أدين القاضي ألبرت براون ذات عدالة أمام
صديقه وارين بتهمة ترويج المخدرات، وفي قاعة المحكمة جلس الرجلان اللذان تعودا الجلوس
على المنصة نفسها على طرفي إثارة. واكتظت القاعة برجال الصحافة وكاميرات الإعلاميين،
ووقف الناس على أطراف أصابعهم ليحظوا بشرف الشهادة على قضاء لا يعرف المحاباة في عالم
محايد.
نزل القاضي وارين من فوق منصته الشاهقة
على قدمين ضعضعهما الأسى على صديق لطالما نظر في عينيه الواسعتين بحثا عن منطوق إدانة
أو صك براءة في قضايا شائكة. وبين يدي صديقه، وضع الرجل أحد أرديته وقال: "عليك
الآن يا صديقي أن تحكم القانون فيك." ثم تراجع وهو يطوى بين جفونه جمرتين من سجيل
حتى بلغ مقعده.
نظر ألبرت براوين نحو الأعين المتربصة بحزنه
ذاهلا، ثم تناول بيدين راعشتين رداء القضاء وأصدر دون تردد حكما تاريخيا على نفسه الأمارة
بالسكر بالسجن ستة أشهر. وحين سؤل القاضي وارين عن فعلته التي أثارت الرأي العام وشغلت
رجال القانون طويلا، دافع عن تاريخه قائلا: "كنت قد جهزت منطوق الحكم ووضعته على
طاولتي خشية أن ينسى صديقي عقوبة جرمه، لكنه ولله الحمد لم يفعل."
في تلك البلاد البعيدة جدا عن ربيعنا الثوري،
يقف القضاة حاسري الرؤوس أمام القانون الذي لا يجلسون فيه دوما فوق منصاتهم العاجية.
فهناك، في أقاصي العالم المتحضر، يعرف الرجال مواقعهم وأرديتهم، ولا يتشبثون بحناجرهم
ونبراتهم العالية أمام الكاميرات التي تتنافس نقل تصريحاتهم المستفزة. في تلك البلاد،
يلبس الرجل رداءه مرتين، لكنه لا يقول الكلام نفسه، لأنها بلاد تفرق كثيرا بين المواقع
داخل قاعة المحكمة.
وهناك، لا تمنع الصداقة أصحاب الأردية المقدسة
من إدانة أقرب الوجوه إلى النفس أو أصحاب أدني المكاتب إلى ساحة المحكمة. فقد علمتهم
كتب القوانين هناك أن الرداء لا يحمي من المساءلة، وأن المنصب لا يعفي صاحبه من تحمل
مسئولية كارثية تتمثل في النطق بحكم موجع على الذات أمام كاميرات الفضائيات التي لا
تشكك في نزاهة أحد ولا تحابي أحدا ولا تطالب ببيع دماء الشهداء صونا لقانون لا يعاقب
أحدا إلا من تجرأ يوما على الاعتصام ضد عدالة عمياء.
في بلاد ليست أبدا كبلادنا، وأمام قضاة
لم تعرفهم محاكمنا، يحاكم القضاة بنفس القوانين التي تتحكم في مصائر البسطاء هناك.
ولأنهم تعلموا أن الأحكام التي توضع في الأدراج والمخازن توقف الدماء في شرايين القوانين
وتصيب جسد العدالة بالعفن، ترى القضاة عندهم لا يؤخرون عدالة القوانين عن مستحقيها
ولا يتوسطون لدى الأوراق الصفراء لتمييع القضايا أو يتمهلون كثيرا حتى تحرق الأيادي
العابثة الأدلة التي تدين الأصدقاء.
في مجتمع لم يشفع فيه ألف ألف أسامة في
أي حد من حدود القانون، وجد الناس أمنهم ولم يجدوا في صدورهم حاجة مما قضت به مواده
المحايدة. أما هنا، في بلاد يلبس فيها الذئاب أردية الحملان، يخرج الناس على ملوكهم
وعلى أصحاب الأردية الفاخرة، ويصطفون أمام قاعات المحاكم وقد جهزوا لافتاتهم المنددة
بالأحكام قبل صدورها لأنهم يعلمون في أنفسهم أن القوانين هنا تخرج كالحمامات البيضاء
من قبعة أصحاب المقاعد العالية في المحاكم الهزلية التي ينطبق عليها قول جودي شيندلين:
"إنها تحكم بالقانون لا بالأخلاق."
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق