تعتذر الدكتورة أهداف سويف عن عدم كتابة مقالها الأسبوعى اليوم لأسباب صحية، وتنشر «الشروق» ترجمة كانت قد بدأت فيها لمضمون مقالها الذى نشر فى الأوبزرفر البريطانية الأحد الماضى:
التاسعة والنصف مساء فى القاهرة، وعبر النافذة تأتينى أصوات انفجارات قصيرة متقطعة. الكثيرون الآن يتعرفون على هوية الصوت، أما أنا فلا أميز بعد بين صوت ضرب النار، أو إطلاق قنابل الغاز، أو الشماريخ. والشماريخ تطلق للاحتفال بالأفراح، وللمعارك مع الأمن، ولدواعى البهجة والسرور. أعود إذن إلى المهمة التى تحت يدى: أكتب خطابا لسجين شاب، ربما تستطيع أخته توصيله فى زيارتها له غدا. مجرد خطاب تضامن، يؤكد له أنه ليس منسيا، أن هناك منا، خارج السجون، من جعلوا قضيتهم الأساسية أن يخرج المظاليم من السجون.
منذ ٣٠ يونيو ٢٠١٣ تم احتجاز نحو أربعين ألف مواطن، ١٦ ألف منهم ما زالوا محبوسين. الأكثرية تنتمى فى الغالب لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة الآن، البعض منهم تورط فى أعمال عنف، والأكثرية لم تفعل. أما الباقون ــ ويقدرون بثمانية أو تسعة آلاف ــ فينقسمون إلى نشطاء الثورة وعابرى سبيل شاء حظهم أن تواجدوا فى محيط الحملات الأمنية.
الدولة الآن تجند كل أدواتها لتحكم السيطرة على البلاد، وحتى المؤسسات التى كان لها انتفاضاتها المشهودة فى سنوات حكم مبارك ــ كالقضاة مثلا، وأساتذة الجامعات، والإعلام ــ طوعا سارعت إلى الحظيرة. والمسألة ليست بالضبط أنهم يمشون على الخط الذى ترسمه لهم الحكومة، بل المرجح أن قياداتهم على الأقل ارتأت أن مصالحها تتماشى أكثر مع ما يسمى بالاستقرار، وليس مع التغيير الثورى.
معظم المساجين السياسيين من الشباب. يقدر عدد القصر المحبوسين بنحو ألف قاصر على امتداد ٩ محافظات، ويقدر عدد الطلبة بنحو ألفين. ولكل حالة تفردها، وعبثيتها، وقهرتها. ومعا يشيرون إلى حرب على الشباب.
فى بلدنا ــ التى تصل نسبة من هم تحت سن الخامسة والعشرين فيها إلى أكثر من خمسين فى المائة ــ يخاف حراس الدولة من الشباب. قضوا الصيف ينزعون عن الجامعات المكاسب الديمقراطية، التى حققتها بعد يناير ٢٠١١، وحين وصل الطلاب إلى بوابات جامعاتهم فى اليوم الأول للدراسة واجهتهم قوات شركات الأمن الخاصة، وفى فجر اليوم نفسه كان الأمن قد داهم الطلاب فى بيوت آبائهم واحتجز ٥٧ منهم.
كل هذا باسم الحرب على الإرهاب. وفى الواقع، نعم، هناك إرهاب فى مصر. يوم الأربعاء انفجرت عبوة ناسفة بالقرب من دار القضاء العالى فى وسط العاصمة فتركت ١٢ مصابا، ويوم الخميس انفجرت عبوتان ناسفتان فى طنطا وسط احتفال سنوى فأصابت ١١شخصا، ومساء نفس اليوم انفجرت عبوتان ناسفتان فى سيارة شرطة مارة بجوار مركز شباب فى العريش فاستشهد ثلاثة جنود وأصيب تسعة، سبعة منهم فى حالة حرجة. تقرير «مؤشر الديمقراطية» يحصى أن شهر سبتمبر شهد ٣٢ تفجيرا باستعمال العبوات الناسفة. نحن، الشعب، احتوينا هذه التفجيرات فى «معتادنا» الجديد مثلها مثل انقطاع الكهرباء، وأخبار اختطاف الأطفال وطلب الفدية، والمعارك بالسلاح التى تنشب فجأة بين الأهالى بل والقرى، والأسعار الآخذة فى الارتفاع، وتصاعد أعداد ضحايا حوادث الطرق، وأعداد المنتحرين، وغيرها.
تتجاهل الحكومة كل علامات المحنة ونذر الانهيار وتركز على حربها محدودة النجاح على الإرهاب، فتقمع الحريات وتنزع الشرعية عن المطالبات، والتعويذة: احمدوا ربنا إن مصر مش سوريا والعراق وليبيا.
خطأ محورى ارتكبته حكومة الإخوان المسلمين برئاسة د. محمد مرسى، هو أنها ظنت أنها ورثت من مبارك حقوق الكفالة والقمع ــ ولكن بمنتفعيها الجدد وضحاياها الجدد. لكنها اختارت تحالفات غير موفقة، وأخطأت حساب قوتها، كما أخطأت تقدير مزاج الشعب.
الآن الناس تعرف فى قرارة نفسها ــ وقد تقبل معظمهم، على الأقل فى الوقت الحالى ــ أننا عدنا إلى النسق السلطوى. السيد عبدالفتاح السيسى، رئيس منتخب، ويتمتع ــ حتى الآن ــ بشعبية كبيرة. ويبدو أن الصفقة الكلاسيكية قد عقدت: سنتازل عن حرياتنا لقاء الأمن ولكى تدور عجلة الاقتصاد. أما شعار الثورة العظيم: «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، فقد انكمش إلى «ممتنون لكسرة خبز فى ركن آمن».
لماذا إذن الإصرار الثقيل على إخماد أى بارقة طاقة مستقلة.. ولماذا الحرب على الشباب؟ ولماذا الحرب المرتقبة على منظمات المجتمع المدنى التى هى روافد وحصن الثورة؟ فالحكومة قد حددت للمنظمات موعدا أقصاه ١٠ نوفمبر ليتقبلوا إشراف المؤسسة الأمنية على مشروعاتهم أو يتعرضوا للحظر.
النظام يريد ضدين: هو لا يستطيع أن يتنكر تماما لـ ٢٥ يناير وإلا اضطر لإعادة أسرة مبارك وشركائها إلى الرئاسة، لكنه يكره كل شىء، وكل شخص له علاقة بـ٢٥ يناير. ولذا نجد خطابه الرسمى يصر على توأمة ٢٥ يناير و٣٠ يونيو، بينما أجهزته تلاحق كل رموز ٢٥ يناير، وتصادر كل مكاسب الثورة باسم الأمن والاستقرار والدولة القوية. وكلما انقشع الدخان، لا نرى من الدولة هذه غير المزيد من المصفحات فى الشوارع، وبدعة الإعلانات الضخمة لشركات التأمين الخاصة.
كان نظام مبارك قد بلغ الكبر والترهل وعدم المبالاة، وفى سنواته الأخيرة بدا وكأنه لا يهتم كثيرا بما يقوله الناس طالما لم تمس مصالحه البزنسية. أما النظام الذى يحكمنا اليوم فهو مفرط الحساسية: لا يكفيه أنه يقيم المشروعات الضخمة المثيرة للتساؤلات، ولا قدرته على استصدار القوانين لحمايتها؛ دولته تحتاج الحماية من الإرهاب ومن المؤامرات المختلفة، لكنها تحتاج أيضا الحماية من محاولات تشويه صورتها، ومن النُكَت، وعدم التوقير، واللغة الهابطة، الحماية من الطلبة، والفنانين، والجرافيتى، والألتراس، والصحفيين، والمصورين. وتحتاج، الآن وفى المستقبل، إلى الحماية من المحاسبة على الجرائم التى ارتكبتها ضد الشعب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق