( 1 )
كنت قد تحدثت عن العدالة الانتقالية
، وعن عدالة الانتقال إلى المرحلة الانتقالية ، ومنها ، وأشرت إلى أن الفقه الإنساني
الحديث استمد الوحي بخصوص هذه المسألة من الدرس الجنوب إفريقي الذي ألقاه نلسون مانديلا
، وأهمية هذا الدرس لاتكمن في دلالاته الإنسانية حول التسامح ونبذ العنف ، وإنما قبل
ذلك وبعده في خصوصية التجربة ذاتها ، حيث العنصرية التي تسلح بها أولئك الأفّاقين القراصنة
الذين نزلوا سواحل إفريقيا الجنوبية ، ثم استوطنوها كانوا يدعوّن أنهم في أعلى سلم
الحضارة البشرية علماً وثقافة وتطوراً ، وأن تلك الكائنات السوداء البدائية لا تصلح
إلا للخدمة ، ولا ترتقي لمستوى القطط والكلاب التي يتباهون بتربيتها والرفق بها ، نقصد
من ذلك أن تحصيل العلم والبناء والملابس الزاهية وناطحات السحاب واختراع المدافع والطائرات
والصواريخ العابرة للقارات وللفضاء ، وإلى آخر مخترعات العصر الحديث أكثر سهولة بما
لا يقاس من بناء إنسان بمواصفات إنسانية خالية من التوحش ، وهكذا كان الدرس الجنوب
إفريقي فائق الدلالة من هذه الناحية ، حيث لقنت تلك الكائنات البدائية السوداء أولئك
المتحضرين المتطورين ... درساً بليغاً في الأنسنة أدخلوه مرغمين في السجل الذهبي للإنسانية
، فالقضية هنا لا تقتصر على موقف مانديلا ، وإنما تتعداه إلى أن ذلك الشعب المقهور
بأغلبيته ، والذي كان يتعرض للقهر والإذلال والقتل الجماعي قد تخلى عن غرائزه ، وجنح
للتسامح والسمو الإنساني الرفيع ...
( 2)
إن ذلك الموقف لم يكن فريداً في التاريخ الإنساني ، فذلك التاريخ غني
بالمواقف والدروس الإنسانية ، لكن المشكلة كانت ومازالت بالذين يقلبوًن صفحاته ، ويهملون
في الغالب تلك المواقف الإنسانية النبيلة بينما يبحثون عن المذابح ، وعن الذين يشهرون
السيوف ويرتكبون الجرائم والمجاذر بحق الإنسانية لا لمجرد المعرفة التاريخية ، ولكن
لتشريع جرائم الحاضر والمستقبل ، والبحث عن إثارة الغرائز ، أو كما يتفقّه خبراء علم
الصحافة ، فينبهّون تلامذتهم إلى" أن يعض الكلب فلان فهذا ليس بخبر ، الخبر أن
فلان قد عض الكلب " ، هكذا يبحثون عن "الإنسان البطل الشجاع الملهم الذي
يعض الكلب" ولا يكتفي بعضعضة البشر ، أو سحقهم ... هكذا تناسى أحفاد إخناتون وحمورابي
تعاليم الأول وقوانين الثاني ، وهكذا تجاهل أتباع النبي إبراهيم الخليل أنه حطم أصنام
قومه ولم يخوض الحروب لتحطيم أصنام الآخرين ، وهكذا تجاهل أتباع السيد المسيح دعوته
للمحبة والأنسنة فلخص الموقف الإنساني كله
بها "الله محبة" ثم حمل صليبه يفتدي الأنسانية ، وسواء شُبه لهم ، أو أنه
صُلب ثم قام ، فالنتيجة واحدة ، وهكذا أيضاً
تجاهل أتباع الرسول محمد بن عبد الله دعوته إلى العدالة والمساواة والتسامح عندما وقف
مخاطباً الذين آذوه وظلموه وهجرّوه وقاتلوه وقتلوا أهله وأصحابه : "أذهبوا فأنتم
الطلقاء" تعبيراً عن مبدأ تركه للبشرية من بعده لم يلتفت له أغلب أتباعه فيما
بعد :"العفو عند المقدرة" هل نعرّج بعد ذلك على تعاليم بوذا وكونفيشوس وأرسطو
وصولاً إلى غاندي ومانديلا وما بينهم ومن أتى قبلهم وبعدهم من رواد إنسانيين لا يتسع
المجال هنا لسرد الأسماء ، فالمشكلة لم تكن بالتراث النبيل الذي تركوه لنا ، كما أن
المشكلة ليست أساساً بالمناهضين لتلك الأفكار النبيلة ، وإنما كانت ، ومازالت في أتباع
أولئك العظماء الذين صرفوا النظر عن جوهر تلك الأفكار العظيمة واستعاضوا عن ذلك بالمبالغة
في الطقوس ، ومظاهر الولاء ، والتعبد ، وحتى التصنيم ، فعادوا واقعياً إلى أجواء التوحش
التي جاء اولئك العظماء لتغييرها .
( 3 )
إننا لا نقصد من ذلك التسامح الذي
ندعو إليه إهدار الحقوق ، أو الاستكانة للظالمين والطغاة على العكس تماماً ، نحن نشير
فقط إلى تنوع أساليب المقاومة من جهة ، وإلى العدالة الواجبة التطبيق ، بحيث لا تؤدي
مقاومة الظالمين إلى إنتاج ظلم جديد قد يكون أكثر توحشاً ، وهذا يعيدنا إلى السيرة
العطرة لأولئك العظماء ، فهذا جدنا إبراهيم الخليل يحمل فأسه ويحطم أصنام قومه التي
يحتمي بها النمرود لظلم شعبه ، وهذا السيد المسيح يدعوا حواريه لمقاومة الظالمين فيقول
لهم : من لم يكن لديه سيف فليبع رداءه ويشتري سيفاً ، وهذا الرسول محمد بن عبد الله
يتلقى رسالة السماء بأن الجرم لا يقع على الظالم ، وحسب ، وإنما يشمل المظلوم الذي
يستكين للظلم ن ولا يقاومه ، مانقصده أن أولئك العظماء كانوا يدعون لرفع المظالم ،
ويدعون لمقاومة الظالمين ، والفاسدين ، ومحاسبتهم ، لكن هذا كله مشروط بالعدالة التي
تقيّد المقاومة والمحاسبة فلا ينتج عنها مظالم جديدة ، وهذا هو جوهر المسألة ، كيف
يتم ضبط قوة المقاومة وحصرها برفع المظالم ، ومحاسبة الظالمين ، وتعويض الضرر ، وإنصاف
المظلومين ، باختصار شديد : كيف نجعل قوة الحق ضابطاً لحق القوة ، فلا تنفلت لتكرار
إنتاج المظالم من جديد .
( 4 )
عود على بدء ...
لقد بدأنا هذا الحديث من دروس مانديلا في
الجنوب الأفريقي ، ومانديلا رغم تقدمه في العمر أعاد إليه الربيع العربي النشوة والتفاؤل
، فوجد من واجبه أن يخاطب عرب الربيع مباركاً ، لكنه في الوقت ذاته ينبّه من المخاطر
، وسأسمح لنفسي أن أنشر رسالته إلى الثوار العرب كاملة ، وسأتركها تتحدث عن نفسها :
من مانديلا إلى الثوار العرب ...
إخوتي في تونس ومصر ...
أعتذر أولاً عن الخوض في شؤونكم الخاصة،
وسامحوني إن كنت دسست أنفي فيما لا ينبغي أن أقحم نفسي فيه. لكنني أحسستُ أن واجب النصح
أولاً، والوفاء ثانياً ، لما أوليتمونا إياه من مساندة أيام قراع الفصل العنصري يحتمان
علي رد الجميل وإن أفيدكم بإبداء رأي محّصته التجارب ، وعجنتْه الأيامُ ، وأنضجته السجون.
ما زلت أذكر ذلك اليوم بوضوح. كان يوماً
مشمساً من أيام "كيب تاون". خرجت من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه عشرة آلاف
عام. خرجت إلى الدنيا بعد أن وُورِيتُ عنها سبعاً وعشرين حِجةً لأني حلمت أن أرى بلادي
خالية من الظلم والقهر والاستبداد.
ورغم أن اللحظة أمام سجن "فكتور فستر"
كانت كثيفة على المستوى الشخصي، إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الزمن، إلا أن
السؤال الذي ملأ جوانحي حينها هو: كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلا؟ أكاد
أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم. لقد خرجتم لتوكم من سجنكم الكبير. وهو سؤال
قد تحُدّد الإجابة عليه طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم.
إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم.
فالهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي. أو على لغة أحد مفكريكم – حسن الترابي- فإن إحقاق
الحق أصعب بكثير من إبطال الباطل.
أنا لا أتحدث العربية للأسف، لكن ما أفهمه من الترجمات التي تصلني عن تفاصيل
الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس تشي بأن معظم الوقت هناك مهدر في سب وشتم كل من
كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين، وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفي
والإقصاء، كما يبدو لي أن الاتجاه العام عندكم يميل إلى استثناء وتبكيت كل من كانت
له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة. ذاك أمر خاطئ في نظري.
أنا أتفهم الأسى الذي يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة، إلا أنني أرى
أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة، فمؤيدوا النظام
السابق كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل الأمن والدولة وعلاقات البلد مع الخارج.
فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم في هذه المرحلة التي تتميز
عادة بالهشاشة الأمنية وغياب التوازن. أنتم في غنى عن ذلك، أحبتي. إن أنصار النظام
السابق ممسكون بمعظم المؤسسات الاقتصادية التي قد يشكل استهدافها أو غيابها أو تحييدها
كارثة اقتصادية أو عدم توازن أنتم في غنى عنه الآن.
عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلد،
فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم
في البحر أو تحييدهم نهائياً، ثم إن لهم الحق في التعبير عن أنفسهم وهو حق ينبغي أن
يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة.
أعلم أن مما يزعجكم أن تروا ذات الوجوه التي كانت تنافق للنظام السابق تتحدث
اليوم ممجدة الثورة، لكن الأسلم أن لا تواجهوهم بالتبكيت إذا مجدوا الثورة، بل شجعوهم
على ذلك حتى تحيدوهم، وثقوا أن المجتمع في النهاية لن ينتخب إلا من ساهم في ميلاد حريته. إن النظر إلى المستقبل
والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير.
أذكر جيداً أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحدٍ واجهني هو أن قطاعاً واسعاً
من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنني وقفت دون
ذلك وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب
الأهلية أو إلى الديكتاتورية من جديد. لذلك شكلت “لجنة الحقيقة والمصالحة” التي جلس
فيها المعتدي والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما الآخر. إنها سياسة مرة لكنها ناجعة(..)
أرى أنكم بهذه الطريقة – وأنتم أدرى في النهاية - سترسلون رسائل اطمئنان إلى
المجتمع الملتف حول الديكتاتوريات الأخرى أن لا خوف على مستقبلهم في ظل الديمقراطية
والثورة، مما قد يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى التغيير، كما قد تحجّمون خوف
وهلع الدكتاتوريات من طبيعة وحجم ما ينتظرها.
أتمنى أن تستحضروا قولة نبيكم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
نلسون روهلالا مانديلا
( 5 )
أعترف أمامكم أن هذه الرسالة انتشلتني
، ربما إلى حين ؟ لكن لا بأس ، من كوابيس تطبق على مخيلتي رغم أنني ، وهذا من باب الاعتراف
أيضاً ، كنت أدرك مخاطر التغيير التي لا بد من مواجهتها ، لقد أنعشني خطاب مانديلا
اعتباراً من العبارة الأولى : "من مانديلا إلى الثوار العرب" ثم عبارته التالية
: "إخوتي في تونس ومصر" ذلك أن تاريخ الرسالة يعود إلى تاريخ انتصار بوادر
الربيع العربي في كل من تونس ومصر ، ولا أعرف ماذا يمكن أن يقول الآن إذا أتيح له اليوم
أن يوجه رسالة ثانية ، ترى ماذا كان يمكن أن يقول ؟ على أية حال : إن ماجاء في رسالته
يكفيني ، وأرجو أن يدرك الذين يعنيهم الأمر المدلول الحقيقي لذلك ، فهل يثور الثوار
العرب على ترددهم ويعلنوا الثورة العربية الشاملة لتهب رياح الربيع العربي بين المحيط
والخليج تطرد رياح السموم والظلم والتبعية والفساد والاستبداد لتتفتح ازاهير الحرية
والتقدم والعدالة والمساواة ؟ . من يدري ؟ ربما ؟ من كان يصدّق أن زين الحاكمين سيهرب
، أو أن حسني ممدد الآن على نقالة في سجن طرة تحت أعين العدالة ، وإذا كان هذا هو البداية
، وموضوع رسالة مانديلا ، فقد حدث ، وما زال يحدث
بعدها مايستحق النظر فيه ... المهم ان مانديلا فهم أن الثوار عرب ، وأن الثورة
عربية ، فهل آن للثوار أنفسهم أن يدركوا هويتهم الحقيقية ...؟؟؟ .
E-mail:habeb.issa@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق