هذه المرّة لم يسارع الإعلام المصري الهابط ـ وهو الأغلبية اليوم فيمصر، للأسف ـ إلى تأثيم فلسطين، ثمّ الفلسطينيين أجمعين، عبر تأثيم «حماس»، وبالتالي غزّة وأهلها أجمعين، واختراع شتى التهم، وتلفيق أشدّ الأقاصيص ابتذالاً وانحطاطاً. ففي هذه الجولة كان موضوع الشيطنة يشمل المصريين أنفسهم، من أهل سيناء وقبائلها، ثمّ سيناء ذاتها: المجتمع والجغرافيا والتاريخ.
ولا تُقارَن الحمّى، والحمية والحماس، التي أصابت وحدات الجيش المصري في تهجير الآلاف من مواطني سيناء، وتفكيك تجمعاتهم، ومصادرة بيوتهم، وتهديم العشرات منها، إلا بالسعار الأعمى الذي حُقنت به مفارز الأمن المصرية، وبعض وحدات الجيش بالطبع، خلال تفكيك اعتصام رابعة. وفي أعلى هرم القرار، ضمن جهاز سياسات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بصدد سيناء، ثمة مزاج العسكر، ونزعة العسكرتاريا بالطبع، من جهة أولى، وكذلك ترحيل المأزق الأمني الحقيقي نحو مخارج تلفيقية، أسهلها المتاجرة بدماء الجنود الشهداء، ضحايا إرهاب الجماعات المعلَن، وضحايا إرهاب الدولة الخفي، في آن معاً، من جهة ثانية.
وحين ستبلغ السلطات المصرية هدفها المحدد، أي إزالة 800 بيت وتهجير عشرة آلاف قاطن، تمهيداً لإقامة المنطقة العازلة، هل سيكون هذا هو منتهى «الحلّ الأمني» الذي سيجعل مواطني سيناء، وأهالي أفراد الجيش على امتداد مصر، ينامون قريري الأعين؟ الحمقى وحدهم، أسوة بالمطبّلين والمزمّرين في الإعلام المصري الهابط إياه، هم الذين سيصدّقون هذه الخديعة، المكشوفة والمفتضَحة حتى قبل أن تكتمل بعض فصولها. ذلك لأنّ معضلة استتباب الأمن في سيناء لم تبدأ من تأثيم «حماس» وإخوان مصر، ونسج الأساطير حول الإرهاب، وتلفيق الخرافات حول الأنفاق، ولهذا فإنها لن تنتهي عند سيناريوهات تجريف البيوت وتهجير السكان، أو ضخّ المزيد من الأكاذيب حول وجود «داعش» في سيناء.
وإذا جاز، في جانب من نقاش هذا الملفّ، القول بأنّ مصر تمارس سياسة سيادية على أرضها، ذات طبيعة أمنية نابعة من وقائع إرهاب فعلية استهدفت جنودها في سيناء، فإنّ الجانب الثاني من النقاش ذاته لا يجوز أن يتجاهل حقوق الإنسان والمواطن في سيناء، وما يقوله الدستور في مصر ذاتها بصدد العلاقة ـ وبالتالي: احتمال التناقض ـ بين السيادة والقانون. الرأي المعارض، الذي لا يعثر عليه المرء في سيناء وحدها، بل أيضاً في محافل منظمات حقوق الإنسان المصرية (غير المسيّرة من جانب النظام، بالطبع)، لا يقول بوجود تناقض صريح، فحسب، بل ثمة اعتبارات عديدة تسمح بالحديث عن مفهوم الـ»ترانسفير» في معانيه الأبغض، غير البعيدة عن الفاشية أيضاً.
وهذه حال ينبغي، أخلاقياً بادىء ذي بدء، أن تنطبق أيضاً على أهالي رفح، في الجانب الفلسطيني تحديداً، ثمّ أهل قطاع غزّة بأسره، بالنظر إلى أنّ المعبر هو رئتهم الوحيدة (القانونية، العلنية، المرئية…) على العالم الخارجي، فكيف إذا سُدّت ودُمّرت عشرات الأنفاق التي ظلّت تكفل تهريب السلع والمواد الغذائية، لأنها كانت الرئة الأخرى الموازية (رغم أنها غير قانونية، سرّية، ومخفية…)؟ ولعلّ أقصى المفارقة تتجلى، اليوم، في حقيقة أنّ نظام حسني مبارك كان، إجمالاً، وما خلا الظروف الاستثنائية، يغضّ النظر عن تلك الأنفاق لاعتبارات «إنسانية»، ونظام السيسي يتخذ سياسة نقيضة، لأسباب «أمنية» لا تفلح دائماً في طمس الأسباب السياسية الأبعد.
وبين قلب القاهرة المديني، وباطن سيناء الصحراوي، ثمة تلك الرابطة الأولى التي توحّد هراوة الأمن ببندقية الجيش، أو تجعل الحوّامة فوق رؤوس المدنيين في ميدان النهضة، الجيزة، شقيقة الـ»أباتشي» التي تقصف القبائل في «كرم القواديس»، سيناء!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق