهو ما نجحوا فيه بجدارة الى حين.
***
النتيجة الرابعة كانت هى التراجع الكبير للمذهب الشيعى لصالح المذهب السنى، الذى استرد مكانته وريادته وانتشاره فى مصر والمنطقة كلها بسبب اقترانه بقيادة حروب التحرير ضد الحملات الصليبية، التى عجزت عن صدها الدولة الفاطمية، بل سقط حكامها فى التواطؤ مع الصليبيين، وهو درس تاريخى هام، لا يجب أن يغيب عن الحكام والمفكرين والسياسيين وصناع القرار من العرب والمسلمين فى زمننا المعاصر.
***
النتيجة الخامسة بالغة الأهمية هى ان الانتصارات الكبرى التى حققها العرب والمسلمون على المشروع الصليبى الذى استمر لما يقرب من مائتى عاما، أصبحت مصدرا عظيما ومستمرا لالهام كل الاجيال التالية على امتداد قرون طويلة، بل وتحولت الى أحد اهم الثوابت العقائدية والحقائق التاريخية، على ان الاحتلال مهما بلغت درجة قوته وطول مدته، الى زوال لا محالة باذن الله.
***
بعد استعراض هذه النتائج الرئيسية، نعود لنواصل كيف تناول الدكتور/ قاسم فى كتابه، مسألة آثار الحروب الصليبية على العالم العربى، من خلال العناوين التالية:
1)   الاستجابة السياسية ونشأة الدولة العسكرية.
2)   الآثار السكانية والاجتماعية.
3)   الآثار الاقتصادية.
4)   الآثار القيمية والأخلاقية.
5)   الآثار الثقافية والفكرية.
6)   الختام.
***
أولا ـ الاستجابة السياسية ونشأة الدولة العسكرية:
·كانت حالة التفتت والتشرذم السياسى العربى هى السبب الرئيسى فى الانتصارات الكبرى والسريعة التى حققتها الحملات الصليبية الاولى وسقوط القدس وعدد كبير من المدن العربية تحت الاحتلال.
·فكانت النزاعات قائمة على قدم وساق بين السنة فى بغداد والشيعة فى القاهرة واتباع كل منهما فى بلاد الشام، وبين السلاجقة والعرب، وبين زعماء البدو وامراء العرب فى المناطق الحضرية وبين الأمراء بعضهم البعض وهكذا.
·ولقد احتاج العرب والمسلمون خمسة عقود قبل ان يتمكنوا من لملمة صفوفهم والشروع فى توحيد انفسهم، فظهرت دولة عماد الدين الزنكى الذي تولى حكم الموصل 1127 ثم حلب 1128 واستعاد الرها فى 1144. ثم استولى ابنه نور الدين على دمشق فى 1154 وأرسل جيش بقيادة شيركوه وصلاح الدين الى مصر، فنشأت دولته وهي تحكم "خمس" عواصم هى القاهرة ودمشق وحلب والموصل والرها. ثم دولة صلاح الدين الذي نجح حتى 1181 فى بسط سلطانه على منطقة تمتد من النيل الى الفرات، وانطلق من ان الحرب ضرورة دائمة، ودولته كانت دولة عسكرية الطابع والهدف والتنظيم، وكان ودورها التحررى التاريخى هو الذي اضفى عليها الشرعية ونزعها من دولتى الخلافة.
· فلقد تراجعت الخلافة العباسية وتحولت الى مجرد واجهة لاضفاء الشرعية على القادة المتعاقبين مثلما فعل صلاح الدين وكذلك بيبرس. كما تراجعت الخلافة الفاطمية بل وسقطت في الخيانة والسعي لاقتسام النفوذ مع الصليبيين على حساب السلاجقة. وترجع بدايات ضعفها الى الاشتباكات المسلحة بين الاتراك والجنود السود، والصراعات الداخلية على الوزارة وعلى مصر، كالصراع الذى نشأ بين شاور وضرغام واستنجاد أحدهما بنور الدين والآخر بالصليبيين.
· وكان تراجع وتوارى نموذج دولة الخلافة التى على رأسها خليفة لا يتمتع بأى سلطة حقيقية، لحساب ظهور نموذج الدولة العسكرية تحت قيادة ملك محارب يحكم قبضته على كل الأمور، والتى بدأت بظهور دولة عماد الدين الزنكى، ثم نور الدين فصلاح الدين الايوبى الذى لم تعمر دولته سوى سبعين عاما قبل ظهور دولة المماليك.
·فقلد ادت مهادنة الايوبيين للصليبيين بعد وفاة صلاح الدين، الى سقوط دولتهم فى مصر وميلاد دولة المماليك، وكان آخر سلطان ايوبى هو توران شاه بن الصالح نجم الدين ايوب الذى قتل فى 28/5/ 1250 وكان ذلك معاصرا للحملة السابعة بقيادة لويس التاسع التى انتهت بانتصار بيبرس، وتم تتويج ميلاد دولة المماليك الجديدة بنصر آخر على التتار فى عين جالوت 1260 بقيادة السلطان سيف الدين قطز، وباحياء بيبرس للخلافة العباسية فى القاهرة اضفى الشرعية على دولته. وتمكنت دولة المماليك الفتية من القضاء على التتار، الذين أسلموا بعد جيلين.
·وهنا تجدر الاشارة الى ملاحظة هامة وهى ان القرن السابع الهجرى، الثالث عشر الميلادى ربما كان هو أخطر فترة فى تاريخ الحضارة العربية الاسلامية على الاطلاق، فالوجود الاسلامى يتراجع فى الاندلس، وجحافل التتار بقيادة هولاكو تقترب من بغداد التى سقطت فى 1259 وقتل الخليفة المستعصم بالله العباسى، كان بمثابة ضربة للعالمين العربى والاسلامى.
***
الدولة العسكرية:
·قامت على أنقاض دولتى الخلافة الفاطمية والعباسية اللتان فشلتا فشلا ذريعا فى صد الحملات الصليبية.
·وقام نموذج الدولة العسكرية الناشئة على نظام الاقطاع العسكرى، الذى بدأه عماد الدين زنكى ثم ابنه نور الدين ببناء جيوشهما على اساس الربط بين الاقطاع والخدمة العسكرية والولاء الشخصى كوسيلة فعالة لتعبئة الجيوش واعالتها تحت قيادة مركزية.
·وسار صلاح الدين على نهجهما وارتكز الاقطاع العسكرى فى زمنه على الارض الزراعية للامراء والرواتب النقدية والعينية الاجناد للفرسان الصغار ممن لا يأخذون اقطاعات.
·وكان كل هذا النظام يخضع بشكل كامل للسلطان الذى كان هو السيد الاقطاعى لجميع الامراء الاقطاعيين والذى بيده عزل اى امير عن اقطاعه اذا تخلف عن اداء واجباته العسكرية.
·ولقد حقق هذا النموذج من الدولة العسكرية دورا تاريخيا فى القضاء على الكيان الصليبى الا انه فشل فى مواجهة متطلبات الادارة المدنية بعد خروج الصليبيين.
***
ثانيا ـ الآثار السكانية:
كان من اهم آثار الحروب الصليبية على الشام هو خلق حالة من الاضطراب والسيولة السكانية الكبيرة، ادت الى مزيد من التعقيد والتفكيك لبلاد الشام التى كانت قبل الحملات الصليبية تتسم بفسيفساء سكانية تضم عناصر عربية وتركية وكردية وسوريانية فضلا عن الارمن والبيزنطيين بتنوع ديانتهم ومذاهبهم حيث كانت مسرحا لكل الهجرات والحركات التاريخية الكبرى التى عرفها العالم القديم.
·فلما ضربتها الحملات الصليبية تدهورت اوضاعها تدهورا شديدا، بسبب المذابح التى ارتكبها المحتلون، ومنها المذبحة المروعة التى تعرض لها المسلمون واليهود بعد سقوط القدس، وايضا عمليات التفريغ والاحلال السكانى والتهجير الجماعى والاستيطان الصليبى وزرع المستوطنين محل السكان الاصليين واعادة توطين المهجرين والمطرودين، وتحويل السكان العرب الى عبيد يباعون ويشترون. واستمرار المعارك وتبادل النصر والهزيمة وسقوط أسري من الجانبين مع تبادل السيادة على بعض مناطق الحضر والريف بين المسلمين والصليبيين، وتحول اقليات الى أغلبيات فى بعض المناطق وبالعكس، مع تحول السكان عن ديانتهم حفاظا على حياتهم. كل ذلك وعوامل أخرى ضربت حالة الاستقرار السكانى فى الشام فى مقتل لمدة استمرت ما يقرب من مائتى عاما.
·ولقد كان الأمر مختلفا تماما فى مصر، فبسبب صمودها فى مواجهة محاولات الاحتلال الصليبية المتكررة، بل وتحولها الى المعقل الاخير لقيادة معارك التحرير، فانها اصبحت الارض الأكثر استقرارا وأمانا لاستقبال هجرات اهل العراق والشام من غير المقاتلين الهاربين اليها من ويلات الحرب والاحتلال، وكذلك هجرة مسلمى الاندلس، وهو ما مثل تعويضا ايجابيا للنقص والخسارة البشرية الفادحة فى السكان نتيجة المجاعة الكبرى"الشدة المستنصرية "فى عهد الخليفة المستنصر الفاطمى.
***
والآثار الاجتماعية:
·اما من الناحية الاجتماعية فالحروب والمنازعات السياسية أدت الى اضطراب امنى واجتماعى عميق؛ فبالاضافة الى الصراع الرئيسى والوجودى بين المسلمين والصليبيين، فان صراعات اخرى نشأت بين السنة والشيعة، وبين الامراء بعضهم البعض، وبين الحكام ووزرائهم، وبين السكان المدنيين والعساكر الوافدين، بالاضافة الى توتر العلاقات بين المسلمين والمسيحيين فى الشام، خاصة وان قطاعات من الموارنة والسوريان والارمن قد ساعدوا الصليبيين، كما قام بعض المسلمين فى الامارات الصليبية باعتناق المسيحية خوفا على حياتهم، وهو ما لم يمنع الصليبيين من اتهام الاقباط بالهرطقة.
***
ثالثا ـ الآثار الاقتصادية:
 مثلت الحروب كارثة على الزراعة والانتاج الزراعى بسبب غياب الاستقرار والعمليات الحربية ونهب الجيوش للريف وهجرة الفلاحين ونزوحهم من مناطق القتال، وبحثهم عن الامان داخل اسوار المدن المحصنة، وبسبب ذلك تعرضت مناطق كثيرة لخطر المجاعة.

·ولكن كان من أسوأ الآثار تدهور السيادة الاسلامية على التجارة العالمية، فلقد سقطت موانئ الساحل الشرقى للبحر الابيض المتوسط تحت سيطرة اوروبا حتى عام 1187 الى أن نجح صلاح الدين فى تحرير معظمها.
وخلال هذه الفترة تم تأسيس الاحياء التجارية فى المدن المحتلة واستثمر الايطاليون اموالا جمة فى التجارة البحرية.
·صحيح ان مصر ظلت تتحكم طوال القرنين 12 و13 بتجارة العبور ما بين اوروبا والهند والمنطقة العربية، ولكن القوى التجارية الاوروبية النامية وجمهورياتها التجارية بدأت تسود.

***
رابعا ـ الآثار القيمية والأخلاقية:
 لقد ادت الهزيمة القاسية امام الحملة الصليبية الاولى والفشل التام فى صدها وسقوط القدس وعدد كبير من المدن العربية والاسلامية، وانكشاف عجز الحكام، الى انتشار مشاعر الغضب والاحباط وتملك الناس شعور بالعجز واليأس، وشيوع روح من "التقوى السلبية" والتدين العاطفى الهروبى الى المجهول الذى تجسد فى انتشار الطرق الصوفية الجاهلة واتباعهم الذين اخذوا يرددون الخرافات والمزاعم عن معجزات الدراويش وكراماتهم على انها حقائق تاريخية
·ساعد على ذلك اعتماد صلاح الدين الايوبى عليهم لاذكاء حماسة الجنود ومحاربة التشيع، وهو التيار الذى استخدمه المماليك فيما بعد لتدعيم سلطة السلطان ومكانته عند جماهير العامة، وهو ما ادى الى توارى وتراجع تيار المتصوفة "الفلاسفة".

***

خامسا ـ الآثار الثقافية والفكرية:
·قترنت جهود توحيد الجبهة الاسلامية ضد الصليبيين بجهود اخرى لاعادة نشر المذهب السنى، وتأسيس المدارس لدعمه فى مواجهة الدعوة الشيعية. وكان فشل الخلافة الفاطمية الشيعية فى فهم حقيقة الحركة الصليبية من جهة ثم اخفاق هذه الخلافة فى جهودها العسكرية ضد الصليبيين من جهة اخرى من اهم عوامل بروز الجهود السنية على محور الموصل/حلب. ثم جاءت نهاية الخلافة الفاطمية فى خضم الصراع الاسلامى/الصليبى تجسيدا لانتصار المذهب السنى على منافسه الشيعى.
·أدى تعرض الشرق العربى الاسلامى لهجوم يهدد وجوده ويستهدف انتزاعه من ارضه والقضاء عليه، الى سيادة الاتجاه نحو المحافظة والبعد عن الاجتهاد، والى ردة فعل تجلت فى التركيز على الحفاظ على التراث الفكرى، بدلا من محاولة اثرائه. فغابت روح الابداع والتجديد وتزايد الاتجاه المحافظ فى الفكر والتأليف. ولم يشهد ذلك القرن مفكرا من الطراز المبدع الذى عرفته القرون السابقة فى تاريخ الثقافة والفكر العربى الاسلامى، ربما باستثناء الغزالى
·فلقد كانت الحضارة العربية الاسلامية فى حال الدفاع عن الذات واراد ابناؤها لم تراثها وحفظه، وفى هذا العصر تجسد السلف الصالح مفهوما اجتماعيا/ثقافيا وصار البحث فى تراث السلف من الفضائل الثقافية آنذاك، وازدهرت حركة التدوين التاريخى، استرجاعا لانتصارات الأسلاف.
·وانصرف الشعراء والادباء والمفكرون الرسميون الى محاولات حفظ التراث او جمعه او شرحه او تكراراه، كما أصبحوا من ابواق الدعاية والتبرير لتعبئة الناس حول قائد بعينه او للترويج لاتجاه او لاخر.
·وفى عصر المماليك تزايد اعتماد سلاطينهم على اهل العمامة من علماء الدين والفقهاء باعتبارهم واجهة شرعية للحكم، الذين تنافسوا من ناحيتهم على تملق الدولة وتبرير افعالها.
ولذلك فشل الادب الرسمى فى الاجابة على تساؤلات كثيرة طرحها عامة الناس حول عجز الحكام ونجاح الصليبيين، وعلى رأسها السؤال الأهم والأزلى:"أليس المسلمون هم اتباع الدين الحق؟ فلماذا كانت الهزيمة وانتصار الفرنج الكفرة؟
·لقد فشل الحكام ودعاتهم فى تفسير هذه التناقضات كما فشلوا فى تبرير عجزهم عن دحر الصليبيين طوال هذه السنوات الطوال. ولذلك تبلورت تيارات شعبية اخذت تعبر عن رؤيتها الوجدانية.
·كانت هذه اول هزيمة كبرى للمسلمين فى تاريخهم والذى شهد خطرا استياطانيا وجوديا، فشاعت انباء الرؤى والاحلام التى ترى الرسول عليه الصلاة والسلام، وظهرت النبويات وهى قصائد مطولة تستغيث بالرسول وتتوسل اليه لرفع المعاناة، وانتشر الكلام عن القيامة وعلاماتها والجنة ونعيمها والاعتقاد فى الخوارق والمعجزات، والقصص الشعبى الذى ينقل احداث وقصص وشخصيات وابطال وملاحم من وحى الخيال تحمل للناس التعويض من واقعهم البائس فيما يعرف بالأدب التعويضى.

***
وفى ختام هذه السلسلة:
·لابد من التذكير بان تطور الفكرة الصليبية كان نتاجا لانهيار سلطة الامبراطورية الرومانية فى الغرب فى القرن الخامس الميلادى ثم الغزوات الجرمانية ثم تبلور سلطة الكنيسة والبابوية ثم نمو النظام الاقطاعى وبداية ظهور البرجوازية. وأن الحروب الصليبية جاءت لحل مشكلات اوروبا القرن 11 ميلادى على حساب المنطقة العربية.
·ولم تنجح فى تحقيق انصاراتها الاولى الا بسبب التشرذم العربى الاسلامى، وبدأت هزائمها بعد نمو تيار الوحدة والمقاومة والتحرير. ولقد أفرز التصدى للاحتلال نموذج الدولة العسكرية الاقطاعية التى فشلت فيما بعد فى ادارة المجتمع على اسس مدنية، وحين تدهور نظامها السياسى، تسلطت، فتدهورت المنطقة.
·لقد كان اول احتكاك للشرق العربى الاسلامى مع الغرب الاوروبى ولقد ترتب عليه رغم النصر والتحرير الكامل اهدار هائل للإمكانيات وامتصاص لطاقة النهضة وانكفاء على الذات وحساسية كبرى من كل وافد.
*****
القاهرة فى 16 ديسمبر 2021