سأروي لك واقعة، حدثت في الماضي القريب، وسأترك لك أن تتخيل المستقبل القريب، إذا لم نعمل فوراً على تغيير الواقع المخيف الذي تتم صناعته في أرض سيناء، سمعت الواقعة من قارئ سيناوي، يقتضي عمله التردد على القاهرة، وكان قد زارني، عقب نشري رسالة بعنوان "استغاثة من سيناء"، من الناشط السيناوي حسين عبد المجيد، بتاريخ 22 يناير/كانون ثاني الماضي في صحيفة الشروق المصرية، اعتبرها هو، وعدد من أبناء سيناء، كسراً لحالة الصمت المفروضة في الصحافة المقروءة، على ما يجري لحقوقهم من انتهاكاتٍ لا تجد في العادة منفذا لها إلا ساحات الإنترنت.
حين التقيت بالشاب السيناوي، كان يبدو عليه التأثر الشديد والإرهاق، أما الإرهاق فكان سببه الرحلة الطويلة التي يعبر فيها كماً مهولاً من الكمائن واللجان، التي لم تنجح في القضاء على الإرهاب، بقدر ما ساهمت في تطفيش كثيرين من راغبي السفر إلى المناطق الآمنة في سيناء، وزيادة المناخ العدائي بين أهالي سيناء وضباط الشرطة والجيش. أما التأثر الشديد فكان سببه أنه شهد موقفاً عصيباً في اليوم السابق مباشرة، حين تعرض ميكروباص كان يركبه لإطلاق نار عشوائي من مدرعة، فأصيب أحد الركاب برصاصة في جنبه، وفارق الحياة وسط صراخ الجميع وبكائهم. لن أنسى، أبداً، نظرة الاستغراب التي رمقني بها الشاب، حين سألته ببراءة، أو ببلاهة، عمّا إذا كان قد تم القبض على من أطلق النار، ولماذا لم يتم تقديم شكوى رسمية في من تسبب في ذلك؟ قبل أن يسألني بهدوء: "وهل تم التحقيق في الاستغاثة التي نشرتها في صحيفة يومية كبرى، وهي تحوي من المخازي ما يسقط حكومات بأكملها، في الدول التي تحترم شعوبها".
ثم حكى الشاب واقعة حدثت لإحدى قريباته، في نهاية عام 2013، لكي أتصور حجم المأساة التي يعاني منها أبناء سيناء الذين وقعوا بين مطرقة الإرهاب الأعمى المتستر بالدين وسندان الأداء الأمني الفاشل الذي يخفي عدم كفاءته ببطش مندفع يزيد الطين بلّة. كانت قريبته الشابة قد أصيبت، في إحدى الليالي، بمغص كلوي حاد، كان يمكن حله بحقنة بسيطة من أقرب مستشفى أو عيادة مجهزة، لكن حظها العاثر شاء أن تصاب به في وقت حظر التجول، وبعد أن تم الاتصال بكل أرقام الطوارئ التي تم توزيعها على المواطنين، والتي لم ترد كالعادة، اتصل والدها بقسم الشرطة الذي يعرفه ضباطه جيداً، وطلب من القيادة المناوبة الاتصال بقيادة المنطقة العسكرية وإبلاغهم بالموقف، ليتم السماح لأحد أقاربهم بالقدوم بسيارته، لإسعاف البنت إلى المستشفى من دون أن يتعرضوا لإطلاق النار، وخصوصاً أن الأجواء كانت، وقتها، في قمة التوتر الأمني. فوجئ الأب بالضابط يقول له إنه لا يمتلك سوى الأرقام نفسها التي حاول الأب الاتصال بها من دون جدوى. أخذ الأب يصرخ بمزيج من الغضب والاستعطاف والذهول، ولأنه تخيل أن الضابط يكذب عليه، قام بإسماع الضابط صوت صرخات ابنته، فأقسم له الضابط أنه متعاطف معه، لكنه لا يمتلك وسيلة للوصول مباشرة إلى قيادة الجيش التي تتولى الملف الأمني بالكامل، وأقسم للأب أنه، شخصياً، لا يستطيع الخروج من القسم لأي سبب، لأنه بنفسه قد يتحول إلى هدف لإطلاق النيران.
لم يجد الأب مستشفى واحدة يوافق بأي ثمن على إرسال سيارة إسعاف إليه، قبل انتهاء حظر التجول، وبعد ساعات قضاها الأب في الاتصالات والتوسلات والإغراءات، ومقاومة الأهل الذين يمنعونه من المغامرة بحياته وحياة بنته، لو قرر الخروج بحثاً عن سيارة توصله إلى المستشفى، فارقت البنت المريضة الحياة قبل طلوع الفجر، من دون أن يكون من حق أبيها أن يعترض أو يجأر بالشكوى، لأنه ربما لو فعل سيجد من يذكّره بالشهداء من الضباط والجنود، وكأنه وبنته كانا مسؤولين عن الغدر بهم، وربما وجد نفسه متهماً من المسؤولين الشرفاء والمواطنين الأكثر شرفاً، بالتعاطف مع الإرهاب أو حتى بتمويله ليجتمع الموت وخراب الديار على أسرته.
ظللت، منذ انتهى الشاب من رواية تلك الواقعة وحتى نهاية اللقاء، أردد كلاماً أبله عن الصبر والأمل والنصيب. وبالأمس فقط، قرأت تعليقاً كتب فيه ذلك الشاب أنه لم يعد يدري بماذا يجيب على أمه وأخواته، حين يطلبن منه ترك عمله والبقاء في المنزل، لكي لا يأتيهن خبره، كما يأتي للعائلات التي يتم إطلاق النار على أبنائها في الطرقات بدعوى الاشتباه، من دون حسيب ولا رقيب، فلم أجد جرأة للتعليق، ولو حتى بذلك الكلام الأبله الذي لا يودي ولا يجيب.
ويبقى وجع سيناء مكتوماً متصاعداً، من دون أن يبدو أن أحداً يدرك عواقب انفجاره، أو حتى يكترث لذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق