اهداء
جبر الخواطر على الله
الفصل الأول
النسبية..قانون الحياة
**
صدى صوت
* ذاكرة :
قالوا عنه كثير " النسيان" , ربما لأنه قوى "الذاكرة".
* تعود :
تعود على انه حينما ينتصف الليل .. يشرد بذهنه بعيدا ..فينام حزينا ..بمفرده.
* شرخ :
لا يعرف لماذا كلما نظر الى مرآة شعر انها مشروخة؟
* اكتشاف :
لطالما تساءل : لماذا كلما وصل الى نهاية شارع ما .. اكتشف أنه ليس الشارع المقصود؟
* حشري:
كلما رأى إنسانا يضحك.. فكر مليا .. لماذا؟ وكيف؟
* إيمان :
همَ بإكمال نصف دينه ..ولما أكمله فقد النصف الأولى
* بستاني :
تعود كل صباح سقاية الوردة التي بجوار السور , ذات صباح , سبقه أحد العابرين, فقطفها ..وأعجبه شذاها.
* فقدان:
حينما اكتملت صراحته , فقد نفسه .. فجرب الكذب ففقد روحه
* نكتة:
ضحك الجميع على النكتة الساذجة التي قالها المدير..مجاملة..إما هو فقد ضحك وبصدق على نفسه والمدير والزملاء.
* صدى :
سمعهم يتهامسون عنه بأنه لا يتكلم .. رغم انه دائما كان منزعجا من صوته.
*هالة:
لا يدري لماذا كلما رأى تلك الهالة ود الدخول فيها .. وحينما يدخلها ود لو كان لا زال خارجها؟
* شكوى :
الكثيرون يشتكون من غرابة أطواره .. وهو أيضا كثيرا ما شكى غرابة أطوارهم.
* هواية :
تملكته رغبة جامحة في عد المربعات والمستطيلات الموجودة فى شبكات مرامي كرة القدم.
* محاولة :
حاول مرارا التخلص من خياله الذي يجعله يتخيل أي وجه يراه بالأخر..غير الناطق.
* طريق :
لا يدري لماذا كلما كان يسير يشعر بأنه يسير فى اتجاهين.
* إقناع :
كان عار تماما من ملابسه ..حاول إقناعه بضرورة ارتداء ملابسه لكن الأحر أقنعه بأن ينزع هو أيضا ملابسه.
*المساء يناير 2003
...............................................
نبض المرايا
*تماثل
كانا متماثلين ..حينما ينظر إليه ينظر إليه الأخر..حينما يفتح فاه يفتح الأخر فاه أيضا ..حينما يهرش يهرش رأسه يهرش الأخر رأسه ..هذا دائما يفكر.. أما الأخر..ليس له قلب.
*اتساخ
كان يريد أن يصبح غبارها ..فاتسخت به يداه
*تطويع
كان يأبي السير في الظلام ..فهبطت له الشمس ..طائعة.
*مثالية
كان مثاليا ..الدنيا حوله أنشودة حب ونور ..ذات يوم انكسرت نظارته..فتعثر في الطريق المظلم.
*واقعية
كان يحبها جدا ..سألها فقالت :مشغولة
ومع ذلك كان واقعيا جدا ..ويعرف واحدة تحبه ..تقدم لخطبتها ..وأحبها جدا.
*تجربة
كانوا يقولون له :أنت دائما تغنى
فجرب أن يصمت فبكى.
*طموح
كان طموحا ..واخبره العرافون أنه بقدر ما يتنازل يكسب..فتنازل عن ذاته..فلم يعد لديه ما يخسره.
*تماد
كان ضريرا..كلما يتقدم خطوة نحو الباب يكتشف انه تنقصه أخرى
*وضوح
كان دائما يتساءل :لماذا كل الناس يمتدحونه؟
لكن المرايا المقعرة كانت تظهر له وجهين..ولا يدري لماذا؟
*سمو
كان بناءا ماهرا وسريعا ..يجلس بمعوله فوق الجدار..يقذفونه بالطوب فيعلو به ..لكن حينما أراد النزول لم يستطع.
· الجمهورية 27 ديسمبر 2001
· المساء 1 ديسمبر 2007
· نقدت في المساء 5 يناير 2002
........................................................
اختزال
كانوا عائدين للتو من الميدان في معركة الكرامة
تمزقت ملابسهم ..وخارت قواهم ..لكنهم اليوم راضون عن أنفسهم أكثر من أي وقت مضى.
صاح أحدهم فيهم :أيها الثوار انزعوا الأقنعة ..عدونا هناك ..أرديناه قتيلا في المعركة.
أخذ بعضهم ينظر إلى بعض ..وفجأة تفجرت قهقهات بينهم وأخذوا يضربون أكفهم ويقولون :يا لها من ملاحظة دقيقة!!
وألقوا في نشوة خوذاتهم على الأرض.
تجمعوا حول هذا الفارس المستجد الذي أدهشهم منطقه ..فواصل يقول:
هذه مدينتكم ..حررتموها بأيديكم ..هي الآن تفيض لكم عسلا ولبنا ..وجاها..وسلطانا..وخدما..ونساء..وهذه المدينة تحتاج إلى أحكمكم وأقواكم ..فماذا انتم فاعلون فيها بعد العودة إليها؟
ومن منكم يستحق أن يحكمها؟!
هنا سادت لحظة صمت عريضة..وشخصت أبصارهم نحو المدينة الجميلة ..اخذ كل منهم يتحسس مقبض سلاحه..فقال الفارس:
أيها الثوار لا تتقاتلوا..إذن هي مدينتكم ..وهناك صخرة عملاقة ..من يتسلقها أولا ..ستبقي المدينة أسفل نعليه ..فيكون هو الأولى بالحكم ..أخوا يتمتمون :نعم الرأي.
شخصوا أبصارهم نحو المدينة والصخرة ..يحركون الشفاه..ويدلكون اليدين ..نادى الفارس فيهم بالانطلاق..فهرولوا بينما وقف هو يراقبهم.
دقائق ..سقط منهم واحد..اثنان..ثلاثة ..أربعة ..عشرة..أخر يلقي عليه أحدهم صخرة فيخر صريعا ..ينحشر احدهم بين الأحجار..ويلفحه الريح فيعلق في الصخرة من قدمه ويسقط أخره وأخر ..ماتوا جميعا إلا واحدة استطاع الوصول إلى القمة وظل يلوح بالكاد من الإرهاق بعلامة النصر.
الفارس يستل سهما ويقذفه به ..فيحمله مع الريح ليتمدد جسده في قلب المدينة.
فيقهقه الفارس وقد قذف بسلاحه أرضا ويقول :هكذا علمتني الحرب..كيف الثأر يكون..وكيف اختزل الأعداء.
وتمتم وهو في طريق العودة..أغبياء..لم يبصروا قناعي.
*الأهرام المسائي 10 ابريل 2001
* حواء العدد 2326
...........................................................
نهاية
موجها كلامه إلى حاشيته في احتفاله الخمسينى للجلوس على العرش..قال الملك:
حدود المملكة لا تتسع لعبقرية حكمتي التي أصقلها نصف قرن من الحكم..لابد من التجديد.
هكذا قال الملك.
ولأنه يحب التسلط ويكره التفكير..قال له أحد الأمراء الخبثاء:
بإمكانك أن تصير ملك الملوك..فقط ..تقسيم المملكة إلى ممالك ..وأنت تحكم كل الملوك.
صرخ الملك منتشيا:
كانت حتما ستتوصل عبقريتي إليها .. فكرة رائعة.
صمت الملك لبرهة ثم استطرد يقول:
إذن ..أصدرت فرماني بتوليتك ملك العاصمة ولتزف وسائل إعلامي بشرى تنصيبي ملك الملوك وتحتفل به عيدا وطنيا.
هكذا أمر الملك
الناس خارج القصر كانت تتحدث عن جنون بالملك.
· العربي الناصري مايو 2002
...........................................
مغالاة
مؤشر الساعة يشير النهاية مساء ..الصقيع ينتشر ويتكاثر ..الجمود غطى كل شئ حتى الهواء وأعطب تلقائية حركة الأرض في مقتل.
الشكوى تكتظم في النفوس وتعجز الألسنة أن تفصح عنها بعدما تيبست العروق من اليأس ذى الصوت الأصدق.
البشر-جميعهم- يتوجهون ببصرهم إلى السماء ..رغم أنهم لا يرونها والعتمة العمياء تعم كل شئ ..يبحثون عن مصدر ضوء ولو لنجمة سقطت من شلال المجرات البعيدة المتحجرة يستمدون منه الدفء ويرون قبل الرحيل النور المفتقد.
أما العزيزة ..العصماء ..الشمس ..فيكفي ترديد ذكر اسمها في تأجيل زيارة الموت ويدب الدم في أوردة الناس.
البعض وهبوا لها أنفسهم نذرا ..إن رأوها تشرق ثانية ولو على استحياء ..أما الآخرون فقرروا عبادتها.
بعد تعزز وإفصاح صامت عن جوهرها ..عادت الشمس للتوهج فأغدقت على الكون الدفء.
مع أول شعاع لها ..حصدت أرواح من لم يقتلهم الجليد..المبتهجين بقدومها والذين أوفوا نذورهم لها.
أما من اتخذوها إلها ..كانوا هم الباقين..ولأن للخالق مطلق الحرية في عباده ..أمر الشمس بزيادة توهجها.
غلى الماء في البحار وأصبح عبادها يشوون كما تشوى الشياه من وهجها حتى كفروا بها مع الموت الذي داعبهم كثيرا.
· من ملحقات رواية زمن السقوط 1999
......................................................
غربة النفس
من العدم ..حيث اللاشعور ..واللا وجود ..والصمت يطبق والسكون يسود والضوء لا يدرك بالعين المجردة .
كانت فكرة ..فصارت روحا تسبح في سموات الأكوان بلا توقف ..يملؤها عنفوان الخلود وحكمة السرمدية في انتظار الإشارة.
ومع قدوم الوعي ..تجسدت ..صارت لحما ودما وعظاما ..بدأت بالعويل مع ساعات الهبوط الأولى على كوكب الأرض ..كأنها طفل سيق للمجهول ..حيث الرين والظلمة والانحناء ..وما من احتجاج لها سوى البكاء بحرقة.
ومع نمو الجسد ..أخذت الروح تنسحب تدريجيا للإبراء من السقم ومن مادية قرينها المفرطة.
ولأن هناك أجسادا كثيرة..ولكل مطالبه ..كان الصراع..وفي الصراع ظلم وجور.
بعد أن تنحت الروح وأقرت الانسحاب ..عز عليها أن تري الظلمة تسيطر على الجسد ..شاركته بالنصح لكنه يملك المبررات والمنطق ..فرفض وتمادى.
الروح تتحسر عليه وهى تراه مفقودا..بينما يراها قيدا لابد إن يحطمه.
ظل الصراع حتى صار هواء العدل ملوثا بالجور وهواء النقاء ملوثا بالصخب .
طال العمر وحانت ساعات الرجوع..الجسد يتشبث بالحياة المؤقتة لأنه مؤمن بمنطق الأرض ..والروح تتطاير بسعادة لقرب العودة الى الأصل ..حيث منطق المناطق وحقيقة الحقائق.
*من ملحقات رواية زمن السقوط الصادرة 1999
........................................................
لهفة
كان خائفا جدا هذه المرة .
رجفة سرت في جسده الهزيل وشعر أنها على أي حال هي تجربته الأخيرة.
فقد اعتاد على أن يتنفس الصعداء ..لكن ما أن يدخل الهواء رئتيه حتى يخرجه ثانيا زفيرا ساخنا مخلفا حريقا في صدره.
وقتها يتمنى لو كان قد سد أنفه وأطبق رئتيه .
ولكن لا تمضى برهة حتى يجد نفسه بحاجة إلى هواء جديد ..وحريق أخر.
فيظل يتلوى ويتراقص ..فما طال هواء نقي ولا استراح من ثورة الألم.
وهكذا..
اعتبروه مجنونا .. متبطرا على هواء الله..الذي يستنشقه الجميع.
مع انه متلهف عليه
· الأسبوع - ابريل 2002
..........................................
الربيع
حذروه من الطريق إليها.
القصر تحرسه كلاب تنهش عظامك البارزة ..وأسلاك شائكة تغلف جدرانه الجرانيتية العالية ؟
..قالوا ..وقالوا...
لكن لم تعلق في تجاويف صدره غير مقولتها أخر مرة رأها تحتضن أطواقا حديدية:
"حتما سأعود حينما تزدهر حدائق قلبك في فصل الربيع بعدما ترضع من كئوس الشوق ..أو تأتى أنت الىّ فتجدني
امرأة فقدت عذريتها"
لما شاب الشعر على أعتاب الانتظار ..لاحت في تضاريس البدن معالم اقتراب الخلود إلى النوم..السرمدي.
قرر أن يفقدها عذريتها ..فشرع يلملم أجزاء جسده المبعثر عبر الأجهزة التعويضية وان يقتحم القصر !!
بعد جهد جهيد استطاع الوصول..
أقعدته الصدمة من بعيد يتأمل مكوناتها..كلاب تفوق الحصر أسفل الجدران تنهش في السلاسل المقيدة بها من الضيم ..وجدران عالية لمرمى البصر ارتفاعا و...و..
تحامل على نفسه واستدار الى نقطة الانطلاق وهناك اقام سرادق عزاء معلنا أن الربيع قد اسقط من دفتر أحوال السنة.
وحينما سألوه عن الفقيد ..قال :أنا
· من ملحقات رواية زمن السقوط 1999
.................................................................
قصتان
1- انتظار
مد يده من شباك القطار مودعا أصدقائه بينما كانت هي تقف من بعيد تلتقط نظرة اختلسها منهم لها .
أومأت له وهى ترتجف : هل ستعود؟
فأجاب وهو يلوح بيده بخفة : نعم .
وتحرك القطار ... بينما مازالت هي دون حراك ترقب نظراته لها وكأنها تقول سأنتظر .
فى المساء بثت الأخبار نبأ انقلاب القطار ومصرع من فيه .
صرخت: لا يمكن أن يكذب فقد قال سأعود .
أما أنا فسأنتظر
2- مشوار
كان يسير في الشارع الطويل ذي الحفر والمطبات ... تورمت قدماه المرهقتان من المشي الكثير والشوارع
غير المعبدة ، و كانت تداعب مخليته نعومة القصر الذي يرومه حيث لاحت قبابه من بعيد .
رغم تثاقل الخطى كان يعلم انه لا بد من الوصول..
وما ان توقف ببواباته حتى أدرك انه كان يسير في اتجاه مضاد.
· السياسي المصري 17 ديسمبر 2000
.........................................................
اغتراب
لا عاصم اليوم في المدينة الدائرية وزحمة الأناوات ... تماثيل متحركة لا تعبر عن أصالة أو تاريخ ... يتساقط من بين الجميع ... الجميع.
شوارعها تزداد استطالة لأخر مدى ... سقف سمانها لا تعرف الرحمة.
من زحمة الأناوات الحجرية الفظة.. وحرقة الشمس الطالة عليهم بلا ملل صرخ لبشرى الوحيد الباقي
:ارحموا بشريتكم... الشمس ستبدد حضارتنا
لا مجيب فكيف تتحدث الأحجار ؟
كرر صراخه فبح صوته بلا جدوى .
منذ البداية كان يدرك أنها ليست مدينته ...حاول الهرب إلى حافة العالم ... أحجار لا تعرف إلا القسوة فتعيده الى منطقة البداية... حاول مرة ومرة وأخرى ولكنه يفشل.
قرر أن يصير حجريا أيضا.
ولما كان... نجح في الفرار إلى حيث مدينة البشر... ومع ذلك فشل في أن يعود بشريا كما كان
· حواء العدد 2312
................................................................
الروح
تمسك يده المرتعشة بالقلم ويتجمد المداد بداخله ، تصير الورقة صخرا ، ماذا يكتب ؟ لمن؟ متى؟
تفر المعاني وتصبح جوفاء بلا روح ، ينكمش قاموس اللغة حتى يصير البحث عنه بلا جدوى ، فيتألم من كل شئ بداخله ، يكتم أنفاسه، يحذق أوردته ، ترتفع سخونة النفس المكلومة ، تدمع عيناه الناعستان ويصبح الفرق بين النقائض صفرا ، الوجود والعدم، الإيمان والكفر ، الأنا والـ...هم.
يقطر القلم دما من شريانه وكأنه اشفف عليه بعد طول اعتصار فيخط همومه كوبيسا تطارده في كل مكان وتطبق على رئتيه الصغيرتين ، يتعلق بالحياة فيشحذ جهده للتخلص من الشبح الصامت ، يلقى بقلمه بعيدا ويحطم الورقة ، لكن يحتفظ لنفسه بالحياة.
· مجلة العهد الجديد أغسطس 2005
......................................................................
أتاري
أحداث تنسج شباك الأحزان على النفس ، الثورة على القهر تملكت كل مشاعري ، ماذا لو كنت ملكا ؟
أمسكت بذراع الأتاري الذي كان أمامي.. جندي مناضل ، مقاتل مغوار.. ذلتني يدي .. طلقه كافرة تخرج من فوهة الشبح الأسود.. تطرحه قتيلا وتتناثر أشلائه في كل مكان حتى ذاب في خيمة كثيفة من الدخان .
وسط فرحة بالسلطة ، هولاكو يعتلى السلم على جماجم المقهورين ونيرون يحرق روما!
اه.. إنا ملك .. م لـ ك
يتوقف عندي التاريخ وأتحكم في مجرى الأحداث ...
جفت ينابيع الثورة في شرياني ... الاندفاع إلى العدل أصبح طاغيا.. تحولت إلى النقيض ، إنا ملك ولكن فى قائمه مذبلة التاريخ.
صرخت .. أه .. تحطم ذراع الاتاري فى قبضة يدي .. أنا لست ملكا ولكن أنا ذلكم الجندي الذي تناثرت أشلاؤه.
· الأحرار 5 يناير 1996
...................................................
نسبية
كانت البنايات حوله عماليق داعرة .. بينما كان ينظر إلى نفسه بملابسه الرثة الخجلى كخنفساء تترنح فى شوارع تغسل صابون كل أن.
انتحى جانبا ليسير ملاصقا للحوائط متجنبا أن يكون مثارا لتلك القهقهات الساقطة من أعلى . حينما عاد إلى حيث البيوت الشوارع – مصر الشعبية – جلس في إحدى المقاهي ممددا ظهره لأخره على الكرسي واضعا حافة رجله اليمنى على فخذ رجله اليسرى .. أشعل سيجارته واخذ يتصفح الجريدة .. بينما قال له شخص يحمل صندوقا أسود
: ألمع يا بيه.
· الأحرار 12 ابريل 1996
...............................................................
شطرنج
فى ليله صيفية حدثتني ذاتي في مختلف علوم المعرفة أدب ، ثقافة ، فن.
المذياع بجواري يعلن (هنا القاهرة نشره الأخبار ) تطرقت للحديث عن السياسة .
قمت بفرد رقعه الشطرنج التي كانت ملقاة على منضدة بجواري، نعم السياسة =شطرنج!!
توجت الملك تاج العرش ( إن الملوك أذا دخلوا قرية ..) ووليت هامان الوزارة ، وضعت العسكر في صفوف الأولى : مجدا لهؤلاء العسكر .. بل تعسا لهم فهم دوما ضحايا نزوات الملوك. نابليون يتحطم بجنده ليكسب مجدا في المحروسة .
المذياع: قوات التحالف تقصف ... أباطرة النفط الأسود يشعلون النار في المدينة ويفرون بالطائرات تمتلئ السجون لتصبح الدنيا بمن فيها سجنة ومسجونين أدوات مبتكرة لصعق الأجساد الهزيلة ، تعذيب، فتك ، بطش ، تقنيات في الإذلال.
تضاعفت الآلام بداخلي ، عشماوي يحفظ في قصره مكتبه تكتظ بكتب حقوق الإنسان والدساتير.
انفعلت ، رفضت، أمسكت بالملكين الأبيض والأسود ، وقذفت بهما من الشابك وغمرتني فرحه ، أنا نفيت الملوك وحررت البشر .
· الأحرار 7 مارس 1997
.........................................................................
لقاء
كل ليلة يخرج متخفيا من قريته إلي حيث يبحث عنها ، في ركن منزو فوق انحدار ، كومة صغيرة من الرمال تعود أن يستلقي بعد عناء ، يعد نجوم الليلة المظلمة ، ويستأنس بالقمر في الليلة القمرية.
كانت السماء مظلمة كظلمة الروح رغم أنها كانت الليلة مرصعة بآلاف النجوم ، واحد اثنتين ، عشرة ، مائة.
تسقط حبات أحجار صغيرة كان يفركها من بين أصابعه ويغمض جفنيه، تضئ الدنيا وكأنها واجبة لبلورة ضخمة تنبثق من جوانبها أطياف منفردة.
يلوح القمر ..فيثبت...يتوهج ..يسطع.. يحتفظ بهالة ضوئية على جانبه.
توقف يلقى نظرة..
ماذا أصاب الرمال فصارت ناعمة ؟.. الشجرة الجدباء ازدهرت وكأنها تبعث من جديد ..حتى هذا الضوء الذي يخترق اعتي الجدران .. من أين مصدره ؟!
ليست الشمس فها هي تغرب وكأنها بصيص نار فقد الحطب.
ماذا؟
طائر عملاق ..عملاق جدا يسد صحن السماء .. يرفرف بأجنحة بيضاء .. كثيرة تحدث رياحا عاتبه .. يخشاه .. ثم يكتشف رقته فيحبه .. انه ثورة رحمة.
ينجذب إليه .. يريد أن يقفز نحوه فلا يستطيع .. يفكر : (( الطائر العملاق يصغر حجمه رويدا رويدا بينما يقترب نحوى رويدا رويدا .. يصبح صغيرا .. فأصغر .. يتجه نحو الصدر .. يصغر أكثر فأكثر .. يزداد سرعة.. يتلاشى أه وخزة تخترق صدري .. وكأنها تقصد القلب .. بل تصيبه .. إنى ابرأ من أسقامي.
يشهق شهقة توقظه من نومه بينما مازالت الدنيا مظلمة من حوله ولكن اخذ يدندن ويغنى فى أثناء عودته وكأنه لاقى من يبحث عنه.. ما زال لا يعرفه
*مجلة أدب ونقد صيف 2005
..............................................................
الفصل الثاني
قراءة الفنجان بحث فى المجهول عن الواقع
.............................................................
صباح الخير
كان القمر بدرا فى تلك الليلة الدافئة... حينما غادر أيسر فراشه بعدما فقد قدرته على استقطاب النعاس لصالحه ... جلس جوار النافذة يختلس نسيم الفجر الندى.
(( قاق..قاق .. بحبك..بشيرا .. ويمامة تسلم قلبها إلى الغراب .
تساءل أيسر : تراها ترى معنى الصفاء في شده اسوداد ريشه .. وتلمح الوفاء فى قلبه ؟!
وتسمع كلماته وكأنها لحن فريد وجميل لموزار؟ّ! كيف ضمنت انه بدل من جوفه وعيونه؟!
ماذا؟!
إنه ينقرها نقرا خفيفة فوق رأسها؟!
(( أوعى عينك تزوغ كده ولا كده وأنا مش موجود ... وخدي بالك م العيال )).
تدس اليمامة رأسها أسفل إبطه.
(( ودي تيجي يا سي السيد .. الوردة ما تنبتش والخولي غايب )).
إنها عشره عمر.. منذ اليوم الأول دنيا .. حينما هجرهما أهليهما فى الليل العاصف .. اقتسما الحرمان واليتم والحب والإخلاص وتوحدت عشتيهما فوق غصن شجرة الزيتون ،كانت الشمس تشرق على استحياء من أن تهدهد العش الهادئ وبدأت تدب الحركة فى الأنحاء .. تعالى الصخب رويدا رويدا .. طار الغراب بحثا عن الطعام ومكثت اليمامة تنتظر قدومه بشوق.
كانت جرافة ضخمة تخترق الطريق على مرمى البصر .. عشرات الجنود..مصفحات .. يتقدمون ويتقدمون.. توقفت الجرافة أمام المزرعة .. ينتشر الجنود ..تنطلق الجرافة في تدهس أشجار الزيتون .. يسقط العش وتأبي اليمامة ان تفارق بيضاتها .. نفح الحب الغالي .. اقتلوني معهم .. تدهسها الجرافة مع البيضات
يعود الغراب ..يتوسط السماء ..قاق.. قاق المجرمون قتلوكى يا عمري.
تتساقط حبات دمع ساخنة على الأرض .. يمتزج بدم اليمامة.
يصيح الجندي وهو يضحك .. بوكير توف .بكير توف
.....................................................................
قارئة الفنجان
قالت له قارئة الفنجان ..حذار من خفقة قلب..
وكان الفتى يحاور في الليل نجومه ويعشق قمره في بدره ؛وكانت تشاغله حوريات
الأولى تتملك ذاته ويخر لها طائعا إن أمر إصبعها ولو بحركة عفوية .
لكنها تجلس هناك بعيدا فوق سفح القمر .
والثانية تتراقص أمامه وتتخايل فوقه وفى أحشائه .
تقترب إليه فتعلو إن قاربت يده ملمسها لأن الطوق القابض على خصرها ،يهبط ويعلو
بها كما يشاء .
والثالثة حينما تسير تصحبها هالة نور خلابة تجذب إليها الدبابير الطامحة في امتصاص ،الرحيق والفراشات المخدوعة التي تحترق كلما غاصت في الهالة .
كانت دوما تصرخ وتصرخ وكأنها تضحك ، فلا تنجو ولا تقاوم لأن النور المنبثق منها يحرق جوانحها هي أيضا.
قالت له قارئة الفنجان إنه منشطر لثلاث ...الأول منه قلب أخذته الأولى ،
لكنه لن يشملها أو تشمله فالبرج العالي محصن ضد أعاصير الحب.
والثاني منه عقل سلبته الثانية لكنما الطوق أكثر بهلوانية وذكاء منهما
والثالث منه عاطفة جياشة تجرفها الثالثة فجعلته دوما نحوها مشدوه ،
يلف بجسده كله مع الدبابير ، لكنه لا يقهرهم ولا يذوق معهم رحيقها
فيدرك بعد مضى العمر حجم الضوء فيموت محروقاَ كفراشه.
قالت له قارئة الفنجان :حذار من كلمة الصدق ، وكان الفتى شفافاا يصادق ثلاث
يمامات .قال للأولى لا أتخيل نفسي بعيدا عنك ، بيدك مفتاح سكينتي واضطرابي ، عشي بجواري أغنى لك ، أصير مزمارك وأغصانك وحبوب شبعك.
وقال للثانية يعجبني فيك وقارك, لأنك تخشين على من هواء تجلبه نحوي أجنحتك في فصل الشتاء ...فتبقين بعيده وأنا أريدك قربي.
وقال للثالثة جوانحك مزركشة بفعل الخالق ..ملمسك حرير يغريني بالاسترخاء فأنام بعمق في نفسي ، لكنك تشتاقين كثيرا للطيران وتدعيني أسقط أدمر أعشاش القش.
فقالت له الثالثة انها تريده أن يصبح طاووسا حتى تهزم طموحها فتبقي معه ،ولما تحلي بريش الطاووس ضحك عليه الناس وهزأت منه الطيور .
وقالت له الثانية إنها تريده أن يسكن بين جوانحها ولما فعل جرفته الرياح ولأنه لا يملك
اجنحة حقيقية وقع علي الأرض فضحك عليه الناس وهزأت منه الطيور.
ولما مل الفشل وتاقت نفسه للنجاح مهما كلفه الثمن قالت له الأولى أنها تريده ولكنها لا تجيد السقوط فليصعد إليها هو عبر سلمات الهواء، فظل يتقافز فظنه الناس مجنونا وسخرت منه الطيور.
* جريدة الجمهورية 13 اغسطس 2000
....................................................
رومانتيكية
برد قارص يسرى في العروق ، وخواء في العظام الهشة يطلق صفيرا ،وكأنه قادم من ملحمة بكرية مصغرة ليوم القيامة.
كل خليه في جسده الهزيل ونفسه المهزومة أصابتها حمى اليأس .. حتى رأسه أصبح محاك بخليه شائكة من الأفكار .
حتى الأفكار أمست مجرد هرطقات.. لا قسمه ولا نصيب، كان الفراغ كبير .. أدمن رؤيتها لكنها غابت .. احتجبت خلف ملايين العوازل الكهربائية.
قال: الحياة غالية وسأقاوم .. فمن ذاك الذي يعطى عمرا .. ويفرط ؟!
سأستبدل عروقي ..وعظامي .. وقناعاتي .. سأبحث عن واحدها ابادلها الرحيق .. استرد بها فقدانى.
عانى اليوم الأول ، لكنه قاوم..أخذ يطير حتى لمح احداها.. أعجبه منظرها وهى تتمايل بغصن الشجيرة البعيدة.. لم يتمالك أعصابه فصاح وكأنه يخلق لنفسه روحا من عدم : وجدتها .. وجدتها.
وسمعته بعض الأذان المشفقة وسعدت له .
لكنه لما اقترب إليها اكتشف أنها فقط انثى غراب!!
اهتزت مشاعره.. صاح يشحذ لنفسه صبرا : تماسكي .. تماسكي ولا يخدعنك زيف البصر ... غدا حتما تبصرين .
في اليوم الثاني قدمت إليه واحدة من السرب المهاجر .. كانت بديعة الألوان.. ملساء الريش .. أعجب بها أيضا .. وقال لها انه يبحث عن نصف مفقود .. لكنها أخبرته انها تبحث عن شبيه له ضل السرب ... وطارت .
حزن كثيرا وكانت اللهفة تزيد لكنه صرخ في نفسه : تماسكي.. تماسكي ولا يخدعنك زيغ البصر .. غدا تبصرين.
في اليوم الثالث .. نفد الصبر.. قال سأسكب زيتا في عيني فلا أرى .. وأدهن جوانحي بالطين واخترق العوازل الكهربائية .. ستقودني إليها احاسيسي .. وحينما اشتم رائحتها انتصر لنفسي وتقوى عظامي .. هناك سأرقص لها وأغنى .. أغنيات الصبا والكهولة .. سأرد منها فقداني حين أضمها بين وجوانحي.
وصنع من قلبه كهفا ..وطار .. لكنها القسمة والنصيب .. احترق .
وكانت تقف خلفه واحدة جميلة.. كانت تحبه .. احترق قلبها لفراقه. وتمتمت إحدى الشفاه.. مسكين.
• المساء.. ابريل 2001
....................................................
سريالية
من كل حدب توافدت وكانت الشمس تعلن بداية يوم جديد في سرمدية سيطرة الصقر على مملكة الطيور ، أوفدت كل جماعة مبعوثها لتهنئته بحب الرعية على الدوام.برهات صاخبة وساد الصمت والترقب.
أقلع الصقر طائرا متوسطا فصائل الطيور التي اتخذت شكل قوس ، كأن عليهم ألا يتخطوه لكنه أراد التميز بقدر عظمته أخذ يعلو ويعلو , وكان عليهم أيضا ملاحقته وإلا فالخزي والعار لمن يخشى.
كان كلما يرتفع أكثر يتساقط عدد أكبر من الطيور خلفه صريعا .
استمر في الارتفاع حتى حصد الإرهاق من هم خلفه .. لكنه لم يبال واخذ يرتفع أكثر وأكثر إلى أن غاب عن أنظار الطيور المتراصة فوق الساحل.
اخترقت زقزقات جماعة من الطيور صمت المكان لتعلن نبأ غياب الحاكم الأوحد وتنصيب بلبل على العرش بينما ما زال في الأفق الصقر ..يعلو ويعلو.
* نشرت في السياسي المصري 17 ديسمبر 2000
*أخبار قنا العدد الثاني
..............................................
غابة
متى يرونه.. يحمدون الله .. تقوى عزيمتهم.. يصيرون على قلة حيلتهم وحوشا مثلهم .. لكنهم يبغون الحياة ..فقط الحياة.
جعلوه عليهم ملكا .. يحميهم وهو بهم يحتمي ..حينما ذاع الخبر اهتزت أركان الغابة.
احتشدت ضده الأسود والفهود والضباع وقالوا سنقتله ، سنلوك أحشائه في بطوننا ، ستصير رعيته الأرانب طعاما شهيا يقينا ألم الجوع.
أرسلوا يطلبون منه الاستسلام .. والمقابل "العفو" عنه .
ولأنها قوانين الغابة .. أرسل يعلن الولاء للأسد ، الملك الأوحد راعي قوانين الغابة.
هجم الوحوش ونالوا من الأرنب قتلا وذبحا ولما انتهوا ..عقدوا العزم على الفتك به ..قال وهو في سكرات الموت : أليست بيننا عهود ؟!
ضحكوا : وهل في الغابة عهود؟!
*الأحرار مايو 1995
......................................................
عبث الطريق
كثيرا ما قادتني خطواتي لدرب الذكريات ، أعبث بها حينا وتعبث بي أكثر الأحيان.
ألملم أحشائي المنفرطة خارج حدودي .. ألملم ذكرياتي وأحزاني.. فأتساءل : أكانت هذه جناني القديمة ؟!
تأخذني العبرة المجتمعة في عيوني فأتمتم : متمردة يا أيامي.
ألمح العصافير التي كانت ترفرف في السماء بجناحيها .. تشدو بأغنيات الصدق والوفاء وقد صارت غربانا تنعق زمانها ، وتواسيني في قبح أوهامي.
أتساءل لأين غدت تلكم العصفورة الرقطاء التي أميزها بألوانها المتنوعة .. لطالما تراقصت فوق غصن الشجرة التي ذبلت هناك .. أطارت تبحث عن شجيرة ومكان جديدين وأخدان وجرحى أخرين؟
المسافات تطول .. وما هجعت أبدا بالبعد خواطري ..فأهمس : متمردة يا أيامي .
تأخذني خطواتي للأعماق .. رجفة تمسح بدني .. تتثاقل قدمي .. وكأني أفتح بابا طالما خشيت مكامنه .. كأنني أهاب المسيرة .. كأني أخشي الفضول .. أو الرجوع.
ألأن هذه الأرض قد شرفت بأن حطت أقدامها عليها؟! ربما..
أحنو ببط ..تقبض يدي حفنة من تراب الطريق .. أشتم رائحة عرقها وقد زيفه البارفان.
أتنطط فرحا .. شئ من دوحها الخضراء الذكية.. الثرية قد عاد إلىّ .. وأنا مشتاق.
..................................الفصل الثالث
ونكتشف أننا نجري خلف السراب
..........................................
نزوة
تجمعت حبات من الدموع فى مقلتى .. هذا المساء .. أريد أن ابكي .. كنت متمسكا .. لمجرد أنه لا ينبغي البكاء لرجل.. تزداد الحاجة إلى البكاء .. ما عدت قادر على الاحتمال .. إذن فلأبكى هذه المرة وفقط ..أحاول .. ثانية.. وثالثة.. ورابعة.
يزداد شعوري بالحاجة إلى تفريغ القدر الفائر فى صدري حتى لا ينفجر .. أو لكي ينفجر.. لكنني لا استطيع .. ابحث عن الخلاص مهما كان .. أجده.. إذن فلأضحك!!
عسى يبرد صدري .. ربما.. أحاول .. وقتها تدفقت الدموع .. وانهرت باكيا .. وأخذ هذا الشئ الهائج والذي لا أعرف كينونته في الاستقرار.
الآن أشعر بالراحة .. فليتوقف هذا الدمع حتى لا يراني الناس تساءلت: ترانى لماذا افعل ذلك حينما أكون بمفردي ؟ترى لماذا؟
لم تلبث ساعات قليلات حتى عدت لنفس الخور .. وعاد الثور لنفس رعونته.
لكنني كنت أكثر ثقة..الوسيلة معي والانتصار حتمي.. أعدت الكرة مرة .. فيخذلني السلاح .. وتقفز دمعه يتيمة من عيني .. فما أشبعتني.. وشعور بالانكسار قبع داخلي .
مما تراني منكسر؟!
ليننى كنت استطيع أن ابتسم في وجه هذا السؤال المزحة!!
كثير من أمور حياتي ليست على ما يرام .. أيكون بسبب الالتزامات المالية الكثيرة؟!
لا اعتقد.. فلقد تعرضت لأزمات أشد من قبل واستطعت حسمها لصالحي كما أن وقع الحياة على الكثيرين اشد سوءا منى.
أم تراه بسبب تدهور الحالة الصحية وزيارتي المتكررة للطبيب بسبب متاعب في القلب والتنفس؟!
لا اعتقد أيضا .. فهذه الاضطرابات موجودة منذ القدم ولكن رغبتي في البكاء أمر جديد.
الغريب أنني لا اشعر بأي من النقيضين .. لا الحزن ولا السعادة .
أنا لم اعد قادرا على التفكير .. يختنق صدري.. ارتديت سترتي التي كنت قد نزعتها من على جسدي منذ ساعات .. وحرصت على ألا اقفلها حتى نهاية رقبتى .. دلفت بسرعة في الشارع.. عساه يجعلني أعود طبيعيا .. تركت العنان لقدمي تقوداني ... وكنت لا أبصر الطريق ولا خيالات الناس .. وشعرنا وكأن قدرتي على التفكير قد شلت تماما .. لا ولم تسترد جزئيا ألا أثناء وقوفي أمام أحد الأبواب .
انه باب يشبه لى وكأنه أحد مداخل الجنة .. حيث تقطن داخله من تعرفت عليها منذ زمن ليس ببعيد .. وصارت تشغل معظم فكرى ومخدر أعصابي. وقتها أدركت ما ثار فى صدري وتجمع خلف مقلتى .
وصاحت ياللجنان !! كيف هذا بين أهلى والجيران .. ومنتصف الليل .
وقذفتني بيدها.
انصرفت خجلا ... ورغم ذلك تذكرت شيئين أحدهما أننى كنت قد زرتها من وقت قصير ولكن لم يتسن لى الحديث معها . والأخر كنت |أعرف مدى إدراكها حبى الشديد .. ولذلك ستغفر لى . وعلى كل.. رغم بشاعة ما فعلته.. ألا أنني كنت سعيدا .. هادئ البال . وهو ما أثار دهشتي .
...............................................
ترف
عندما كنت صغيرا .. كنت كثير الشكوى من أى شئ تكدرني وظللت هكذا حتي سنوات قليلة مضت.
وكان البعض يتهمونني بالترف وكنت لا أصدقهم ، بل أسخر منهم لسوء تعاملهم مع شكايتي.
في أول تجربة حب .. فتاة يحبها عقلي وأخرى يحبها قلبي.. وكنت لا ادري ما حقيقة مشاعرهما نحوي .. ظللت اتشوق حبا ولكني لم أستطع البوح بمشاعري للأخرين حتى لا يتهمونني بالجنون.
وحينها استطعت تفهم اتهام الناس لي بالترف.
• نشرت في الفجر العدد 15
.................................................
جنس ثالث
تأقلم جلده السميك على تقلبات الطقس ..لا برد يشعر ولا حر .. ملابسه تحمل من القاذورات أكثر من القطن ..كل الشوارع مسكنه وأسفل أي جدار يريد أن ينقض ينام.
يلتحف سماء الشتاء وشمس الصيف .. تجمع بينه وبين القطط والكلاب الضالة عشرة عمر .. يعطفون عليه فيمنحونه جزءا من طعامهم.
بعض الكلاب السوداء تخشى أن يصبح هذا البشري منافسا لهم في رزقهم.
حينما كان يسير في الشارع المزدحم الى حيث لا يدري يزداد الناس اشمئزازا على اشمئزازهم المتأصل .. يفسحون له طريقا خشية أن تزكم رائحته النتنة أنوفهم.
أما النسوة فكن يتجنبن حتى إلقاء نظرة عليه خوفا من أن تطاردهن في احلامهن كآابة المنظر
هو فقط كان يعرف أنه نكرة ,, لا يعترف به أحد ولا يراه ..لذلك لم يندهش من انصراف الناس عنه ,,فدائما يبتعدون عن أي كائن غير بشري
كان داخله يعترض على أنه حيوان ..كان معتقدا أنه ومن هم على شاكلته جنس ثالث.
.......................................................
أرقكنت مضطربا أيما اضطراب لذلك بحثت في صيدليتي الخاوية عن حبوب مهدئة فلم أجد ..تناولت كوبا من "القهوة" لعلي أنام ..لكن فشلت المحاولة.
فعلت مثلما أفعل عادة في أحوال الأرق .. أمسكت بالقلم والورقة .. واعتقدت أنني سأنزف كتابة ..لكنني وجدت نفسي لم أفعل سوى شخبطة كثيرة .. كلمات ..مشاعر متدفقة .. لكنها ناقصة ومتناقضة.
ظللت هكذا حتى الصباح ..عينان مثقلتان بالنوم وجسد طريح الفراش الوثير ..لكن لا نزم يأتي.
ارتديت ملابسي وذهبت للمشوار الذي كنت أعددت له بالأمس .. حين قابلتها سألتها عن موقعي ..فقالت لم يتحدد بعد.
تركتها واستقللت ميكروباصا في رحلة العودة .. ولا أخفي إنني كنت غاضبا جدا لكنني رغم ذلك أخذت أغط في نوم عميق ..في الميكروباص.
· الفجر العدد 20
.................................................
رهاب
قرر بعد عدة قرارات مشابهة ..أن يسكب على عاطفته الجليد .. وسيلته الابتعاد ..فقط أن يبتعد عن كل ما يذكره بها لأقصى درجة ..حتى انه أخذ يتحاشى أن يشاهد أو يذكر أسم زميلته أمامه التي تصادف انها تحمل نفس اسمها.
لكن القرار الأخير كان أكثر جرأة وصرامة من سابقيه حيث احضر زجاجة نبيذ رديئة النوع – كطبيعة المناسبة رغم انه للا يتعاطى الخمور – واحضر صورتها التي أهدتها له في لقثاء قد لا يتكرر أبدا.
شرب من الخمر حتى ثمل فاقدا قدرته على الإدراك بينما كان قد اشعل النار في الصورة .. رغم انه لم يدرك ماذا فعل إلا انه استبدل ضحكاته الهيستيرية بالبكاء وارتمى على الفراش حتى راح في سبات أحزانه.
في الصباح كان منطق العقل يوحي له بالرضا عما فعل البارحة لكنما ألم الفراق لا زال يعتصر الفؤاد.
رن جرس الهاتف ليكسر حاجز الصمت ..أسرع ناحيته .. كان الهاتف بخصوص أحد أقاربه المرضى في المستشفى .. أسرع يرتدي ملابسه .. وأمام إحدى الغرف هناك وقف يتحسس حضور الداخل ..فجأة شعر بقشعريرة تعتري جسده .. لأنه فقط سمع صوتها .
كان يستطيع ان يتراجع ويذهب .. لكنما قادته قدماه إلى الدخول في الغرفة .. تمنى لو أن تكون هناك حقيقة ما يسمى بطاقية الإخفاء كي يرتديها فيراها ولا تراه.
فقط أراد أن يشاهد ما فعلته بها الأيام ..ارتطمت عيناه بعينيها .. لكنه أبدا لم يخجل .. هي من أصابها الخجل وأنهت اللقاء الإجباري الذي كان يمكنها ألا تحضره إلا رغبة في هذا النظرة الحانية.
لم يصدق الناس أن الحب الذي لم يأتي بقرار ..لم يرحل بقرار ويكسر حتى قوانين الرهاب.
*السياسي المصري يونيو 2001
..............................................
قالوا ..جن
كل ورقة في كتب دراسته عليها اسمها ..على حوائط حجرته ..حتى قميصه الذي اشتراه مؤخرا كتب عليه حرف من اسمه وأخر من اسمها..حينما يسير في الشارع أمام بيتها كان يتطلع إلى الأبواب والشبابيك عسى أن تكون خلف إحداها فيراها أو تراه ..كم من مرة ابتسمت له وهي تقف خلف الباب الذي فتحته خلسة مواربا .. ومرات أخرى وقف هو على ناصية الشارع يترقب فتاته في البالكون في مواعيد نشر الغسيل التي كان يعرفها جيدا.
حادث أمه ذات يوم في أمره فأخبرته انه ما زال صغيرا ولا يمكن له ذلك الآن .
شط ذهنه ..اخذ يهذي في نومه و صحوه بها .. شكا حبه إلى شباب القرية وكثيرا ما اختلق لهم حكايات عن غرامه ورسائله التي بعث بها إليها
وصلت تلك الحكايات إليها وعز عليها أن يشهر بها من كانت تثق فيه .. اعترفت لوالدتها بأنها ستعاقبه بقبول أول طارق يطلب يدها بعدما رفضت في انتظاره الكثيرين.
تقدم لخطبتها شخص في يكبرها بعقدين وثروة في البنك وفقط .. وقبلته تحت ضغط كبريائها ..وحصار الشائعات .. وشاع الخبر.
بينما ما يزال المسكين يكتب لها رسائلا ويلقيها في جدول الماء .. وكثيرا ما سمع همسات هنا وهناك تؤكد انه "جن".
· الأحرار أغسطس 2007
......................................................
اسقاطتان
*ارتداد
كل صفاتها تجذبه إليها ..زرقة عينيها كالبحر .. شعرها الهادر على كتفيها ..كلماتها ذات مفردات لا تعرف تورية .. أما قلبها فيتسع لكل العالمين .. ولكن ما يخلب قلبه فيها عدم انجذابها إلى شباب يشاركها أنوثتها في كثير من الصفات ..شعر طويل ..سلسلة على الصدر .. وأشياء أخرى.
تقدم لخطبتها بخاتم من نحاس ..وكان ميعاد الزفاف بعد العام .. مر العام تلو العام فلم يجد الشقة بينما نضب معين الأحلام واعتلى الصدأ الخاتم في يدها .. كان يسير ذات يوم في الشارع .. هاله الموقف .. كانت تحادث شابا من هؤلاء الآخرين .. كانت تضحك بينما أخذ يضم يدها إلى صدره.
*اختلاف
كانت رائعة يخطف جمالها أنظار المبدعين وتسلب رقتها شباب كثير .. ولكنه لا يدري لماذا لم يتورط في إعلان حبه لها كما فعل كثيرون.. فضل التألم دون تأوه .. ربما لإيمانه بحقيقة ضعفه في منافسة الغير.
ما زال يسكن الشارع ويأكل في المطاعم ..وربما لأنه افتقد أيضا موهبة الخداع والتخبئة..كان حجم السعادة تماما حجم الخجل حينما شعر بمراقبتها له من خلف الشباك.
اعتقد أنه سيكون مثار عطف لا حب.
قال لا أعرف لماذا حين أحب لا أكره أبدا ولكنني أخشي نظرات الناس.
أرسلت تقول له : يعجبني فيك أنك لا تعيرني بالا ..فأنت مختلف.
· السياسي المصري 17فبراير 2000
......................................................
باليرينا كانت تتلوى في حيوية منقطعة النظير وكأنها مصنوعة من مطاط أبيض تباهي الفنان الأعظم بصنعها على تلك الهيئة ..وكان إيقاع الموسيقى الكلاسيك ينسج صمتا في القاعة ممنوع اختراقه من ذوي الياقات النظيفة ورباطان العنق والشعور البيضاء وهم معظم الجمهور.
كان عليها كي تجيد في أول عروضها أن تتجاهل كل مؤثر خارجي.. تقمصت شخصية من عرفت .. فعشقت .. وفشلت ..فانتحرت.
الكل كان يراها ولكنها لم تر سوى العاشقة البائسة نفسها ..في نهاية العرض تمسك بسكين كي يخترق صدرها ..فتموت ويسدل الستار.
ولكنها تريد عرضا فائقا لا ينخدع من شاهده ليلمع اسمها بعده .. لتجد نفسها تصرخ بقوة وقد اختبأت السكين في جسدها وتسقط على الأرض.
هنا انفعل الجمهور لهذا الجنون ودوى تصفيق في القاعة بينما كان هذا هو عرضها الأول.. والأخير.
*الأحرار 2 أغسطس 1996\
...................................................................
مجنون
كانت الشمس بالغة القيظ حتى ليخيل إليك أن الحوائط الطينية تبخر رطوبة عالية من باطنها مما يزيد الشعور بضراوة اللهب الذي يكاد يجعل الحجر يفلق من فرط سخونته.\في ظهيرة أحد الأيام من شهر يوليو، تكاد الطيور تنتحب من سخونة الاوكسيجين وهى راقدة فوق أغصان الشجر الساجية.
وكانت بيوت القرية الطينية شديدة التلاحم والعشوائية والقذارة، لكنما هناك بيت واحد شذ عن التلاحم ، لينفرد بنفسه وسط الزراعات البعيدة وكأنه يعلن اعتزاله ,
كان البيت الصغير مكونا من غرفتين من الطوب اللبن و "دقت" أمه طلمبة عتيقة ويحيط بهما سياج واسع من نبات الذرة والغاب اليابسين الملطخين بالطين.
يقطن هذا البيت شخص معروف عنه لدى الجميع "الهوس" .. فهو أحيانا يتحدث إلي نفسه رغم انه أعزب وسنه قارب العقد الخامس .
البعض أحال هوسه إلى عزوفه عن مجالسة الناس أو إلى عدم زواجه رغم تقدم سنه .. أو إلى دمامة وجهه وعدم اتساق منظره ، شعر أصفر ووجه صغير أسمر وقامة طويلة لا تعرف الاستقامة مع نحافة شديدة.
كان الصبية عادة ما يرومون الذهاب إلى بيته البعيد ليتصنتوا عليه خلسة ، أو ينظروا إلى ما يفعل من خلف النبات اليابس ، كانوا يسمعونه يهذي ويرنم ويبكي ويضحك في أن واحد.
كان يرقص مع نفسه مستعينا بطبق من الألمونيوم يستخدمه كـ"طبلة" ، وكانوا حذرين جدا منه لأنه لو اكتشف أن أحدا يتجسس عليه فلن يتركه إلا بعد عقابه بأن يعلقه في جذع شجرة الجميز الضخمة حتى يأتي ذووه ليفكوا وثاقه ، وكان إذا اكتشف أنهم يراقبونه يخرج فيجري خلفهم ، ويجرون هم ويرددون "المجنون ..أهو أهو".
ويا لشر من يسقط منهم في يده فقد عرفت عنه قوته الخارقة التي لا تتناسب مع حجمه.. فإما الشجرة وإما أن يلقي به في الترعة .
المدهش انه كان يعلم انه غريب الأطوار ..ولكن ماذا يستطيع أن يفعل وكل ظروفه لابد أن تجعله يصير كذلك ؟!
جلس ذات مرة فوق جذع النخيل اليابس متدبرا أحواله ..كيف كان ؟! وكيف أصبح ؟!
لماذا رفضته نادية حينما تقدم لها في العشرينيات من عمره ؟!
ترى كيف حاله الآن لو وافقت عليه؟..بالتأكيد سينعم بصحبتها وبالحياة السعيدة مع الأولاد والأحفاد الذين كانوا ربما الآن يتنططون هنا وهناك ، يملئون هذا الحوش الضخم الملئ بالشمس والوحدة.
تنهد ، وتكورت دمعة ساخنة على خده مسحها بكم ثيابه .
تمتم: فليسامحها الله.. لم تدر بعد بأن يقاسون بأخلاقهم وعواطفهم وليس بجمال منظرهم .. ولو كانت تدري حجم حبي لها ما كانت أبدا ترفضني لان حدود الحب انتهت عندي.. لن ينافسني أحد عليها .
واستطرد يفكر: لقد فشلت عدة مرات في عالم البشر، ليس بيدي خلقتي.. إنني قلب وروح ..ومشاعر الرجولة.. والإنسان.
ياه ! بالغ السوء أن يدرك إنسان مبكرا أن مستقبله أيضا مظلم ..وأنه سيقضي باقي عمره كله تعيسا .. حينما يجرد من سلاح الأمل في الغد ..إنه انكسار شديد.. لا يطاق.
عاد ليرفع صوته: أم الهنود..أم الهنود.
واصل يفكر :أم الهنود ..قدَر الله .. القشة التي تعلقت بها ..تمثلت لي فيها الحياة .. لقد غيرت مجرى حياتي.
وفكر مبتسما : لقد خفت منها في بادئ الأمر.. لم أخف في حياتي كلها ولن أخاف من شئ كما خفت منها حينما خرجت من الحذاء القديم الذي كنت اضرب به أم رأسي في لحظة نزق انتابتني بعد الاهانة التي وجهت لي من رفض نادية لي.
خفت منها وقتها ..لكنني تعودت عليها .. أنها جنية صالحة .. وأظن إن عالم الجن كله لا يخيفني بعدها .. لقد تعرفت في شخصها على هؤلاء الجنس .. ولا داعي للرهبة .. أنهم خلق الله أيضا.
لقد عوضتني أم الهنود الكثير وأعطتني ما لم يعطه لي البشر.
ضحك ساخرا : المدهش أنها أحبتني .. الوحيدة في هذا الكون التي أحبتني .. أظن أن أمي نفسها لم تحبني مثلها .. وهى مفرطة الجمال وشاهدت فيها الجميلات ..وأنا.. لا داعي.
قالت لي أول مرة بعدما هدأت من روعي :
أحببتك منذ ألاف الأعوام..وتعلقت بك حينما رأيتك تقسو على نفسك فأخذت إذنا من أهلي لأن أخرج لك ..وأصررت على موقفي .. بل هددت بالانتحار .. لكنهم والحمد لله وافقوا فحضرت لك وأنا في غاية السعادة.
حضرت أم الهنود من داخل الغرفة والأريج يسبقها بوجه غاية الجمال مشوب بلون وردي طبيعي .. وعينان زرقاوان صافيتان ..وقوام ممشوق كأحسن ما يكون القوام ..وشعر أسود شديد السواد ، طويل يلاصق قدميها .
همست بصوت وكأنه خرير ماء :أمرك حبيبتك بين قدميك.
أخذا يتراقصان ويغنيان سويا ولما شعرا بالإرهاق جلسا على "دكة" خشبية وجلست بجواره في لحظات ود
قالت له :سأعد لك طعاما فما تشتهي؟
:ما تختارين لي
شعر وكأن صبيا يتجسس عليهما فأخبرها أنه سيطارده ويعود حين إعدادها الطعام.
طلبت منه أن تطارده هى فرفض خشية ان تؤذيه وهو لا يراها.
خرج جريا خلفه ثم عاد سريعا ليجدها قد دخلت أم الهنود غرفتها التي حذرتها من أن يدخلها دون استئذان.
ثلاثون عاما ولم يجرؤ أبدا على كسر قواعدها الصارمة ، لابد من التحرر قليلا بعد هذه العشرة
ماذا تفعل ترى داخل هذه الغرفة حينما تكون بمفردها؟
هكذا تساءل وأجاب : العشرة بيننا طويلة ولابد أن المحاذير كلها قد زالت.
إذن فليجرب ..وبعد ذلك يقنعها بضرورة رفع هذه القيود وستوافق.
بحذر شديد ضغط بيده على جزء من الباب ليستطلع ما تفعله.
يا الله ..لا يمكن ..مستحيل ..ما هذا الشئ بالغ القبح.
هكذا قال حينما فتح غفلة باب حجرتها.
يا ربي ..شئ غير مقبول .. إناء الطعام يغلي فوق أصبع الإبهام لساق طوله 3 أمتار مفرود أمام كائن قبيح يجلس على الأرض ويفرد ساقه أمامه.
تساءل ما هذا الكائن ذو الثلاثة أعين والرأس الصلعاء والجلد الأجعد؟
رهب رهبة كبرى حتى صعق من هول ما رأى ..فسقط أرضا ليكمل فتحة الباب على مصراعيه
تنبه الكائن بما جرى فأشاح بيده ليشب في البيت حريق لا يبقي منه شيئا.
أهل القرية قالوا أن المجنون انتحر وحرق بيته.
.......................................................
سراب
بعد الفجر خرج ليختلس جزءا من نسيم الصيف على شاطئ النهر العتيق قبل أن تلوثه شمس الصباح .
يشكو له همومه التي كثيرا ما أطلت عليه من رائحة جوربه المفتوح من الجانبين ومن الربع جنيه المخروم الذي يختزنه بالكاد لشراء ثلاث سجائر (فرت ) ومن تكشيرة حماته كلما قصد زيارة خطيبته .. حركت ضحكاته المكتومة مياه النهر حينما تذكر عبارة كان لا يفهمها فى طفولته رددتها كثيرا خالته : ( الشاطرة تغزل برجل حمار )!
استرسل يضحك ويضحك حتى توقف فجأة على بريق مئات القطع المتناثرة فى بقعه صغيرة فوق الرمال .. اقترب وانحنى يمعن النظر فى بعضها .. تأكد من كونها أحجار كريمة فصرخ منتشيا :أحمدك يا رب.د
خلع سترته وشرع في جمعها ولما فرغ جلس يستعجل الشمس ويخطط لمستقبله الميمون ، عماره،مرسيدس، سيجار مثل نجوم ((السيما))الذين يشاهدهم فى تليفزيون الجيران ..حتى حماته النكدية لابد أن يستبدلها .
ولكن حينما بدا قرص الشمس يخرج من قمقمه ..ذابت الأحلام والأوهام ليكتشف ان كل ما جمعه ليس سوى بلورات زجاجيه أهملها الأطفال بعدما قضوا حاجتهم من اللعب بها.رغم قصر مده الحلم وقسوة الحقيقة إلا انه عاود الضحك متسائلا :لبكن كيف يا خالتي الشاطرة تغزل برجل حمار ما دام لا يوجد نسيج ،ولا رجل حمار .
...............................................
رنه هاتف
في هذا الصباح ...لم أكن بعد فتحت عيني وأنا ملتصق بالسرير ككم مهمل منذ مساء البارحة ..
كم كانت ليله مفرطة السكون وكم كنت إنا أيضا مفرط في التوتر..كنت اسمع دقات ساعة الحائط وكأنها طبول حرب أوشكت .. وأسمع صفير الهواء في انفي فيهيأ لي إنني امتلك شكمان سيارة فيه.. كانت ليله طويلة جدا ولكنها حمدا لله..انقضت
لم أكد أتململ فوق سريري حتى رن جرس هاتف بجواري..وهو ما تطلعت له منذ زمن بعيد .
عزمت على النهوض بسرعة.. لكن قبلما .. وفى ثوان معدودات يتأكد عزمي ..لم تكتمل الرنة سمعتها كما لو كانت مبتسرة مقهورة مخلفة ورائها جثة ميتة .. حتى إنني ظننت لبرها إنني لم اسمعها 0
ترى من الذي رن على جرس الهاتف تلك الرنة المقتضبة التي لم تدم طويلا ؟!
لابد انه يعوزني فعلا .. غريب ذلك ..فالجميع تؤكد ملامحهم –حين مقابلتي- أنهم لا يعرفونني ومن يعرفني منهم لا يحتاجني إلا شاهدني صدفة إمامه.
لكنما لاح ثانيه ذلك السؤال الذي يكاد يضحكني من فرط غبائه.. لماذا اشتريت الهاتف؟
إنني لم أخاطب أحدا عن طريقه سوى عن طريقه سوى عامل الهواتف حينما اتصل ليطمئن لوصول الحرارة.
آوه.. ما زلت أبحث عن إجابة ..من ترى الذي حاول أن يطلبني .. إنها سابقة فريدة تستحق الاهتمام.
حاولت النهوض من فوق سريري لكنني استرخيت أكثر .. بل تعمدت تأخير فتح عيني حتى امنح فرصة أكبر للتفكير والتركيز.
أيكون بائع السجائر الذي تركت عنده باقي الخمسة جنيهات .. انه رجل طيب حقا .. لو كان احد غيره ما كلف نفسه هذا الفعل .. ولكن من أتى برقم هاتفي؟.
أو ربما يريدونني في العمل لأمر هام لكن ماذا ترى هذا الأمر الذي يجعلهم يتصلون بي ؟ أنهم لم يوكلوا إلى عملا بعد فانا مستجد لا يعرفه معظم رفاق حجرته ..ثمة ان هذا اليوم .. ويا لغبائي ..هو يوم الجمعة.
أتكون والدتي أرادت الاطمئنان على في غربتي ؟ أنها منذ إن رحلت عن بيتنا القابع في حضن الجبل لم تتصل بي ..خمسة سنوات على فراقي ..كم هي قاسية ؟ أتصبر على فراق ضناها خمسة أعوام دونما تحادثه لمجرد انه رفض رغبتها في أن يبقي مع أشقائه لخدمة الفلاحة في القرية الصغيرة ..إنني لا أجيد هذه الأعمال التي تفني الإنسان بداخلها وتعلقه في حبائل الحظ ومن الطبيعة .. لكنه ليس خطأ كبيرا استحق عليه الهجر والنسيان .. ربما لا يكون الأمر كذلك ..ويا ليته .. فأنهم لا يمتلكون هناك هاتفا ولا عنوانا لي.
بالتأكيد هى الفتاة الوحيدة التي اعرفها ..فتجاربي مع هذا الجنس قليلة ..لقد تكلمت معها ..كان مجرد حديث في شئون عامة وذلك لأنني تعودت ألا أكون مبادرا وربما للسبب ذاته ألمح اتهاما لي من الناس بأنني "براوي".. حينما حدثتني شعرت بأن للكلام معان غير تلك التي اعرفها .. ربما هى أيضا شعرت بما أحسسته أنا .. ربما .. وربما لا .. لأنني شاهدتها تتأبط ذراع شاب ذات مرة.
كدت افتح عيني وانهض من سريري حتى حدثت المفاجأة المذهلة ..لم أكد أصدقها .. أن الهاتف يعاود الرنين ثانية ..صبرت ..لا لم أصبر ..بل ترددت أأصبر حتى تكتمل الرنة أو أن ألتقط السماعة ؟
ترددت .. اكتملت الرنة .. وصمتت .. ثم واصلت تدفقها ..انتفضت فرحا .. فتحت عيني ..في لمح البصر كانت السماعة في يدي ..ألو .. من؟
: لا النمرة ..غلط.
•الأهرام المسائي 25 مارس 2001
.................................................................
في بيتنا نقَّاش
جاء الرجل بالنقّاش إلى البيت.. والنقّاش هو اللفظ المصري الذى يُطلق على فنى الديكورات .. ليعاين الشقة .. وبعد أن عاينها سارع لممارسة العمل .. دون أى اتفاق لا على الأجر ولا الطلبات ..طالبه رب البيت بالتوقف عن العمل لحين الاتفاق على المراد إنجازه والأجر اللازم ..فما كان من النقَّاش إلا أن استل سكينا وعاجل بها صاحب البيت في قلبه.. ووسط ذهول أبناء الرجل راح النقَّاش يسكب مواد حارقة على الجثة ويشعل فيها النار.. ولما خمد الحريق قام بإلقاء الجثة من النافذة.. وحينما ثار الأولاد الصغار على ما حدث انتقاما لدم أبيهم .. راح النقَّاش يصيب منهم بآلته الحادة من يصيب ويحبس منهم من يحبس في إحدى الحجرات.
وبعد ذلك أغلق الباب بالضبة والمفتاح وراح يمارس عمله في انتشاء وسعادة وكأن شيئا لم يحدث.. لكن ثمة أصوات بكاء وتأوهات وهمهمات تخرج بين الحين والأخر هنا أو هناك من بين أولئك المصابين وهؤلاء المحبوسين فكانت تثبّط من حماسته وتقلل من شعوره بالسعادة.
قال موجها كلامه إليهم : ها أنا ذا أقوم بطلاء حوائط شقتنا.. وأزيل من على جدرانها ملامح الكآبة والألوان الباهتة الحزينة.
اخذ أحد الأولاد يتقلب على الأرض في محاولة لاستجماع قوته .. فعاجله النقَّاش بضربة قوية من عصا كانت بجواره علي رأسه فسقط مغشيا عليه وراح يوجه له كلامه : سأطليها بألوان زاهية تجعل من هذا المكان تحفة فنية رائعة.
راح يدخن سيجارته .. وفتش في "جيب بنطاله" على كبسولة "الترامادول" التى التقطها وابتلعها بسرعة بينما كان يتأمل الحائط بدقة .. هل أدهنها بالمعجون أولا وكم مرة تري يجب أن أفعل ذلك أم أقوم بطلائها ـ"بالبوية" بدون المعجون ثم أضيف عليها لمسات جمالية ورسوما معينة .. أم أقوم بلصق ورق حائط ملون عليها .. أم كل هذا.
واصل الصمت والتفكير ثم حزم أمره أخيرا .. سأفعل كل هذا .. حتى لا يقولوا إننى أبخل على نفسي.
تململ الولد مرة أخري.. وراح يسعى للنهوض في حذر بالغ .. فنظر إليه النقاش نظرة ضجر.. وقال له: دعنا نكمل عملنا .. لا يمكننى الانتظار كثيرا على هذا الشغب .. يمكنك أن تستمتع بمشاهدة الانجازات التى تحدث في الشقة.
همّ النقاش ليشير إلى علب ألوان خضراء وحمراء وصفراء وقال : هذه هى الألوان التى سيتم طلاء الشقة بها بدلا من الألوان الكئيبة التى كانت من قبل.
ثم أشار إلى أشكال جبسية مزركشة وقال: هذه سوف توضع في الأسقف وتتخلها مصابيح خافتة وأخري ناصعة.
ونظر إلى الأرض فقال: وهذه الأرضيات أيضا سيتم تغييرها بأنواع فخمة من الرخام.
علت دقات الاحتجاج من خلف حجرة الحجز.. اشتاط النقَّاش غضبا .. نظر حوله وكأنه يبحث عن وسيلة عقابية ناجعة .. فأخذ مواد حارقة معه وفتح باب الحجرة وقام بسكبه فيها .. وامسك بعود ثقاب مشتعل وهدد من فيها بأنه إن لم يصمتوا سيقوم بإلقائه على المادة الحارقة ليحترقوا.. فصمتوا ..فاطفأ عود الثقاب .. وسبهم باقذع الألفاظ وعاود إغلاق باب الحجرة جيدا.. وساد الصمت.
خاف الولد أن يتكلم والتزم هو الأخر بالصمت .. بينما حدق النقَّاش فيه قليلا وقال له: أعرف أنك ولد طيب.
ثم ذهب إلى الثلاجة وأحضر ثمرة تفاح وقدمها له وقال: يبدو أنك من الشخصيات المجتهدة التى لا تضيع الوقت في التربص والحقد والكراهية.. يجب أن ننطلق سويا لتعمير هذا المكان وجعله جنة من جنان الله سبحانه وتعالى في الأرض.
صمت وواصل الحديث بينما بدأ عمله: ربنا سبحانه وتعالى خلقنا لتعمير الارض وليس تخريبها.. ولكن هناك من يسعون للتخريب .. ورفض التعمير والمدنية.. هم مستعدون لقتل كل من يقف في طريقهم.. لأنهم أهل جريمة وارهاب.
استمر النقاش يحكى ويحكى بينما الولد ينصت إليه..هنا دق باب الشقة بقوة ..فرح الصبي كثيرا باعتباره الفرج.. بينما انزعج النقاش بشدة ..فمن هذا الى يقتحم عليه خلوته ولا يعتبر لحرمات البيوت.. تحسس سكينه ومادته الحارقة وفتح الباب .. كان الجيران غاضبون بشدة من العثور على جثة متفحمة اسفل النافذة .. واستنكروا أن تُلقَي الجثثُ المتفحمة بهذا الشكل في الشوارع..دون يتم القائها في صناديق القمامة اعتبارا لحرمة الموت.
وراحوا يطلبون من صاحب البيت العون في إزالة هذه القمامة ..ابدى النقاش تعاطفا كبيرا مع الواقعة وقال إنها لوالد هذا الصبي .. فقد قام أخوته بفعل هذا به .. وأنه أمسكهم وحبسهم في الحجرة تنفيذا للعدالة.
أخذ الجيران يتندرون من عقوق الأولاد وأشادوا بعدل النقاش وسعيه للقصاص.
كان النقاش قد قام بكل مراحل الديكورات ولكن بطريقة حديثة .. فبدلا من أن يقوم بطلاء الحوائط بالمعجون ثم الطلاء أو المعجون ثم أوراق الزينة راح يضع الطلاء والمعجون وورق الزينة فى خلطة واحدة .. ما بدا معه منظر الحائط مثيرا للتقزز.. دخل الجيران الشقة وراحوا يتأملون النقاشة.. فانقسموا بين نفر يعتبرها مجرد "شخابيط" تعبر عن قصر أُفق وبين رهط اعتبرها "فنا راقيا يعبر عن الحداثة" بل إن بعضهم جزم بأنه فنان عالمى.
وأخذوا يحجزون مواعيدَ منه لتنفيذ هذه الأعمال في بيوتهم ..هنا أدرك الصبي أنه وحده من يستطيع تحرير أشقاءه والقصاص لوالده من "القاتل"
بعد الفجر خرج ليختلس جزءا من نسيم الصيف على شاطئ النهر العتيق قبل أن تلوثه شمس الصباح .
يشكو له همومه التي كثيرا ما أطلت عليه من رائحة جوربه المفتوح من الجانبين ومن الربع جنيه المخروم الذي يختزنه بالكاد لشراء ثلاث سجائر (فرت ) ومن تكشيرة حماته كلما قصد زيارة خطيبته .. حركت ضحكاته المكتومة مياه النهر حينما تذكر عبارة كان لا يفهمها فى طفولته رددتها كثيرا خالته : ( الشاطرة تغزل برجل حمار )!
استرسل يضحك ويضحك حتى توقف فجأة على بريق مئات القطع المتناثرة فى بقعه صغيرة فوق الرمال .. اقترب وانحنى يمعن النظر فى بعضها .. تأكد من كونها أحجار كريمة فصرخ منتشيا :أحمدك يا رب.د
خلع سترته وشرع في جمعها ولما فرغ جلس يستعجل الشمس ويخطط لمستقبله الميمون ، عماره،مرسيدس، سيجار مثل نجوم ((السيما))الذين يشاهدهم فى تليفزيون الجيران ..حتى حماته النكدية لابد أن يستبدلها .
ولكن حينما بدا قرص الشمس يخرج من قمقمه ..ذابت الأحلام والأوهام ليكتشف ان كل ما جمعه ليس سوى بلورات زجاجيه أهملها الأطفال بعدما قضوا حاجتهم من اللعب بها.رغم قصر مده الحلم وقسوة الحقيقة إلا انه عاود الضحك متسائلا :لبكن كيف يا خالتي الشاطرة تغزل برجل حمار ما دام لا يوجد نسيج ،ولا رجل حمار .
...............................................
رنه هاتف
في هذا الصباح ...لم أكن بعد فتحت عيني وأنا ملتصق بالسرير ككم مهمل منذ مساء البارحة ..
كم كانت ليله مفرطة السكون وكم كنت إنا أيضا مفرط في التوتر..كنت اسمع دقات ساعة الحائط وكأنها طبول حرب أوشكت .. وأسمع صفير الهواء في انفي فيهيأ لي إنني امتلك شكمان سيارة فيه.. كانت ليله طويلة جدا ولكنها حمدا لله..انقضت
لم أكد أتململ فوق سريري حتى رن جرس هاتف بجواري..وهو ما تطلعت له منذ زمن بعيد .
عزمت على النهوض بسرعة.. لكن قبلما .. وفى ثوان معدودات يتأكد عزمي ..لم تكتمل الرنة سمعتها كما لو كانت مبتسرة مقهورة مخلفة ورائها جثة ميتة .. حتى إنني ظننت لبرها إنني لم اسمعها 0
ترى من الذي رن على جرس الهاتف تلك الرنة المقتضبة التي لم تدم طويلا ؟!
لابد انه يعوزني فعلا .. غريب ذلك ..فالجميع تؤكد ملامحهم –حين مقابلتي- أنهم لا يعرفونني ومن يعرفني منهم لا يحتاجني إلا شاهدني صدفة إمامه.
لكنما لاح ثانيه ذلك السؤال الذي يكاد يضحكني من فرط غبائه.. لماذا اشتريت الهاتف؟
إنني لم أخاطب أحدا عن طريقه سوى عن طريقه سوى عامل الهواتف حينما اتصل ليطمئن لوصول الحرارة.
آوه.. ما زلت أبحث عن إجابة ..من ترى الذي حاول أن يطلبني .. إنها سابقة فريدة تستحق الاهتمام.
حاولت النهوض من فوق سريري لكنني استرخيت أكثر .. بل تعمدت تأخير فتح عيني حتى امنح فرصة أكبر للتفكير والتركيز.
أيكون بائع السجائر الذي تركت عنده باقي الخمسة جنيهات .. انه رجل طيب حقا .. لو كان احد غيره ما كلف نفسه هذا الفعل .. ولكن من أتى برقم هاتفي؟.
أو ربما يريدونني في العمل لأمر هام لكن ماذا ترى هذا الأمر الذي يجعلهم يتصلون بي ؟ أنهم لم يوكلوا إلى عملا بعد فانا مستجد لا يعرفه معظم رفاق حجرته ..ثمة ان هذا اليوم .. ويا لغبائي ..هو يوم الجمعة.
أتكون والدتي أرادت الاطمئنان على في غربتي ؟ أنها منذ إن رحلت عن بيتنا القابع في حضن الجبل لم تتصل بي ..خمسة سنوات على فراقي ..كم هي قاسية ؟ أتصبر على فراق ضناها خمسة أعوام دونما تحادثه لمجرد انه رفض رغبتها في أن يبقي مع أشقائه لخدمة الفلاحة في القرية الصغيرة ..إنني لا أجيد هذه الأعمال التي تفني الإنسان بداخلها وتعلقه في حبائل الحظ ومن الطبيعة .. لكنه ليس خطأ كبيرا استحق عليه الهجر والنسيان .. ربما لا يكون الأمر كذلك ..ويا ليته .. فأنهم لا يمتلكون هناك هاتفا ولا عنوانا لي.
بالتأكيد هى الفتاة الوحيدة التي اعرفها ..فتجاربي مع هذا الجنس قليلة ..لقد تكلمت معها ..كان مجرد حديث في شئون عامة وذلك لأنني تعودت ألا أكون مبادرا وربما للسبب ذاته ألمح اتهاما لي من الناس بأنني "براوي".. حينما حدثتني شعرت بأن للكلام معان غير تلك التي اعرفها .. ربما هى أيضا شعرت بما أحسسته أنا .. ربما .. وربما لا .. لأنني شاهدتها تتأبط ذراع شاب ذات مرة.
كدت افتح عيني وانهض من سريري حتى حدثت المفاجأة المذهلة ..لم أكد أصدقها .. أن الهاتف يعاود الرنين ثانية ..صبرت ..لا لم أصبر ..بل ترددت أأصبر حتى تكتمل الرنة أو أن ألتقط السماعة ؟
ترددت .. اكتملت الرنة .. وصمتت .. ثم واصلت تدفقها ..انتفضت فرحا .. فتحت عيني ..في لمح البصر كانت السماعة في يدي ..ألو .. من؟
: لا النمرة ..غلط.
•الأهرام المسائي 25 مارس 2001
.................................................................
في بيتنا نقَّاش
جاء الرجل بالنقّاش إلى البيت.. والنقّاش هو اللفظ المصري الذى يُطلق على فنى الديكورات .. ليعاين الشقة .. وبعد أن عاينها سارع لممارسة العمل .. دون أى اتفاق لا على الأجر ولا الطلبات ..طالبه رب البيت بالتوقف عن العمل لحين الاتفاق على المراد إنجازه والأجر اللازم ..فما كان من النقَّاش إلا أن استل سكينا وعاجل بها صاحب البيت في قلبه.. ووسط ذهول أبناء الرجل راح النقَّاش يسكب مواد حارقة على الجثة ويشعل فيها النار.. ولما خمد الحريق قام بإلقاء الجثة من النافذة.. وحينما ثار الأولاد الصغار على ما حدث انتقاما لدم أبيهم .. راح النقَّاش يصيب منهم بآلته الحادة من يصيب ويحبس منهم من يحبس في إحدى الحجرات.
وبعد ذلك أغلق الباب بالضبة والمفتاح وراح يمارس عمله في انتشاء وسعادة وكأن شيئا لم يحدث.. لكن ثمة أصوات بكاء وتأوهات وهمهمات تخرج بين الحين والأخر هنا أو هناك من بين أولئك المصابين وهؤلاء المحبوسين فكانت تثبّط من حماسته وتقلل من شعوره بالسعادة.
قال موجها كلامه إليهم : ها أنا ذا أقوم بطلاء حوائط شقتنا.. وأزيل من على جدرانها ملامح الكآبة والألوان الباهتة الحزينة.
اخذ أحد الأولاد يتقلب على الأرض في محاولة لاستجماع قوته .. فعاجله النقَّاش بضربة قوية من عصا كانت بجواره علي رأسه فسقط مغشيا عليه وراح يوجه له كلامه : سأطليها بألوان زاهية تجعل من هذا المكان تحفة فنية رائعة.
راح يدخن سيجارته .. وفتش في "جيب بنطاله" على كبسولة "الترامادول" التى التقطها وابتلعها بسرعة بينما كان يتأمل الحائط بدقة .. هل أدهنها بالمعجون أولا وكم مرة تري يجب أن أفعل ذلك أم أقوم بطلائها ـ"بالبوية" بدون المعجون ثم أضيف عليها لمسات جمالية ورسوما معينة .. أم أقوم بلصق ورق حائط ملون عليها .. أم كل هذا.
واصل الصمت والتفكير ثم حزم أمره أخيرا .. سأفعل كل هذا .. حتى لا يقولوا إننى أبخل على نفسي.
تململ الولد مرة أخري.. وراح يسعى للنهوض في حذر بالغ .. فنظر إليه النقاش نظرة ضجر.. وقال له: دعنا نكمل عملنا .. لا يمكننى الانتظار كثيرا على هذا الشغب .. يمكنك أن تستمتع بمشاهدة الانجازات التى تحدث في الشقة.
همّ النقاش ليشير إلى علب ألوان خضراء وحمراء وصفراء وقال : هذه هى الألوان التى سيتم طلاء الشقة بها بدلا من الألوان الكئيبة التى كانت من قبل.
ثم أشار إلى أشكال جبسية مزركشة وقال: هذه سوف توضع في الأسقف وتتخلها مصابيح خافتة وأخري ناصعة.
ونظر إلى الأرض فقال: وهذه الأرضيات أيضا سيتم تغييرها بأنواع فخمة من الرخام.
علت دقات الاحتجاج من خلف حجرة الحجز.. اشتاط النقَّاش غضبا .. نظر حوله وكأنه يبحث عن وسيلة عقابية ناجعة .. فأخذ مواد حارقة معه وفتح باب الحجرة وقام بسكبه فيها .. وامسك بعود ثقاب مشتعل وهدد من فيها بأنه إن لم يصمتوا سيقوم بإلقائه على المادة الحارقة ليحترقوا.. فصمتوا ..فاطفأ عود الثقاب .. وسبهم باقذع الألفاظ وعاود إغلاق باب الحجرة جيدا.. وساد الصمت.
خاف الولد أن يتكلم والتزم هو الأخر بالصمت .. بينما حدق النقَّاش فيه قليلا وقال له: أعرف أنك ولد طيب.
ثم ذهب إلى الثلاجة وأحضر ثمرة تفاح وقدمها له وقال: يبدو أنك من الشخصيات المجتهدة التى لا تضيع الوقت في التربص والحقد والكراهية.. يجب أن ننطلق سويا لتعمير هذا المكان وجعله جنة من جنان الله سبحانه وتعالى في الأرض.
صمت وواصل الحديث بينما بدأ عمله: ربنا سبحانه وتعالى خلقنا لتعمير الارض وليس تخريبها.. ولكن هناك من يسعون للتخريب .. ورفض التعمير والمدنية.. هم مستعدون لقتل كل من يقف في طريقهم.. لأنهم أهل جريمة وارهاب.
استمر النقاش يحكى ويحكى بينما الولد ينصت إليه..هنا دق باب الشقة بقوة ..فرح الصبي كثيرا باعتباره الفرج.. بينما انزعج النقاش بشدة ..فمن هذا الى يقتحم عليه خلوته ولا يعتبر لحرمات البيوت.. تحسس سكينه ومادته الحارقة وفتح الباب .. كان الجيران غاضبون بشدة من العثور على جثة متفحمة اسفل النافذة .. واستنكروا أن تُلقَي الجثثُ المتفحمة بهذا الشكل في الشوارع..دون يتم القائها في صناديق القمامة اعتبارا لحرمة الموت.
وراحوا يطلبون من صاحب البيت العون في إزالة هذه القمامة ..ابدى النقاش تعاطفا كبيرا مع الواقعة وقال إنها لوالد هذا الصبي .. فقد قام أخوته بفعل هذا به .. وأنه أمسكهم وحبسهم في الحجرة تنفيذا للعدالة.
أخذ الجيران يتندرون من عقوق الأولاد وأشادوا بعدل النقاش وسعيه للقصاص.
كان النقاش قد قام بكل مراحل الديكورات ولكن بطريقة حديثة .. فبدلا من أن يقوم بطلاء الحوائط بالمعجون ثم الطلاء أو المعجون ثم أوراق الزينة راح يضع الطلاء والمعجون وورق الزينة فى خلطة واحدة .. ما بدا معه منظر الحائط مثيرا للتقزز.. دخل الجيران الشقة وراحوا يتأملون النقاشة.. فانقسموا بين نفر يعتبرها مجرد "شخابيط" تعبر عن قصر أُفق وبين رهط اعتبرها "فنا راقيا يعبر عن الحداثة" بل إن بعضهم جزم بأنه فنان عالمى.
وأخذوا يحجزون مواعيدَ منه لتنفيذ هذه الأعمال في بيوتهم ..هنا أدرك الصبي أنه وحده من يستطيع تحرير أشقاءه والقصاص لوالده من "القاتل"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق