لا اشك ان هناك اطرافا عديدة ستسعد لما حدث فى باريس فى الأيام الماضية، وستعتبر نفسها محظوظة بهذه الجريمة التى جاءت على هواها، والتى يمكن توظيفها لدعم مشروعاتها الاستراتيجية أو مراكزها السياسية، أو ضخ دماء جديدة فى حملاتها التعبوية والإعلامية.
على رأسها بالطبع تأتى الولايات المتحدة الامريكية التى تحشد العالم كله منذ بضعة أشهر لدعمها ومساندتها فى حملتها الاستعمارية الثالثة ضد العراق، التى تتذرع فيها بمكافحة داعش، بينما هدفها الفعلى هو حماية وجود وأمن وحدود الدولة الكردية الناشئة. وضمان ترسيم الحدود الجديدة فى العراق وسوريا وفقا لخرائطها هى، وليس لأى خرائط أخرى. بالإضافة بالطبع الى مصالحها الأصلية المقدسة فى النفط العراقى.
***
وتليها اسرائيل التى سارعت بتوظيف الحدث على عدة محاور؛أولها هو الدفاع عن جرائمها ضد الفلسطينيين بذريعة انها تحارب ذات الارهاب الذى ضرب فرنسا و الذى يضرب العراق وسوريا، وان القضية ليست بين احتلال وأصحاب ارض، وإنما بين دولة ديمقراطية متحضرة وبين اسلام راديكالى ارهابى متطرف ومتخلف. وثانيها هو استجلاب اكبر عدد من يهود فرنسا وربما اوروبا الى فلسطين.وثالثها هو اضعاف حملة التعاطف الاوروبى الاخيرة مع القضية الفلسطينية. ورابعها هو تدعيم التحالف الاسرائيلى مع عدد من الدول العربية الكبرى لمواجهة العدو المشترك المتمثل فى حماس وداعش. وفقا لما صرح به نتنياهو صراحة عدة مرات، وصدق على كلامه وزير الخارجية الامريكية جون كيرى.
***
وفى مصر، جاءت حادثة شارلى لتدعم الرواية الرسمية للنظام المصرى الجديد بقيادة عبد الفتاح السيسى، الذى أطاح بثورة يناير ومكتسباتها وثوارها من كافة التيارات بذريعة مكافحة الإرهاب، وأعاد إنتاج نظام مبارك بكل سياساته الخارجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية مع تعديل طفيف فى بعض الرتوش.
ولتعطيه مزيدا من الرضا والاعتراف الدولى، الذى لم يتوقف منذ ان قرر ان يبحث عنه من بوابة اسرائيل. فبذريعة مواجهة خطر التطرف الاسلامى والاخوان المسلمين وحماس والإرهاب فى سيناء، قام بتعميق غير مسبوق للعلاقات مع اسرائيل، واتخذ سلسلة من الإجراءات لحماية أمنها، إجراءات سبق ان رفضها نظام مبارك نفسه؛ مثل هدم الأنفاق تحت الأرض مع اغلاق المعبر فوق الارض. وإزالة مدينة رفح المصرية من الوجود لإنشاء المنطقة العازلة للفصل بين المصريين والفلسطينيين.
***
وهناك أيضا اليمين الاوروبى العنصرى المعادى للعرب والمسلمين، والمحرض على كراهيتهم والداعى الى إغلاق أبواب الهجرة أمامهم. وهو اليمين الذى تمثله حزب الجبهة الوطنية بزعامة مارى لوبان فى فرنسا، وحركة بيديجا فى المانيا ومؤخرا فى اسبانيا، وحزب بريطانيا المستقلة، وحزب الحرية فى هولندا...الخ
ولقد سارع هذا اليمين فور وقوع الحادث وبهدف تحقيق مكاسب سياسية وحزبية على حساب خصومه السياسيين، الى شن حملات منظمة ضد الإسلام والمسلمين. مطالبا بتطهير أوروبا منهم ومطاردتهم وتقييد حركتهم والحد من حقوقهم وحرياتهم. ووصل الأمر ان طالبت بعض الحكومات الأوروبية بالفعل بإعادة النظر فى اتفاقية "شنجن" بهدف إعادة المراقبة للحدود المشتركة ووضع القيود امام حركة وانتقال المواطنين كأحد الاجراءات الوقائية فى مواجهة الارهابيين الاوروبيين المحتملين.
***
كل هؤلاء وغيرهم سارعوا بالفعل لتوظيف الحدث لدعم وتفعيل استراتجياتهم ومشروعاتهم، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب والتطرف الاسلامى.
ولا شك ان توظيف الحوادث واختراع الذرائع للعدوان علينا وعلى اوطاننا وثوراتنا ومقاومتنا وحرياتنا وحقوقنا، هو فن رفيع تفوق فيه الغرب وأتباعه على امتداد قرون طويلة.
وفى كتب التاريخ المدرسية العربية، سنقرأ عشرات القصص عن الذرائع التى استخدمت لتبرير احتلال الاقطار العربية فى القرن التاسع عشر مثل مذبحة الإسكندرية الشهيرة عام 1882، أو حادثة "مروحة" داى الجزائر مع القنصل الفرنسى عام 1827، وقصص أخرى كثيرة.
أما فى السنوات الأخيرة وقبل جريمة شارلى ابدو، فسنجد قائمة طويلة من الاعتداءات والجرائم والانتهاكات التى ارتكبت تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، مثل تثبيت انفصال كردستان عن العراق. و مثل التدخل الفرنسى فى مالى. وتجميد الاعمار فى غزة. وإجهاض حكومة التوافق الوطنى الفلسطينى. واستباحة الطائرات بدون طيار الأمريكية لسيادة وسماوات افغانستان وباكستان واليمن بحجة مواجهة تنظيم القاعدة الارهابى.
ولكن أخطرها بالطبع كان الغزو الامريكى لأفغانستان 2001 بذريعة مواجهة تنظيم القاعدة الارهابى منفذ عمليات تفجير البرجين. أو غزوها للعراق 2003، بذريعة تدمير أسلحة الدمار الشامل التى لم يظهر لها أثر بعد الغزو. وقبلها بسنوات قليلة كان معركة تحرير الكويت 1991، هى ذريعة الأمريكان لاحتلال الخليج العربى وإنشاء عدد من القواعد العسكرية فى السعودية ودول الخليج.
اما الذرائع الصهيونية لشن الحروب والاعتداءات على فلسطين والشعوب العربية منذ 1948 ، فحدث ولا حرج.
***
لكل ما سبق يذهب كثير من المحللين الى ان الارهاب وعملياته وجماعاته وتنظيماته من القاعدة الى داعش ما هى الا صناعة مخابراتية غربية بامتياز، من كثرة ما استخدمت كذريعة للتدخل فى شئون دول المنطقة. ونفس الشئ يقال عن علاقة اسرائيل بالجماعات الارهابية فى سيناء. وفقا لنظرية "ابحث عن المستفيد."
بل يذهب البعض الى ان أنظمة الحكم المستبدة تدبر بنفسها بعض العمليات الإرهابية على أراضيها، لتتخذها ذريعة لتثبيت حكمها وفرض قبضتها والانقضاض على المعارضة ومصادرة الحريات واتخاذ الاجراءات الاستثنائية وكسب تأييد الجماهير الخائفة.
ولكن على الرغم من كل ذلك، فإننا لم ننجح، الا فيما ندر، فى كشف العلاقة المباشرة بين جماعة أو عملية ارهابية بعينها وبين اجهزة الاستخبارات الغربية او الإسرائيلية او المحلية، وهو ما ينطبق فى حالتنا على عملية شارلى ابدو.
وقد يرفض الكثيرون تماما فكرة ان الإخوة كواشى وأمثالهم فى الداخل العربى او فى الخارج الغربى، هم عملاء لأجهزة مخابرات أجنبية، فالعميل من وجهة نظرهم لا يضحى بحياته.
بينما يذهب آخرون الى أن توظيف مثل هذه التنظيمات لا يتم بالتوجيه المباشر أو باللقاء وجها لوجه، وإنما يتم على الأغلب من خلال اختراق مخابراتى للمستويات العليا فى التنظيم أو الجماعة، أو بالاستدراج والتوريط والتوظيف فى صراعات ومعارك طائفية.
على أية حال وأيا ما كانت الحقيقة، فان الآثار والنتائج المباشرة لعملية شارلى وأخواتها دائما ما تسفر عن، وتؤدى الى، مزيد من الغزو والتدخل على المستوى الخارجى ومزيد من القهر والاستبداد على المستوى الداخلى.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق