صبحي غندور*
تتعدّد التحليلات بشأن
ما يحدث الآن في مصر، ويختلف الكثير من المصريين والعرب حول توصيف طبيعة نظام الحكم
الحالي فيها، إذ وصف البعض هذا النظام بأنّه "الجمهورية الثانية"، بعد
"جمهورية العسكريين" التي بدأت مع "ثورة 23 يوليو" في العام
1952. وخطورة هذا الوصف أنّه يضع حقبة جمال عبد الناصر في سلّةٍ واحدة مع حقبتيْ أنور
السادات وحسني مبارك، رغم إدراك هذا البعض لخطأ هذا التوصيف، ولما فيه من ازدراء شديد
للحقبة الناصرية التي تناقضت سياساتها الداخلية والخارجية مع كلّ ما جاء بعدها.
ولقد حاول هذا البعض
"التنظير" لثورة 25 يناير بأنّها ثورةٌ أيضاً على ثورة 23 يوليو، وبأنّها
ثورة من أجل الديمقراطية فقط، وضدّ استبداد النظام السابق وفساده، وليست ثورةً أيضاً
على سياسة التبعيّة والعلاقات مع إسرائيل، والتي قزّمت دور مصر الطليعي في عموم المنطقة،
وأضعفت مصر نفسها بعد أن قيّدتها منذ نهاية عقد سبعينات القرن الماضي بأغلال المعاهدات.
ربما يصّح القول أنّ
مصر تعيش الآن حقبة "الجمهورية الثالثة" والتي لم تتّضح بعدُ ملامح رؤيتها
الإستراتيجية لكيفية بناء مصر الداخل اقتصادياً واجتماعياً ودستورياً، ولا أيضاً التغييرات
التي ستحدثها في السياسة الخارجية.
فمصر تشهد الآن ولادة
هذه "الجمهورية الثالثة" فيها، بعد جمهورية "ثورة 23 يوليو" التي
قادها جمال عبد الناصر، ثمّ جمهورية "الارتداد على ثورة يوليو" التي حصلت
في فترتيْ السادات/مبارك. ومن غير المعروف بعد كيف ستكون سمات وسياسات هذه "الجمهورية
الثالثة" الوليدة حديثاً، أي ما بعد ثورة 25 يناير.
هنا أهمّية أن يحدث
الآن التكامل المطلوب بين ما قامت من أجله "ثورة يوليو" وما كانت عليه من
نهجٍ تحرّريٍّ عربي، وبين ما هي عليه "ثورة يناير" من أهداف سياسية واجتماعية.
مصر بحاجة إلى هذا التكامل بين الثورتين، والأمّة العربية جمعاء بحاجةٍ إليه أيضاً.
وهاهي المنطقة الآن
تعيش مرحلةً جديدة من الاستقطابات الدولية/الإقليمية، في ظلّ غيابٍ متواصل لمشروع عربي
مشترك، ولإرادة عربية مشتركة، وهو أمر لن يحدث قبل ظهور نتائج التحوّل السياسي الذي
يجري الآن في مصر، لمعرفة كيف سيكون عليه الدور المصري في عموم المنطقة، وما مدى تأثيراته
المرتقبة على المشاريع الدولية والإقليمية.
وقد يعتبر البعض أنّ
الحديث الآن عن ناصر هو مجرّد حنين عاطفي لمرحلةٍ ولّت ولن تعود، بينما يُغرق هذا البعض
الأمَّة في صراعاتٍ وخلافاتٍ عمرها أكثر من 14 قرناً، ونتائج تلك الصراعات لن تكون
إعادة نهضة الأمَّة العربية بل تقسيمها إلى دويلات طائفية ومذهبية تتناسب مع الإصرار
الإسرائيلي على تحصيل اعتراف فلسطيني وعربي بالهُويّة اليهودية لدولة إسرائيل، فتكون
"الدولة اليهودية" نموذجاً لدويلاتٍ دينية ومذهبية منشودة في المنطقة كلّها!.
فهو "زمنٌ إسرائيلي"
نعيشه منذ رحيل ناصر المفاجئ في 28 سبتمبر 1970، وبعد الانقلاب الذي حدث على
"زمن القومية العربية" حين كانت مصر في خمسينات وستينات القرن الماضي طليعته.
فاليوم تشهد مصر وكل بلاد العرب "حوادث" و"أحاديث" طائفية ومذهبية
وإثنية لتفتيت الأوطان نفسها، لا الهويّة العربية وحدها.
هو "زمنٌ إسرائيلي"
الآن على مستوى العالم أيضاً. فعصر "كتلة عدم الانحياز" الذي كانت مصر رائدته،
تحّول إلى عصر "صراع الشرق الإسلامي مع الغرب المسيحي"، بينما تهمّش
"الصراع العربي/الصهيوني"، ومكاسب إسرائيل في هاتين الحالتين هي وحدها التي
تتحقق.
لذلك، فإنّ الكتابة
عن ناصر ليست ابتعاداً عن الحاضر أو تجاهلاً للمستقبل أو حنيناً لماضٍ يفتقده عشرات
الملايين من العرب، بل هي دعوةٌ للمقارنة بين نهجٍ يسود الآن في التعامل مع الأزمات،
مقابل نهج "ناصري" واجه أزماتٍ مشابهة لصراعاتٍ لم تزل مستمرّة لأكثر من
نصف قرن.
لقد عاشت المنطقة العربية
في بداية الخمسينات وحتى منتصف السبعينات من القرن العشرين – رغم الكثير من التعثّر
والانتكاس- صحوةً قومية عربية لم تعرف لها مثيلاً في تاريخها الحديث. فقبل الخمسينات،
وامتداداً في القرون العجاف تحت الحكم التركي ثمّ سيطرة دول الغرب على العرب، لم يكن
للعرب حولٌ ولا قوّة تُذكر.
منتصف القرن العشرين
جاء حاملاً معه متغيّراتٍ كثيرة في المنطقة العربية، وفي العالم ككلّ. فالخمسينات التي
كانت موقعاً زمنياَ وسطياً للقرن العشرين، كانت أيضاً من خلال قيام "ثورة 23 يوليو"
عام 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، بدء انطلاق حركةٍ قومية عربية وسطية "لا شرقية
ولا غربية"، ترفض الانحياز إلى أحد قطبيْ الصراع في العالم آنذاك، وترفض الواقع
الإقليمي المجزّئ للعرب كما ترفض الطروحات القومية الأوروبية العنصرية والفاشية أو
أسلوب الضمّ العسكري، وتنطلق من أرض مصر التي هي موقع جغرافيّ وسط يربط إفريقيا العربية
بآسيا العربية. وقد استطاع جمال عبد الناصر من خلال موقع مصر وثقلها القيادي، أن يحقّق
للمرّة الأولى صحوةً قوميةً عربية تؤكّد ضرورة التحرّر الوطني والاستقلال القومي والانتماء
إلى أمَّةٍ عربيةٍ واحدة، وتدعو إلى وحدة وطنية شعبية في كلّ بلدٍ عربي، وإلى استخدام
الوسائل السلمية في التغيير وفي الدعوة للوحدة العربية، وإلى نهضةٍ عربيةٍ شاملة في
الأطر كلّها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
طبعاً كانت سمة تلك
المرحلة هي خوض "معارك التحرّر الوطني من الاحتلال والاستعمار"، وهذه المعارك
لم تسمح كثيراً ب"الحديث عن الديمقراطية" خاصّةً وأنَّ العالم آنذاك كان
قائماً على تجربتين: التجربة الرأسمالية في الغرب، التي تقوم على تعدّد الأحزاب والحريات
العامَّة مع النظام الاقتصادي الحر، والتجربة "النموذجية" الثانية والسائدة
حينها كانت التجربة الشيوعية (السوفييتية أو الصينية)، والتي كانت ترفض أساساً وجود
حزبٍ آخر غير الحزب الحاكم ولا تقبل بأيّ نوعٍ من الحرّيات العامة في المجتمع، وتقوم
على الاقتصاد الاشتراكي الموجَّه والمُسيطَر عليه من قبل الدولة.
لذلك كان من الطبيعي
في منطقةٍ عربية تريد التحرّر من الغرب الرأسمالي (كحال معظم دول العالم الثالث آنذاك)
أن تطلب المساندة من "الشرق الشيوعي" وأن تتأثّر بمفاهيمه للحكم سياسياً
واقتصادياً.
وصحيحٌ أنّ "مرحلة
ناصر" انتهت منذ أربعة عقود، لكن دروسها للحاضر والمستقبل ما زالت قائمة، فالهُوية العربية هي حالة انتماء لكل العرب ولم يخترعها جمال
عبد الناصر، وهي ليست مضموناً فكرياً وسياسياً قائماً بذاته ليختلف بشأنه العرب، بل
هي هُوية ثقافية مشتركة لكلّ سكّان الأمّة العربية بغضّ النظر عن طوائفهم ومذاهبهم
وأصولهم الإثنية. ثمّ أنّ النهضة العربية الشاملة تحتاج إلى دورٍ مصريٍّ فاعل وإلى
تكامل بين وضوح الهويّة العربية وبين البناء الديمقراطي السليم وبين الحرص على أولوية
التحرّر الوطني واستقلالية القرار السياسي.
رحم الله جمال عبد الناصر
الذي أدرك أنَّ قوّة مصر هي في عروبتها، وأنَّ أمن مصر لا ينفصل عن أمن مشرق الأمَّة
العربية ومغربها ووادي نيلها الممتد في العمق الإفريقي. رحم الله تعالى جمال عبد الناصر،
الذي حرص كردٍّ على هزيمة عام 1967 على أن يوقف أيّة صراعات عربية/عربية وعلى أن يبني
تضامناً عربياً فعّالاً، فصالح كلَّ من عاداه من العرب، ورفع شعار أولويّة المعركة
مع العدوِّ الصهيونيّ، حيث قامت حصيلة ذلك جبهةٌ عربية واسعة جمعت "دول النفط"
مع "دول المدفع" في إطارٍ تضامنيٍّ عام، ساعد على إعادة بناء القوات المسلحة
المصرية وخوضها لمعارك حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية لمدّة عامين، ثمّ كان هذا
التضامن ذاته وراء القرار في حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، الذي جمع بين استخدام
السلاح والاقتصاد والسياسة في المواجهة مع إسرائيل ومن يدعمها.
مصر الناصرية كانت لا
تستنزفها صراعات طائفية أو إيديولوجية، ولا تلهيها معارك هامشية عن المعركة الرئيسة
مع العدوّ الصهيوني. وقد ربط القدر بين يوم انفصال سوريا عن مصر في 28 سبتمبر عام
1961 وبين أوّل أزمة صحية تعرّض لها جمال عبد الناصر، ثمّ ربط القدر أيضاً بين وفاته
في 28 سبتمبر عام 1970 وبين مناسبة ذكرى الانفصال آنذاك.
ولعلّ خير شهادة لعبد
الناصر أنّ أول جرح له كان في فلسطين ثم مات من أجلها حيث دفع حياته ثمناً لوقف نزيف
الدم العربي الذي كان يحدث لأشهر في الأردن، ومن أجل الحفاظ على التضامن العربي وعلى
القضية الفلسطينية.
*مدير "مركز الحوار
العربي" في واشنطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق