بقلم: د صفوت حسين
المتأمل للمشهد السياسى على الساحة المصرية منذ سنوات يلاحظ بوضوح وجلاء هذا الكم الكبير من فقدان الموضوعية والمصداقية، وسياسة الكيل بمكيالين وأحيانا بعدة مكاييل، ولقد تجلى هذا الأمر بأوضح صوره بعد الانقلاب حيث تساقطت الأقنعة، وتهاوت النجوم الفضائية التى صنعها الإعلام على عينه طوال السنوات والعقود الماضية، وانقشع غبار الانقلاب عن سقوط مدو ومزر للنخبة التى تصدرت الساحة، ولم تتوقف عن الحديث عن الديمقراطية والحريات وحقوق الانسان فلما جاءت ساعة الاختبار الحقيقى وقفت فى صف الانقلاب والديكتاتورية وانتهاك كل الحقوق والحريات، وتنكرت لكل ماصدعت به رؤؤسنا من مبادى وقيم ولم يثبت إلا أقل القليل الذين قبضوا على الجمر، وتمسكوا بمبادئهم، ولم يدفعهم الاختلاف أو الخصومة السياسية أو الفكرية مع فصيل آخر الى التغاضى عما تؤمن به من قيم ومباديء وأتوقف هنا عند قضية وصم الإخوان بالإرهاب بعد أن تحولت الجماعة فى ظل الانقلاب من الجماعة المحظورة الى الجماعة الإرهابية،وبعد أن أخذ الانقلاب يسوق نفسه على أنه حامى حمى المنطقة والعالم كله ضد الإرهاب والحقيقة أنه بعد بحث عن هذا الإرهاب المنسوب الى الإخوان لن تجد فى النهاية إلا الحادثتين اللتين يتم الحديث عنهما منذ عهد السادات ومبارك وهما حادثتا مقتل الخازندار والنقراشي، واللتان يتم استدعائهما على عجل والعزف عليهما، وتردديهما كالاسطوانة المشروخة منذ عقود فى مواسم الهجوم على الإخوان من جانب أبواق وكتبة النظام ومعارضى الإخوان، ومن يقرأ مبررات قرار الانقلاب فى 25 /12 /2013 باعتبار الإخوان جماعة إرهابية لن يجد فعليا - بعيدا عما احتوى عليه القرار من أخطاء وأكاذيب - غير حادثتى الخازندار والنقراشى واللتين تعتبران فى حد ذاتهما دليل على نبذ الإخوان للعنف بدليل أنهما لم يجدا مايستشهدان به على قيام الإخوان بأعمال عنف إلا حادثتين وقعتا فى عام 1948،وهما كانا محل إدانة من مرشد الجماعة الشيخ حسن البنا والحقيقة ليس الهدف هنا مناقشة وتقييم دور النظام الخاص المعروف إعلاميا بالتنظيم السري،أو الحديث عن ملابسات هاتين الحادثتين،وهل كانتا بعلم قيادة الجماعة أم لا ؟ ولكن أتوقف هنا عند المعيار الذى يستخدمه معارضوا الإخوان وأبواق الانقلاب فى رمى الإخوان بالإرهاب استنادا الى حادثتين وقعتا منذ أكثر من ستين عاما فى الوقت الذى يغضون فيه الطرف عن بعض الكيانات والشخصيات التى تورطت فى مثل هذه الأعمال فى تلك الفترة فى إطار سياسة الكيل بمكيالين،وانتقاء بعض أحداث التاريخ وتوظيفها فى خدمة الصراعات السياسية.. فهل كان فكرة الاغتيالات السياسية للقوى المتعاونة مع الإنجليز قاصرة على الإخوان فقط؟ وهل الإخوان فقط هم الذين تورطوا فى هذه الأعمال؟ الواقع أن فكرة الاغتيالات السياسية للمتعاونين مع الإنجليز كانت سائدة فى تلك الفترة من جانب بعض الكيانات والشخصيات التى يضفى عليها البعض أوصاف الزعامة والقداسة،وأعنى هنا تحديدا عبد الناصر والسادات اللذين تورطا فى أعمال لا يمكن أن توصم إلا بالإرهابية بنفس المعيار الذى يطبق على الاخوان بل إن بعض الأعمال الإرهابية التى تنسب لعبدالناصر أشد فداحة لأنها صدرت من رجل مسئول بالدولة، وليس من جانب شخص أو تنظيم فيذكر عبد الناصر فى كتابه "فلسفة الثورة":. "وأعترف - ولعل النائب العام لا يؤاخذنى بهذا الاعتراف - أن الاغتيالات السياسية توهجت فى خيالى فى تلك الفترة على أنها العمل الإيجابى الذى لا مفر من الإقدام عليه إذا كان يجب أن ننقذ مستقبل وطننا.وفكرت فى اغتيال كثيرين وجدت أنهم العقبات التى تقف بين وطننا وبين مستقبله...." ولم يتوقف الأمر عند مجرد التفكير بل اتجه عبدالناصر الى التنفيذ بالفعل وقام بمحاولة فاشلة لاغتيال اللواء حسين سرى عامر قائد سلاح الحدود وقد تحدث عبد الناصر عن الصراع النفسى داخله عقب المحاولة الفاشلة حول وسيلة الاغتيالات السياسية وانتهائه الى أنه ليس الطريق الإيجابى لتحقيق الأهداف الوطنية لدرجة أنه تمنى ألا يموت الرجل "وهرعت فى لهفة الى إحدى صحف الصباح وأسعدنى أن الرجل الذى دبرت اغتياله قد كتبت له النجاة" فهل كان عبد الناصر صادقا فى مشاعره وأقواله تلك ؟ الواقع أن عبد الناصر لم يكن صادقا فى موقفه،وهذا ليس رجما بالغيب ولا تفتيشا فى النوايا فالرجل الذى أبدى الندم على محاولة الاغتيال وتمنى نجاة حسين سرى عامر هو نفس الرجل الذى سار فى نفس التفكير والتدبير بعد ذلك وتحديدا فى أزمة مارس 1954 فبعد اضطرار عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة الى إعادة محمد نجيب تحت ضغط الجماهير،واشتداد الصراع بين محمد نجيب ومعه خالد محى الدين المطالبين بالديمقراطية وباقى أعضاء مجلس قيادة الثورة اقترح عبد الناصر فى 4 مارس 1954 كما يذكر عبد اللطيف البغدادى عضو مجلس قيادة الثورة فى مذكراته " انسحاب مجلس الثورة على أن يعمل كل فرد من أعضائه على تكوين(team) فريق له مكون من عشرة أفراد مهمته التخلص من العناصر الرجعية والأفراد الذين يناهضون الثورة والذين يقفون فى طريقها كسياسى الأحزاب القديمة والإخوان المسلمين والشيوعيين ولكن لم يتجاوب أحد من أعضاء المجلس فى هذا الاتجاه" وفى يوم 19 مارس وقعت عدة انفجارات فى القاهرة فى مبنى محطة السكة الحديد والجامعة ومحل جروبى ويذكر البغدادى فى مذكراته أنه توجه هو وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم أعضاء مجلس قيادة الثورة لزيارة عبد الناصر فى بيته نظرا لمرضه يوم 21 مارس " فأبلغنا أن الانفجارات التى كانت قد حدثت فى اليوم السابق وأشار إليها فى اجتماع المؤتمر، إنما هى من تدبيره لأنه كان يرغب فى إثارة البلبلة فى نفوس الناس ويجعلها تشعر بعدم الأمن والطمأنينة على نفوسهم وحتى يتذكروا الماضى أيام نسف السينمات... إلخ. وليشعروا بأنهم فى حاجة إلى من يحميهم على حد قوله" فى صباح يوم 27 مارس اندلعت المظاهرات التى تم تدبيرها من جانب عمال النقل وهيئة التحرير وأفراد الحرس الوطنى والبوليس الحربى الذين ارتدوا الملابس المدنية، والتى أخذت تهتف بسقوط الحرية والديمقراطية وقد أتت المظاهرات أكلها وتقرر إرجاء تنفيذ القرارات الديمقراطية التى اتخذها مجلس قيادة الثورة من باب المناورة حتى نهاية الفترة الانتقالية فى 10 يناير 1956، ونزلت قوات الجيش الى الشوارع وتوجه عبد الناصر لزيارة اتحاد نقابات النقل المشترك الذى كان لرئيسه الصاوى أحمد الصاوى الدور الأكبر فى هذه المظاهرات ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد تم توجيه المتظاهرين الى مجلس الدولة بعد نشر أخبار عن انعقاد الجمعية العمومية لمجلس الدولة لاتخاذ موقف ضد قرارات مجلس قيادة الثورة حيث تم اقتحام المجلس والاعتداء بالضرب على رئيسه السنهورى باشا لقد ثبت أن إضراب عمال النقل كانت من تدبير عبد الناصر وقد رتب الأمر إبراهيم الطحاوى، وأحمد طعيمة من زعماء هيئة التحرير بالاتفاق مع الصاوى أحمد الصاوى سكرتير اتحاد عمال النقل نظير أربعة آلاف جنيه ويذكر خالد محى الدين عضو مجلس قيادة الثورة فى مذكراته الآن أتكلم "ولك عزيزى القارئ أن تتصور إضرابا لعمال النقل تسانده الدولة وتحرض عليه وتنظمه وتموله وأتوقف تحديدا أمام كلمة تموله هذه فلقد سرت أقاويل كثيرة حول هذا الموضوع لكننى سأورد هنا ما سمعته من عبد الناصر بنفسى فعند عودتى من المنفى التقيت عبدالناصر وبدأ يحكى لى ماخفى عنى من أحداث أيام مارس الأخيرة وقال بصراحة نادرة لما لقيت المسألة مش نافعة قررت أتحرك وقد كلفنى الأمر أربعة آلاف جنيه" أما أنور السادات فيتحدث بالتفصيل فى مذكراته "البحث عن الذات" عن دوره فى محاولة اغتيال زعيم الوفد النحاس باشا، واغتيال أمين عثمان،والذى كان يرى أن من "المهم أن نتخلص ممن كانوا يساندون الإنجليز فى ذلك الوقت وكان على رأس هؤلاء فى نظرنا مصطفى النحاس باشا رئيس حزب الوفد الذى سقط فى نظرنا منذ أن فرضه الإنجليز بقوة السلاح فى 4 فبراير 42" وبالرغم من فشل محاولة اغتيال النحاس التى جرت فى سبتمبر 1945 - أى قبل ثلاثة سنوات تقريبا من حادثتى الخازندار والنقراشى - فقد قرر السادات وجمعيته السرية التى شكلها اغتيال أمين عثمان الذى كان وزيرا للمالية فى وزارة النحاس،والذى كان قد صرح أن العلاقة بين مصر وبريطانيا زواج كاثوليكي،وقد تم تنفيذ العملية فى يناير 1946 حيث أطلق عليه حسين توفيق النار فأرداه قتيلا وعلى عكس عبد الناصر لا يبدى السادات أى قدر من الشعور بالذنب ولو ظاهريا كما فعل عبد الناصر بل على العكس نجد أن الرجل يشعر بالتيه والفخر لما قام به،ويفرد الصفحات الطوال فى مذكراته للحديث بكل أريحية عن الدور الذى قام به بعد القبض عليه وبعد اعترافات حسين توفيق التفصيلية فى تقويض أدلة الجريمة ولعل السؤال للأخوة التى تجرح مشاعرهم الرقيقة،وتنغص عليهم حياتهم حادثتى الخازندار والنقراشى – وهما محل إدانة فى كل الأحوال – اللتين وقعتا منذ أكثر من ستين عاما ...وهم الذين ماتت مشاعرهم إزاء المذابح التى ارتكبها الانقلاب بالأمس القريب... لماذا تجمدت مشاعركم الرقيقة عما قام به عبد الناصر والسادات؟ وهل ما قاما به أعمال وطنية أم إرهابية ؟!!!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق