وجهت نيابة أمن الدولة العليا المصرية، للدكتور محمد علي بشر وزير التنمية المحلية السابق، يوم السبت تهمة التخابر مع كل من الولايات المتحدة، والنرويج، فأنكرها، وطلب التسجيلات التي تزعم ذلك.
ويعتبر هذا الأمر تطورا خطيرا في مسار العلاقات المصرية الأمريكية، لأنه منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد في 26مارس من عام 1979م، وما تبعها من إبرام اتفاقات تعاون إستراتيجي ما بين القاهرة وواشنطن، لم يتجرأ أي حاكم مصري علي توجيه تلك التهمة لأي مواطن مصري أو غير مصري يقيم علي أرض مصر.
ولعلنا لا نذيع هنا سراً عندما نشير إلي أن الأجهزة الأمنية المصرية كانت قد أعدت اتهاما للرئيس المصري المختطف الدكتور محمد مرسي بالتخابر لصالح الولايات المتحدة فيما عرف بقضية الكربون الأسود، إلا أن المجلس العسكري بعد اطلاعه علي عدة تقارير من قبل أجهزة سيادية قرر استبعاد هذا الاتهام، خشية من تدهور علاقاته مع واشنطن حال توجيه هذا الاتهام، وتم استبداله بالاتهام المهزلة للرئيس الدكتور محمد مرسي و المتعلق بالتخابر لصالح حماس .
وحتي عندما أمسكت الأجهزة المعنية بالأمن القومي في مصر أدلة، وقرائن حقيقية فيما عرف بقضية التمويل الأجنبي، وقالت ان تلك المنظمات والشخصيات المتهمة تهدد الأمن القومي لمصر، لم تتجرأ تلك الأجهزة علي الإطلاق أن تحيل المتهمين أو بعضهم أو حتي افراد منهم للمحاكمة بتهمة التخابر مع الولايات المتحدة.
وكُلنا يتذكر كيف صدم المصريون عندما قام جنرالات المجلس العسكري بالسماح لطائرة أمريكية أن تهبط في مطار القاهرة، وتقل المتهمين الأمريكيين في قضية التمويل الأجنبي الي الولايات المتحدة، وذلك علانية، عقب أن قام قادة المجلس العسكري بتسخير إحدى "دوائر الشامخ" في إتمام تلك المهزلة.
والملفت للانتباه أنه في يوم الثلاثاء الموافق 12نوفمبر من العام الماضي، ذكر اللواء محمد فريد التهامي مدير المخابرات العامة المصرية في تصريحات خاصة أدلى بها إلى الكاتب الأمريكي ديفيد إجناتيوس ونشرت في صحيفة (واشنطن بوست) الأمريكية :" أن التعاون بين أجهزة المخابرات المصرية والأمريكية يجري في قناة مختلفة تمامًا عن القناة السياسية". وقال التهامي: "إنني على اتصال دائم مع مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي أي أيه) جون برينان ومدير المحطة المحلية أكثر من اتصالي بأي أجهزة مخابرات في العالم".
وجاء ذلك في وقت أشارت فيه صحيفة "هارتس" الإسرائيلية إلى وثيقة إسرائيلية تتعلق بالتخطيط الإستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي ضد مصر خلال عهد الرئيس مرسي، وتحدثت الصحيفة عن عمق التعاون بين جهاز المخابرات الأمريكية والإسرائيلية من خلال وصف تكليف واشنطن للوحدة 8200 بالجيش الإسرائيلي بالتجسس على مصر بـ"المهمة"، والتي تعنى في عالم المخابرات "جمع المعلومات الحيوية". كما أن هذا اللفظ يتم اللجوء إليه عادة بين أجهزة المخابرات التي تنتمى للدولة الواحدة.
وقامت أجهزة الأمن المصرية بتسليم مواطنين أمريكيين إلى واشنطن لقيامهم بأعمال تجسسية، ولم توجه إليهم الأجهزة الأمنية المصرية أية اتهامات تذكر في ذات السياق، مكتفية بتسليمهم.
ولقد شاهدنا جميعا في مصر بالنسبة للمواطنين المصريين كيف عجز نظام مبارك عن توجيه تهمة التخابر لهم لصالح الولايات المتحدة، وهنا أتوقف لأذكر كل من الدكتور ايمن نور والدكتور سعد الدين إبراهيم، إذ تمت محاكمتهم وحبسهم باتهامات أخري مشينة كالتزوير وتلقي تمويل أجنبي، ووقتها اكتفت صحف النظام بالتشهير بهم في ذات السياق واتهامهم بموالاة واشنطن.
وثمة شق آخر في ذات السياق أن رموز النظام الانقلابي في القاهرة -والذين يرمون شرفاء الوطن بتهمة التخابر لواشنطن- هم أول من تطالهم الاتهامات لأمريكا، لأن ثمة فارقا ما بين قيام هؤلاء المسئولين وفق الدستور، والقانون والمواثيق الدولية بالتعاون لصالح مصر مع الولايات المتحدة، وأية دولة أخري في العالم، وبين قيامهم بأعمال تخابر أو ربط مصر بحالة تبعية لواشنطن تتسبب في تهديد الأمن القومي المصري .
والمعروف أن الجيش المصري يتلقى من الولايات المتحدة 2مليار دولار سنويا منذ أكثر من 30 عاما مضت، وتقوم الولايات المتحدة بتسليحه وتدريب قياداته منذ ذلك التاريخ، وهو ما أثمر مؤخرا عن تغيير هويته واستراتيجيته، وبات عدوه وهمي يسمي الإرهاب, وهدفه حماية أمن إسرائيل، وهو ما أكده بوضوح قائد الانقلاب في القاهرة مؤخراً.
وتعتبر واشنطن الجيش الضامن الوحيد في مصر لاتفاقات كامب ديفيد، وتراهن دوما علي قياداته.
ولذلك فإننا لا نستبعد أن اتهام محمد علي بشر لم يكن ابدا بعيدا عن أصابع الإدارة الأمريكية للأسباب التالية :
أولاً : لأن محمد علي بشر كان أبرز من يتفاوضون مع أعلي المسئولين الذين يوفدهم كل من الاتحاد الأوروبي والإدارة الأمريكية لوضع نهاية لما يحدث في مصر ،وتمكين عبد الفتاح السيسي ورفاقه من الأمور مقابل بعض الإصلاحات الديمقراطية.
ثانياً: لأن بشر رفض عرضا توصلت إليه واشنطن مع نظام السيسي بأن يؤلف بشر حزبا يضم قيادات الإخوان الذين يرضي عنهم الأمن، علي أن تخصص لهذا الحزب نسبة في البرلمان، وأن يتم الإفراج عمن يختارهم بشر لمساعدته في هذا الحزب من الإخوان داخل السجن .
ثالثا: لأن بشر بدا ينسق مع قوي المجتمع المدني من ثوار25يناير، ووقع بيانا بتوحيدهم لمواجهة الانقلاب، وهو ما أصاب الأجهزة الأمنية بالجنون فقررت اعتقاله، وأظن أنها قامت بذلك بعدما تباحثت مع السفارة الامريكية بالقاهرة، وأخذت الضوء الأخضر من واشنطن، بتوجيه تهمة التجسس لصالح واشنطن للدكتور محمد علي بشر إلى جانب النرويج كممثل للاتحاد الأوروبي .
وفي اعتقادي أن واشنطن تحاول من خلال موافقتها علي اتهام بشر بالتجسس لصالحها تعزيز الفكرة التي يروج لها نظام الانقلاب بأن الإخوان أيضا قريبين منها، وذلك علي خلاف الحقيقة، وهو تخطيط مخابرات مصرية أمريكية عالي المستوي، في إطار التنسيق الإستراتيجي بين الطرفين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق