حدث ذلك في سبتمبر/أيلول الماضي، بعد أن أرسلت رسالة غاضبة إلى موقع "نيل وفرات" أحتج على تأخر غير معتاد لمجموعة كتب اشتريتها عبر الموقع، جاءني الرد من إدارة الموقع بأن الكتب وصلت منذ ثلاثة أسابيع إلى البريد المصري، وأنني يجب أن أراجع مقر الطرود البريدية. وعندما فعلت قال الموظف المختص إن طرد الكتب وصل فعلا، لكنه لم يحصل على تأشيرة الإفراج. لكنه لم يستجب لطلبي بأن يشرح مصطلح "تأشيرة الإفراج"، الذي ظهر فجأة في وسط الحوار، قررت ألا أستعوض الله في الكتب، وأن أكافح لمعرفة مصيرها، مستعيناً بصديق يعرف بحكم عمله زواريق هيئة البريد، ليبادرني الصديق بالسؤال "هي الكتب فيها حاجة تقلق؟". وقبل أن أعلق ساخراً أو شاخراً، قال مفسراً سؤاله "أصل الكتب ما عادتش بتدخل بسهولة زي الأول"، وحين قلت إنني تلقيت بسهولة كتباً من نفس الموقع في مطلع العام، قال ضاحكاً "ما هو ده كان الأول". بعد يومين، قال الصديق إنه عرف أن طرد الكتب ذهب إلى الأمن العام، حيث ستعرض الكتب على كيان يحمل اسم "لجنة فحص المحتوى".
وبعد أن استبدلت رغبتي في فش غلي فيه، بمحاولة فهم عمل اللجنة التي كنت أسمع اسمها لأول مرة، فهمت أن اللجنة كانت موجودة منذ أشرق على مصر فجر الدولة البوليسية، لكن عملها تعطل عقب ثورة يناير قبل أن يعود ثانية بعد تولي السيسي الرئاسة. حين سألني الصديق ثانية هل يوجد في الطرد كتب "مسيئة إلى السيسي" أو تهاجم الأوضاع الراهنة، قلت إن العالم لم يتمكن من فهم ما يحدث في مصر أصلاً لكي ينتج عنه كتباً يمكن أن يتم منعها، وطمأنته أن كل الكتب الموجودة بالطرد روايات وكتب سينما، فقال منبها "خد بالك لو لقوا فيها جنس هيصادروها"، قلت ضاحكا "أحسن ما يلاقوا فيها سياسة وتبقى قضية أمن قومي، أهو قضا أخف من قضا".
وبالفعل أفرج عن الكتب بعد أن تم فحص محتواها، ولم تجد فيها اللجنة الموقرة كلاماً يهتز له عرش السيسي. بعدها مباشرة قرأت شهادة كتبها الأستاذ مصطفى يوسف، في صفحته على فيسبوك، يروي فيها أنه ذهب إلى البريد لإرسال (هارد ديسك) إلى الإمارات، فسأله مسؤول خدمة التوصيل السريع "فيديكس" عن محتوى الهارد، وأخبره أنه لا بد من إرسال الهارد ديسك للمصنفات ليأخذ تصريحاً بالسفر، "قعدت أقاوح وأقول لهم ده هارد ديسك مش فيلم ولا كتاب، وأنا فرد يعني مش باصدّر حاجة، قالوا لي إنه من بعد رئاسة السيسي كل الهاردات والسيديهات لازم تعدي على المصنفات الأول".
وبرغم أن ذلك كان سيؤخر إرسال الهارد ديسك يومين إلا أنه وافق، قبل أن يفاجأ بأنه مطالب بدفع رسم لتصريح المصنفات قيمته 300 جنيه تضاف إلى ثمن الشحن، ليختم شهادته مستغرباً "يعني بادفع للحكومة فلوس عشان تراقبني.. ناقص يخلونا نطلع تصريح أمني للفاكس أو نبعت طلب لأمن الدولة عشان نعمل مكالمات دولية".
انفعال مصطفى جعله ينسى أنه لا يحتاج أصلاً لكي يقدم طلباً لأمن الدولة لعمل مكالمات دولية، لأن أمن الدولة المتنكر في ثياب الأمن الوطني يقوم أصلاً بالتنصت على المكالمات التليفونية المحلية والدولية و"فحص محتواها"، وما زال الأمن يسعى إلى تطوير أدائه الوطني بشراء أحدث تقنيات المراقبة والتجسس من أميركا وأوروبا، وهو المجال الوحيد الذي تحب حكوماتنا المتعاقبة أن تقتدي فيه بأميركا وأوروبا، بل وهي مؤهلة بجدارة لأن تتفوق عليهم في هذا المجال فقط، فإذا كان لدى الأميركيين والأوروبيين صحافة تشاكس ومنظمات حقوقية تعترض ومواطنون يقلقون على خصوصياتهم، فصحافتنا، إلا من رحم الله، تسبح بحمد السيسي آناء الليل وأطراف النهار، وإذا تجرأت فهي تتشطر فقط على إبراهيم محلب ووزرائه غير السياديين، والمنظمات الحقوقية أخد بعضها "الوبا" وأوكل السيسي أمر من ما زال يقاوم منها لفايزة أبو النجا، أما الغالبية الساحقة من المواطنين الشرفاء فلم تكتف فقط بقلع خصوصياتها وتسليمها للحكومة، بل هي على أتم استعداد لمساعدة عيون الأمن الساهرة في تحويل كل شبر من مصر إلى لجنة فحص محتوى، تنفيذاً لذلك النداء الذي وجهه الفنان (الملتزم) محمد صبحي قبل عام مخاطباً عبد الفتاح السيسي "أرجوك اقفل على مصر.. اقفل أبوابها"، وهي صيحة يبدو أنها أثرت في السيسي بشدة، حتى أنه لم يعد مكتفياً بأن يقفل أبواب مصر، وإنما في ما يبدو "ناوي يجيب ضُرَفها".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق