هناك حالة من الجمود والتوازن تخيم على الأحوال السياسية في البلاد في الشهور الأخيرة ، فقد مرت البلاد خلال 16 شهر من الانقلاب بحالة من الانقسام الحاد وانتصر الفريق العلماني – العسكري مؤقتاً لأنه يملك الجيش والشرطة والاعلام والقضاء وأمريكا واسرائيل !! ولكن مع مضي الوقت حدث متغيران:
1-الحكم العسكري ثبت أقدامه بالحديد والنار وبأساليب فاشية متصاعدة انتهكت دستورهم نفسه
2- بدأت "الشعبية" الزائفة لـ "السيسي" وأعوانه تتآكل بين الشرائح المؤيدة والمشاركة في مظاهرات 30 يونيو.
ولكن في المقابل على الجبهة الأخرى تفاعل متغير جديد ، فالمعسكر الاسلامي والذي كانت شعبيته قد انخفضت من 65 % إلى 30 -40 % عشية الانقلاب ، ثم عادت ترتفع تدريجيا لتقترب من 50 % بعد ممارسات الانقلاب الاستبدادية ، عادت لتتآكل من جديد ، بسبب تركيز الاخوان على (عودة مرسي) كقضية مركزية . وهناك شريحة كبيرة من الشعب لا تقل عن 30 – 40 % ترفض الانقلاب ولكنها غير مؤيدة أو غير متحمسة لعودة مرسي ، ويرى البعض منهم أن عودة مرسي إذا كانت صعبة وستكلف البلاد مزيدا من الدماء فلا داعي للاصرار عليها .. وبالتالي فإن قياسات الرأي العام حاليا تشير إلى 30 % مع مرسي 30 % مع السيسي 40 % بدون موقف محدد ويتمنون الاستقرار على أي وضع!! وهذه الحالة من التوازن هي التي أطالت عمر الانقلاب ، ففي إطار الحالة التعادلية من الناحية المعنوية ينتصر الطرف الأقوى مادياً وهو هنا الجيش بطبيعة الحال. وسياسة الاخوان هي السبب في حالة الجمود هذه ،لأنهم كما ذكرنا يركزون على عودة مرسي وهذا شعار غير جاذب لـ 70 % من الشعب، ولذلك فإن الاخوان ينجحون في إحداث إضطرابات بحكم حجمهم التنظيمي ولكن أصبح الحديث عن موجة ثانية من الثورة بعد مرور 4 سنوات غير واقعي، وبالتالي لن ينجح الاخوان إلا في إحداث أزمة أو سلسلة من الأزمات، ووضع الانقلاب دائماً في حالة غير مريحة ولكنهم لن يقودوا الشعب إلى النصر المبين .
تصوروا لو أن حماس جعلت شعارها الآن عودة "اسماعيل هنية" لرئاسة الوزراء، فهل هذا شعار يمكن أن يجمع الشعب الفلسطيني أو يرفع من شعبية حماس، رغم أن هنية رئيس وزراء شرعي ومنتخب من الشعب عبر أغلبية البرلمان التي حصلت عليها حماس في آخر انتخابات . ونرى في تونس كيف نجحت النهضة في حماية التجربة الديمقراطية بالمرونة وعدم التصلب في التمسك بالسلطة رغم أنهم كان لديهم الأغلبية في البرلمان الأول!!
ولكن الاخوان في مصر يضعون التنظيم فوق المصالح العليا للوطن والأمة ، وهم يطابقون بين مصالح التنظيم وهذه المصالح العليا فيرتكبون أخطاءاً فادحة وأخطرها ما يمس النزاهة والاخلاص .. وشعار عودة مرسي لايجمع الشعب أو أغلبته الساحقة ، حتى وإن كان الرئيس الشرعي في العرف الديمقراطي، وبالتالي لن يفلح الاخوان إلا في إحداث اضطرابات، وستتزايد تأثيرات الاعلام في إتهامهم بالإرهاب .
لو كان شعار عودة مرسي يعبر عن طموحات الأمة لرأينا ضرورة التمسك به حتى الموت ، ولكن أداء الرئيس مرسي لم يكن رائعاً. هو في تقديرنا أفضل من مبارك وأفضل من السيسي ولكنه كان يسير في نفس الفلك الأمريكي ويلتزم بكامب ديفيد (التطبيع مع اسرائيل والاعتراف بها) وكان يسير في نفس السياسات الاقتصادية لمبارك والسيسي ، ولم يطرح أي مفهوم للعدالة الاجتماعية ، ولم يقم بأي خطوة في طريق الالتزام بالمرجعية الاسلامية ، في أي مجال من المجالات. لقد قتل الاخوان الثورة بتحالفاتهم غير المبدأية مع العسكر في البداية ، ثم بحساباتهم التنظيمية الضيقة في الحكم، وبعد اقصائهم منه.
لايمكن قيادة الثورة إلى النصر بدون تشخيص حالة النظام الحاكم وطرح البديل الثوري، والاخوان لم يطرحوا أبداً شعار "إسقاط مبارك" وقالوا كثيراً إنهم ليسوا ثواراً ولايؤمنون بالفكر الثوري للاطاحة بالحاكم ولا العصيان المدني، ولكن بالأسلوب الزاحف من أجل السيطرة التدريجية، وهو أسلوب يتنافى مع منهج الثورة، بل مع منهج الاسلام الذي يؤكد على الطفرة والتدرج ، وقد تمثلت الطفرة في الهجرة للمدينة ثم في الفتح ، والاخوان لم يطرحوا في أي فترة من حياتهم السياسية مسألة استئصال التبعية ، وتأكيد أن أمريكا واسرائيل يحكمان مصر. بل كان الاخوان يعملون قبل الثورة ثم الآن بعد اقصائهم عن الحكم على محور الديمقراطية والليبرالية، والاستعانة بأمريكا وأوروبا لإعادة الديمقراطية ! وبالتالي يستعينون بأعداء الأمة لحل مشكلات الأمة، متغافلين عن أن أمريكا هي التي تحكم مصر، وبالتالي فإن الاخوان يتنافسون مع العسكر عند الأمريكان، وهذه اللعبة التي مارسوها منذ 25 يناير 2011 بل وقبلها وحتى الآن. ولذلك فهم لايطرحون الشعار الوحيد الذي يمكن أن يوحد الأمة : تحرير مصر من النفوذ الأجنبي، واستنهاض مصر بسواعد أبنائها - وليس بالاستثمار الأجنبي - ، وإقامة العدل.
والمثير للسخرية أن الانقلاب الذي هو أصل التبعية مع أمريكا يهاجم الاخوان كعملاء لأمريكا ، بينما يتلقى السيسي مكالمات شبه يومية من وزير الدفاع الأمريكي، وتعيش المؤسسة العسكرية على المعونات الأمريكية والسلاح الأمريكي، واليوم هم فرحون جداً بحضور 66 مستثمر أمريكي، بينما العلاقات مع اسرائيل في أحسن أحوالها من حيث التنسيق الأمني خاصة في سيناء، وهذا ما يفرح به المسئولون الاسرائيليون .
باختصار الانقلاب يسير على نفس خطى نظام مبارك في الاقتصاد والسياسة وعلى نحو أكثر سوءاً وهذا سيؤدي إلى مزيد من تدهور الأحوال وبالتالي المزيد من تآكل "شعبية" السيسي المصنوعة، إذن نحن أمام طرفين خاسرين، ومعظم الشعب افتقد حماسه لكليهما، وهذا هو السبب الجوهري للأزمة التي تعيشها البلاد، وهي أزمة مكتومة بالقمع والحديد والنار والمحاكم العسكرية ولكنها ستنفجر من كل بد.
نحن أمام أزمة عنوانها (عسكر أم اخوان) وهذا لايمس جوهر أزمة البلاد وهي التبعية (لاحظ مقال د. جلال أمين الرائع الأخير في الشروق: شرطان ضروريان للتقدم) . ونحن نطرح كسر هذه المعادلة السخيفة (عسكر أم اخوان) رغم رفضنا الانقلاب العسكري من حيث المبدأ، بالمعادلة الصحيحة التي تعكس أزمة الواقع المصري (استقلال أم تبعية) ، معركة التحرر من النفوذ الأمريكي الصهيوني هي التي ستوحد كل المصريين من كل الاتجاهات وهي وحدها التي ستفتح طريق التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، وتقضي على ممارسات العنف و "الارهاب".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق