يصف النظام العسكري الحاكم في مصر بلطجيته وشبيحته الذين يقتلون بالنيابة عنه بأنهم "المواطنون الشرفاء"، وهو مصطلح إن دل على شيء فيدل على قدرة هذا النظام الفاجر على تصوير الليل البهيم نهاراً منيراً، أو على جعل الشياطين ملائكة، أو على تحويل الخيبات إلى فتوحات، لذلك لا يستغرب المرء حين ارتفعت أصوات إعلامنا تبشر المواطنين بسقوط تل أبيب، بينما الحقيقة أن العدو لو أراد دخول القاهرة لدخلها، وبعد ذلك لم يسمِّ ما حدث هزيمة، بل سماها "نكسة"، وهي في الحقيقة أم الهزائم، إنها هزيمة قلّ أن تجد لها نظيراً في التاريخ العسكري في العالم كله بإجماع الخبراء (باستثناء الخبراء الشرفاء).
الكاتب المصري الشاب محمد طلبة رضوان سار على المنهج نفسه، وكتب منذ أيام مقالة بعنوان "المعارضون الشرفاء"، وهم من فصيلة "المواطنين الشرفاء"، بلطجية فكر، مرتزقة سياسة، محترفو خطابة، تجار وطنية، يؤدون دورهم القذر في مساعدة النظام العسكري.
أنا أسير في هذه المقالة على خطى محمد طلبة رضوان، وأتحدث عن "المذيعين الشرفاء"! إنهم مذيعون ومذيعات تحت الطلب، تُسَيِّرُهُم رغبات أجهزة الأمن، بعضهم لا ينتظر التعليمات، بل يعرفها ويشم رائحتها قبل أن تصل له.
قدراتهم المحدودة، وفشلهم التعليمي، وانحطاطهم الأخلاقي، وتواضع إمكاناتهم المهنية، تجعلهم يزايدون على أجهزة الأمن نفسها، فإذا قيل لهم "اضربوا فلاناً"، تراهم قد تبرعوا بضربه هو وأبيه، وأمه، وإخوته، وأخواته، وزوجته، وأقاربه، ومعارفه، وجيرانه، وإذا قيل لهم هاجموا رئيس الدولة الفلانية، تراهم يهاجمون رئيس الدولة، وزوجته، وأبناءه، ووزراءه، وسفراءه ... إلخ.
هؤلاء "المذيعون الشرفاء" هم أول من تُسَعَّرُ بهم نار الثورات، فوجوههم معروفة، واختفاؤهم صعب، وحين يثور الناس تجد ألف هاتف يطالب بإعدام آخر مذيع بأمعاء آخر خبير استراتيجي!
لا أتمنى الشر لأحد، ولا أحرض على أحد، ولكني أنبه على أن تصدير أمثال هؤلاء لكي يطعنوا في شرف كل من يبدي رأياً مخالفاً في أي موضوع من المواضيع ليس إلا دعوة صريحة للعنف، خاصة أن هؤلاء يطالبون دائماً بقتل المعارضين وبلا رادع.
يتحدث الفنان خالد أبو النجا عن أداء الرئيس السياسي، فترى هؤلاء يتحدثون بالزور عن السلوك الجنسي للمتحدث، ويصفونه بالخائن.
يتحدث الفنان الشاب محمد عطية في السياسة، فترى هؤلاء يتحدثون عن شرف المتحدث وعرضه.
المعارضون يوجهون أحاديثهم إلى أدمغة الناس، فترى هؤلاء الحثالة لا يردون إلا إلى أدبار خصومهم !
الغريب أن هؤلاء "المذيعين الشرفاء" لا يخضعون أنفسهم لهذا المعيار الأخلاقي الصارم الذي يقيمون غيرهم وفقاً له، بل لا يبدو أنهم يخضعون أنفسهم لأي معيار أخلاقي أصلاً، ورغم ذلك يهاجمون كل معارض بما فيه، وبما ليس فيه، ويتهمون الناس باتهامات هي السب والقذف بعينه، ولكن دولة العسكر لا تعرف القانون إلا حين يكون في صالحها، أو في صالح مواطنيها الشرفاء.
لكل مجال شرفاؤه، فترى في الإعلام "المذيعين الشرفاء"، وفي الشريعة "الشيوخ الشرفاء"، وفي الأدباء "الشعراء" والروائيين" و"النقاد" ... الشرفاء طبعاً، وفي الصحافة "الكتاب الشرفاء"، وفي الرياضة، والتجارة، والسياسة ... في سائر مجالات الحياة، ترى "شرفاء" معروضين للبيع والإيجار، لا عمل لهم سوى تشويه المعارضين، والتحريض عليهم، والكذب في سيرتهم، وتلفيق الأخبار المسيئة عنهم.
لو فكر هؤلاء في مصيرهم حين تنقلب الآية، وحين يعز الله الذليل، ويذل العزيز، سوف يطبق الناس فيهم سائر ما طالبوا به اليوم، فمن طالب بالقتل دون محاكمة لا يستبعد أن يحكم عليه بما طالب به، ومن طالب بالتهجير، أو مصادرة الأموال، أو الاعتداء على الأعراض، أو إسقاط الجنسية ... كل هذه الاقتراحات قد تطبق عليهم، ورُبَّ كلمةٍ تقول لصاحبها دعني!
من أسوأ ما ابتليت به مصر خلال حقبة الحكم العسكري التي توشك على الرحيل، أن أجهزة الأمن هي التي توظف كل الناس، فالتقرير الأمني هو الذي يحدد من يصبح فَرَّاشاً في مصلحة حكومية، وهو الذي يعين رئيس الوزراء، وبالتالي يحدد التقرير الأمني من يبتلينا الله به على الشاشة لكي يصبح مذيعاً!
نهاية هذا العهد الأسود سيكون بعدها عهد يصل الناس فيه إلى مواقعهم بطريقتين، إما بالكفاءة (مثل المذيعين)، أو بالانتخاب (مثل سائر المؤسسات المنتخبة).
حتى ذلك الوقت، سيبقى "المذيعون الشرفاء" يبصقون علينا بذاءاتهم ليل نهار، ولكن من يدري ... لعل في ذلك خيراً كثيراً لا نعلمه.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق