منقول
في مقال الأسبوع الماضي، ناقشت بعض أوجه أزمة الإخوان المسلمين اليوم، وأشرت فيه إلى أن التحديات التي تواجههم، اليوم، أكبر وأخطر من التي واجهتهم في العقود الماضية، منذ نشأتهم أواخر عشرينيات القرن الماضي. وخلصت في المقال إلى أن مسألة إجراء مراجعات داخلية، عميقة وحقيقية، تشمل الفكر والتنظيم والمسلك، أضحت حتمية لا يمكن للإخوان التغاضي عنها، أو محاولة تجاوزها بمسوغات "قداسية"، مثل "المسلمات الفكرية" أو "صوابية المسار" أو "حتمية المحنة".. إلخ، فالمطالبة بهذه المراجعات لم يعد مقتصراً على "نصائح" من "خارج الصف"، بل أضحت مطلباً أساسياً من "داخل الصف" الإخواني نفسه، بشكل يكاد يعصف ببنى "الإخوان" وتنظيمهم.
وضمن هذ السياق، تبرز مستوياتٌ عديدة ينبغي أن تشملها تلك المراجعات، غير أن ثمة مسائل مهمة، ينبغي التنبّه إليها، أولاً، قبل الولوج إلى موضوعة المراجعات، وتندرج جميعها تحت آلية إجرائها.
لا شك أن الإخوان المسلمين، عبر فروعهم المختلفة، وفي حقب زمانية متباينة، قد أجروا "مراجعات" كثيرة، غير أن المراجعة المطلوبة اليوم ينبغي أن تكون أكثر جذرية وشمولية وجدية، فالتحديات التي يقفون أمامها، اليوم، من طراز مختلف، قد تصل إلى تهديد حجم التنظيم واتساعه، بل ووجوده في بعض الحالات.
ويتعلق الأمر الآخر بمن يجري تلك المراجعات. فهل يعقل أن ينحصر إجراء تلك المراجعات في الشخصيات والدوائر نفسها التي تقود الجماعة في مرحلة ما، وهي قد تكون متهمة أصلاً، من بعضهم، بأنها جزء من الأزمة! إذا كان ثمة أمر ينبغي أن تكون
الجماعة قد تعلمته، في السنوات الأخيرة، فهو أن قراراتها المصيرية، بما تحمله من صواب وخطأ، لا تقتصر تداعياتها عليها، بل إنها قد تشمل الوطن كله، إن لم يكن الوضع العربي برمته. ولنا في مصر، وما جرى فيها منذ ثورة عام 2011، وما استتبعها من انتكاسات، عِبَرٌ ودروس بليغة.
نعم، مثل هذه المراجعات، إن أريد لها أن تكون حقيقية وجادة، ينبغي أن تضم خبراء ومفكرين وأصدقاء ومحبين للإخوان، بل وناقدين موضوعيين لهم، ما داموا أنهم أصحاب هَمٍّ وطني أو عروبي أو إسلامي، فضلاً عن توسيعها داخل الصف الإخواني نفسه، فمنطق "المقربين" و"الثقات" و"المسؤولين التنظيميين" قد أورد الجماعة المهالك. ويصر "الإخوان" أنفسهم، قبل غيرهم، على أن مشاريعهم هي مشاريع أوطان وأمة، ومن ثمَّ لا يقبل منهم أن يتفردوا في تحديد مصائر الأوطان والأمة من دون تطعيم لقراراتهم وعملهم باستشارات ونصائح وكفاءاتٍ، يهمها أيضاً مصالح الأوطان والأمة. أما بقاء منطق أن من يقود، وهو محل الاتهام أصلاً (لا يعني هذا أنه مدان)، هو من يُحَقِّقُ في أدائه ومساره، فإن فيه استخفافاً وعدم جدية كبيرَين.
وحتى لا يساء فهم النقطة السابقة، ويتم توظيفها في سياق الخلافات الداخلية الإخوانية التي تشهدها تنظيمات إخوانية عربية، في الأردن مثلاً، فإنها لا تعني، أبداً، انتصاراً لتيار على آخر. فواحد من أمراض التنظيمات الإيديولوجية، أنها، من شدة استغراق نفسها وجهودها في العمل التنظيمي الداخلي، تنسى أنها جزء من مجتمع أكبر، ويصبح التنظيم بالنسبة لها منتهى الغاية، وكأنه ينساح منعزلاً في فراغ. وبالتالي، يستوي من يَدَّعي أنه يطالب بالإصلاح، ومن يُزْعَمُ أنه ضده، في تعطيل مسار المراجعات المطلوبة. بل إنه حتى من يَزْعُمُ أنه يريد الإصلاح، يتناسى، عامداً أم ساهياً، لا فرق، أنه كان يوماً في القيادة، ولم يجر مثل تلك المراجعات التي يطالب بها اليوم. ومرة أخرى، ذلك يعود، في جزئه الأكبر، إلى أن كثيرين من أبناء "الإخوان"، قيادةً وصفّاً، انهمكوا في الانتماء التنظيمي، ونسوا السياق المجتمعي الذي يتحركون فيه.
وهذا يقودنا إلى مسألة أخرى، متعلقة بمنهجين متعارضين داخل "الإخوان"، عند الحديث عن المراجعات المطلوبة. فإذا كان ثمة من يعارضها، أو أنه يريد أن يقصرها على أمور شكلية، بحيث لا تشمل المنهج والفكر والمسلك والبنية التنظيمية، بذريعة "قدسية" هذه الأمور، سواء أقالها لسان الحال أم لسان الفم، ففي المقابل، ثمة تيار آخر، أصبحت مقولات
الإصلاح لديهم أو المراجعات نوعاً من الصرعة والهوس المفتقد للمعنى والعمق، والمندرج في سياق المناكفة التنظيمية. وما بين هذين المنهجين المتعارضين، تضيع دعوات المراجعة الحقيقية والإصلاح البنيوي، فلا التعنت ومنطق "القداسة" قادر على تحريك "الإخوان" قُدماً، ولا منطق المهاترة والمزاودة والشخصنة يمكنه اجتراح ذلك، أيضاً.
وضمن المعطى السابق، تجد في صفوف بعض فروع "الإخوان"، اليوم، تمايزاً بين تيارين عريضين متناقضين. تيار يؤمن بـ"قداسة" التنظيم والمنهج و"صوابية المسار"، وبالتالي، فإن كل ما يجري ما هي إلا ابتلاءات غربلة "حتمية"، وكل من يدعو إلى المراجعة، أو الإصلاح، في هذه المرحلة المفصلية، يصبح، بالضرورة، "متساقطاً" على طريق الدعوة، أو مُختَرَقا من النظام، أو أنه قَصُرَ به "الزاد الإيماني"! في حين تجد على الضفة الأخرى تياراً يبالغ في إصدار الأحكام القيمية والجاهزة ضد خصومهم من "المتشددين" الذين لا يتورع عن وصفهم تارة بالمتطرفين، وأخرى بالتكفيريين، في استعارة، في أحيان كثيرة، لمفردات خصومهم جميعاً، أي خصوم "الإخوان"، بـ"معتدليهم" و"متشدديهم".
إن خصومة التيارين السابقين داخل الصف الإخواني هي من تعطل، إلى حد كبير، إجراء أي مراجعات حقيقية، وتساهم في إحباط صفهم الذي يراقب، بكثير من الأسى والغضب، مهاترات الطرفين وإسفافهم، في حين أن الأجهزة الأمنية تتخطفهم، وتضيق عليهم عيشهم، فيما يتكفل الإعلام بتشويه صورتهم، ضمن حملة محلية وإقليمية ودولية، تستهدفهم. فكيف يمكن أن تتم عملية المراجعات الجادة إن كان المُطالِبُ بها، في أحيانٍ كثيرة، يدرجها في سياق صراع الأجنحة داخل التنظيم، وموظفاً في ذلك الحملات الأمنية والسياسية والإعلامية على الجماعة اليوم، في حين أن من يدعي التمسك بـ"المبادئ" و"روح التنظيم" يريد أن يصادر، باسم "المقدس"، أي محاولة جادة لإجراء مثل تلك المراجعات، والقيام بالإصلاحات المطلوبة!؟
واحدة من أوجه أزمة "الإخوان" الأخرى، اليوم، التي ينبغي التنبه إليها، أيضاً، وأن تكون من ضمن الأمور التي تشملها المراجعات، تتمثل في أن تنظيمهم أصبح طارداً للكفاءات الفكرية والسياسية، أو، على الأقل، مهمشاً إياها ومعطلاً دورها، وهذا مما يساهم في حرمانهم من عطاء كثير من تلك الكفاءات. التصعيد في صفوف "الإخوان"، اليوم، يتم، في الغالب، على أساس "الكفاءة التنظيمية" (بما يعنيه ذلك من تحالفات ومصالح وشللية)، لا الكفاءة الفكرية والقيادية والتخصصية والمجتم
عية، وبالتالي، أصبح "القائد التنظيمي" قيداً على الكفاءة الحرة الفَذَّةِ وقامعاً لها، وربما مقصياً لها من التنظيم كلية. مع ضرورة الاستدراك، هنا، أن الكفاءة لا تعني مستوى تعليمياً فحسب، كما يتوهم بعضهم، فكم من حامل لشهادات عليا، ودَعِيَّ فكر واسع، ولكنه لا يملك حضوراً على الأرض، ولم يقدم أثراً يعرف به.
السطور السابقة، على الرغم من قسوتها، ليست لائحة اتهام ضد "الإخوان"، بل إن كاتبها محب لهم قريب منهم. وصاحبها لا يدّعي، أبداً، أنه محق في كل كلمة كتبها، لكنها ملاحظات يثيرها كثيرون آخرون غيره، ولا يمكن للإخوان أن يستمروا في التغاضي عن تقديم أجوبة مقنعة لها، ومهاجمة كل من يطرحها، ونعته بالعمالة، أو الضعف، أو السقوط والتردي. منطق "مركزية التنظيم" والاستغراق فيه على حساب "الرسالة" التي يرى كثيرون أن "الإخوان" تورطوا فيها اليوم، ينبغي أن يتم إعادة النظر فيه.
أخيراً، هل يعقل أنه، وبعد قرابة عقود تسعة من عمر "الإخوان"، لم يطرأ بعد تغيير على هيكلية تنظيمهم!؟ هل يعقل أنه، ومنذ أن أسس الإمام حسن البنا الجماعة، أواخر عشرينيات القرن الماضي، لم يَرَ "الإخوان" ضرورة بعد لإعادة النظر في وحداتهم التنظيمية؟ فمن فروعهم في العالم العربي، إلى الفروع المحسوبة عليهم، أو القريبة منهم، في أوروبا وأميركا، ولا زلت تسمع التوصيفات نفسها: "أسرة"، "كتيبة"، نقيب".. إلخ... أهي "القداسة" و"الهالة" التي أحيطت بها تلك البنى التنظيمية وهياكلها وتمنع تغييرها، أم أنها "النجاعة" و"الكفاءة" التي أثبتتها الأيام والتجارب؟ إذا كان "الإخوان" لم يصلوا بعد إلى مناقشة هذه الشكليات، فمتى تراهم سيصلون إلى مراجعة القضايا الأكثر جوهرية؟ سؤال سيبقى مفتوحاً، ومن أسفٍ أظن أن غيبة إجابته ستطول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق