يمكن للإعلام المصري أن يطلق كما يشاء إسم « إصطياد الفئران» على العملية العسكرية الواسعة التي يتم الترتيب لها للقضاء على « الإرهاب» في حدود البلاد الشرقية .
ويمكن لمروجي الفتنة وغياب العقل في إعلام «الهشك بشك» المصري أن يعود لممارسة لعبته المفضلة في إلإستفزاز والرقص على الجراح والمساهمة الفعالة في الإحتقان والتشدد والإرهاب فمع إعلام من النوع الراقص سياسيا على جراح الأمة كذلك الذي شاهدناه او نشاهده لا يحتاج الرئيس الجنرال عبد الفتاح السيسي لخصوم وأعداء.
بدلا من ممارسة هذا اللعق للدماء بطريقة بائسة على الشاشات وفي البرامج المباشرة مع الإحتفال بسقوط الأبرياء يمكن للإعلام لو إرتقى للمستوى الوطني المسؤول أن يبادر للمطالبة بتعزيز إمكانات وتأهيل الجندي المصري ورفع مستوى تدريبه ومعيشته فبدلا من العزف الإعلامي السقيم على وتر إصطياد الإرهابيين أصبح جنود الجيش المصري العظيم في سيناء وغيرها «صيدا سهلا» لشذاذ الأرض ومهربي العصابات والمجرمين والإرهابيين لأننا لا زلنا نعتبر إطلاق رصاصة واحدة من أي جهة على أي جندي عربي مسألة تخدم الصهيونية ما دامت الأرض العربية في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان ومصر نفسها محتلة وما دام المسجد الأقصى يئن تحت وطأة الإحتلال.
الجنرالات في الجيوش العربية للأسف لا يقاتلون ولا يقتلون ومن يدفع الثمن في المعارك والمواجهات الإرهابية وغيرها هم الجنود البسطاء والفلاحون والمزارعون الذين تم خذلانهم مرة بالتسليح والتدريب والراتب البائس ومرة بالقرار السياسي .
سيناء تعاني من مشكلات تنموية أساسية ومن فقر وتهميش وإقصاء وكلفة إصلاح الوضع الإقتصادي فيها أقل بكثير من كلفة تلك الحملات الأمنية التي تساهم في بقاء المجتمع السيناوي رهينة لقوى الظلام والتشدد والتطرف والإرهاب والتهريب.
في سيناء بطالة وأشقاؤنا المصريون يتحدثون عن معاناة لشعبها وعن وقوع الناس البسطاء والأبرياء بين فكي قوى التطرف الشاذة والموقف الرسمي الأمني الذي ينظر لسيناء نظرة إخضاع أمنية فقط ويرفض الإعتراف بأهلها أو شمولهم حتى بخطط التنمية الوهمية .
صديق إماراتي أبلغني شخصيا بأنه فشل في إقناع الحكومة المصرية بإقامة مصنع لرب البندورة في سيناء بسبب قرارات لها صفة القوانين في أروقة وزارة الصناعة المصرية وبسبب سياسة التهميش و»العقاب الجماعي» التي تتخذها السلطات المركزية ضد اهالي الصحراء من البدو وسكان المنطقة .
القاهرة ومنذ عقود تتجاهل أهالي سيناء ومطالبهم وقضاياهم وتلقي رموزها بهم قصدا في احضان البطالة والتهميش وقوى التطرف حتى يتم تبرير نفقات هائلة في المستوى الأمني يستفيد منها طبقة من النافذين فقط.
عشرات الخطط العسكرية والأمنية وضعت في الماضي لإخضاع سيناء وجوارها والزاوية الأمنية فقط تحكم كل الإعتبارات ولا يوجد عقلاء في مؤسسة القرار يقررون تجريب وصفة أخرى غير إتهام جميع أهالي سيناء أو التعامل معهم بقسوة وغلاظة وخشونة وتحميل العائلات والقبائل الأصيلة مسؤولية تصرفات أفراد وأشخاص وشذوذهم او الإتجاه لكذبة سمجة مضحكة قوامها دعم حركة حماس للإرهاب في سيناء.
لا يريد النظام العربي الرسمي الإيمان بأن كلفة القليل من «العدالة الإجتماعية» أقل بكثير من كلف الحروب المتكررة على الإرهاب فالأخير يصنع في منطقتنا على عتبتين لا ثالث لهما هما إسرائيل أولا والفقر والتهميش والإقصاء وسياسات الكراهية والفساد التي تكرسها أنظمة الحكم. ما الذي يمكن أن يفعله مواطن غلبان في سيناء أو الرقة او الفالوجة لمواجهة مجموعات متشددة او مجرمة مسلحة تدفع الكثير من الدولارات لأنصارها فيما لا يقوى هو على شراء رغيف خبز ولا يجد وظيفة في القطاعات الرسمية ولا تقام له مدرسة اومزرعة أو مشروع تنموي يسد رمقه؟.
مرة اخرى ما يحصل في سيناء يحصل في مواقع أخرى للأسف في عالمنا العربي فالجميع يتوعد مجتمعات بأكملها بالسلاح والخطط الأمنية والعمليات العسكرية والعنف والطائرات وإطلاق النيران دون التوقف عند دراسة حقيقية وعميقة لأسباب التطرف ومتغيرات تشكيل الحواضن الإجتماعية التي تدعم المتطرفين إضافة للخلفيات الإقتصادية والإجتماعية .
الإقصاء كان ولا زال من أهم المنتجات التي يستخدمها الإرهابيون والمتطرفون كذرائع لتبرير كل شيء والمواطن العادي في سيناء والأنبار وشمال لبنان وبنغازي مهمش وفقير ومعدم وبلا مستقبل وعالق تماما بين بندقية متطرفة تخطف الواقع وتخوض حربا تفتيتية بإسم الله والسماء والدين وبندقية اخرى بإسم السلطة والشرعية ترد عليها فتسحق وتدمر وتهاجم الأبرياء.
لا احد إطلاقا في عالمنا العربي اليوم يريد أن يتحدث عن الأسباب الإقتصادية والأمنية والسياسية لميل الناس للتطرف والتشدد وحتى رفع السلاح لأن الأنظمة الرسمية وأجهزتها ومن ورائها النظام الدولي والإقليمي يتاجر بصورة جماعية بقصة الإرهاب نفسها .
هذه المتاجرة يدفع ثمنها الأبرياء سواء اكانوا من بدو سيناء أو من اولئك الذين لبسوا الدشاديش وتركوا البنادق في الموصل بعدما شاهدوا باعينهم مصفحات خاصة وطائرات تنقل جنرالاتهم وقادتهم في عملية لا زالت غامضة وتنطوي بالتأكيد على الكثير من الأسرار.
لا يصح القول بأن إطلاق أوصاف مثل «فئران سيناء» وجرذان بنغازي أمر مفيد لا للمعركة الحقيقية ضد الإرهاب في بيئته وجذوره ولا للأنظمة ولا للشعوب العربية فالأصل أن يسمى الإرهابي إرهابيا إذا كان كذلك والنوايا الطيبة في إجتثاث أو حتى معالجة التشدد والغلو تبدأ من سؤال صغير وبسيط في علم الإدارة عنوانه «العدالة اٌلإجتماعية».
٭ مدير مكتب «القدس العربي» في الاردن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق