العربي الجديد
"الابتذال" هو المشروع القومي الوحيد لمصر الآن.. موجة من الإسفاف تضرب كل مناحي الحياة، إسفاف في الفعل، وإسفاف في القول، إسفاف في كل مكان، حتى إنه بدأ يطال ردود أفعال المعارضين لحالة الابتذال العام أيضا.
أعرف صديقا تخرّج من كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية في السبعينيات، وقرر أن ينجو بتفوقه ونبوغه في بلد لا يعترف بالنوابغ، فسافر واستقر في نيويورك، حتى جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير فأيقظت فيه حلم العودة، تفاؤلا بأن مصر جديدة تولد.
جاء الانقلاب وحكمت الثورة المضادة، فلزم المهندس المهاجر منفاه الاختياري، ومكث يتابع ما يدور، يكتب أحيانا وجهات نظر شديدة التهذب والرقي على صفحته بموقع "فيسبوك"، دون أن تتسلل كلمة واحدة نابية أو لفظ خادش إلى ما يكتب.
بالأمس فقط وجدت هذا الصديق يكتب على صفحته سطورا ضد سلطة القمع والبطش في مصر، مستخدما المفردات الذائعة في وصف قيادات الانقلاب منذ ذلك "الهاشتاج" الشهير الذي حقق أرقاما قياسية.
ظننت أن أحدا اخترق حساب الرجل، فأرسلت له معبرا عن استغرابي لاستجابته لحالة الإسفاف العام، وقلت له إن لدي شكوكا في أنه كتب هذه العبارات، فأكد أنه هو من وضع هذه الكلمات بعد أن بلغ به القرف من الوضع حدا لم يعد فيه قادرا على تمالك مشاعره وامتلاك مفرداته.
هذا الصديق بادرني: وهل هناك ابتذال وإسفاف أكثر مما تمارسه السلطة في طلاب الجامعات هذه الأيام؟
وأردف: هندسة الإسكندرية تُضرب بالمدافع الآن، ويتعرض طلابها إلى أبشع أنواع الاعتداءات الأمنية، هذه الكلية التي خرّجت قمماً مصرية، على رأسهم عالم الذرة الأشهر الدكتور يحيى المشد، الذي اغتيل على يد الموساد الإسرائيلي في سبعينيات القرن الماضي.
ثم يقول في أسى: لا مستقبل لوطن يشعل النار في مستقبله، من أجل استعادة أحط فترات الماضي.
ثم طلب مني أن أنظر حواليّ على عروض الابتذال المقامة في أروقة المحاكم واستوديوهات "التوك شو" والصحف اليومية.
كنت بالمصادفة أطالع خبرا منشورا على صفحة صديقة أخرى يقول "سيدة تضع 3 توائم في أسيوط أثناء زيارة رئيس الوزراء، وتسميهم "السيسي ومحلب وعادل"، ومعه تعليق طريف يقول "الابتذال ملأ الشوال".
والحال أن جوالا واحدا لا يكفي، إذ بات الأمر يتطلب مئات، بل آلافا، من الأجولة لتعبئة محصول الإسفاف والابتذال الوفير في طول مصر وعرضها الآن.
خذ عندك هذا المشهد من أعلى محاكم مصر التي تدور فيها محاكمات كوميدية لقيادات الإخوان والمعارضين للانقلاب، وهو منقول حرفيا من صحافة الانقلاب.
يقول الخبر "استكمل اللواء عادل عزب، أمام محكمة جنايات القاهرة المنعقدة بأكاديمية الشرطة، سرده للوثيقة التي أثبتت تحالف الإخوان المسلمين مع حماس. وقال إنه كان يهدف لإدخال المجاهدين إلى فلسطين، وأن تتسم جماعة الإخوان بالجهادية، وتعليمهم فى صالات الحديد "الجيمانيزيم"
فاعترض المتهمون على كلمة "جيمانيزيم" وقالوا إنهم لا يفهمون معناها. فرد القاضى عليهم "الجيم"، ونادى على "البلتاجي" قائلاً "إزاي انت ماتعرفش؟ هي عبارة عن علبتين سمنة تملأ بالأسمنت وترفعها بإيدك، ما هو ده اللي فتقك يا بلتاجي".
إذن.. ومع الاعتذار للراحل يوسف وهبي "وما الدنيا في مصر إلا مسرح عبثي كبير" لا يقطع عبثيته سوى هذه الورود الفواحة بالأمل في الجامعات المصرية الآن.. هم الكلمة الجادة في محيط هادر وهائج من الابتذال وانعدام القيمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق