تقديم الأستاذ معن بشور
(1)
في الجهد التوثيقي الرائع
الذي بذله المؤرخ الجزائري المتميز والصديق الدكتور مصطفى نويصر في كتابه "عفلق
والثورة الجزائرية" نجد بالتأكيد ماهو أكثر من جمع مقالات لمفكر عربي كبير أحسن
نويصر اختيارها، بل نجد نوعا من "البيان القومي العربي حول الثورة الجزائرية"
أو "البيان الجزائري في حركة القومية العربية المعاصرة".
فالمقالات التي جمعها المؤرخ
نويصر في كتابه لا تنحصر بما كتبه عفلق، صاحب مقولة "الجزائر مفاجأة العروبة لنفسها"،
عن الجزائر بشكل مباشر، بل عن القضية العربية برمتها من خلال الحديث عن أحد أعظم ثوراتها
المعاصرة، كما عن الثورة الجزائرية من خلال الحديث عن أعظم قضايا العالم المعاصر أي
القضية العربية، وكأنك تجد نفسك في قلب المعاناة الجزائرية وأنت تتحدث عن الهم العربي
الأوسع، مثلما تجد نفسك في قلب القضية لعربية حين تبدأ حديثك عن الثورة الجزائرية.
فعفلق، حين يتحدث عن ثورة
الجزائر لم يكن، كمفكر مشغول بانبعاث الأمة العربية، يقف عند حدود الجزائر فحسب، والأهداف
المباشرة لثورتها فقط، بل كان يطل من خلال هذه الثورة على الأمة كلها، كما على العالم بأسره.
فإذا كانت دروس التاريخ تشير
إلى قانون يؤكد أن شعبا يستعمر شعبا آخرا لا يمكن أن يكون شعبا حرا، فلقد رأى عفلق
في مقالته "دور معركة الجزائر في نضالها" (1956) إن مصالح الشعوب لا تتصادم،
فمصلحة الشعب العربي في الجزائر والمغرب تتماشى مع مصلحة الشعب الفرنسي في التحرر من
أوضاعه الجائرة، لأن كل إمعان من قبل فرنسا في السياسة الاستعمارية، وإن كان يوقع بمصالح
الشعب الجزائري الضرر البالغ، فهو يوقع بمصالح الشعب الفرنسي أضعاف هذا الضرر مما يؤدي
إلى ثورة الشعب الفرنسي".
ولو كان عفلق حيا أبّان مقاومة
الشعب العراقي للاحتلال الأمريكي، وبين أبرز المقاومين بعثيون، قادة ومناضلين، انتموا
إلى الحزب الذي أسسه عفلق، للاحظ كيف أن الشعب العراقي وهو يحرر أرضه من الاحتلال الأمريكي،
إنما كان يحرر الشعب الأمريكي من نظام استعماري احتكاري عنصري أخذ يلحق الضرر بأغلبية
الأمريكيين.
بل إن ما يقوم به المقاومون
الفلسطينيون والعرب ضد المشروع الصهيوني إنما يحرر كذلك يهود العالم كلهم من حركة عنصرية تحولهم إلى ضحايا لمشروعها
الفاشي العنصري الذي قام بذريعة الانتقام لضحايا المحرقة النازية فإذ بها ترتكب بحق
الشعب الفلسطيني والأمة العربية ألف محرقة ومحرقة.
هذه العلاقة الخاصة بين الجزائر
وفلسطين التقطها عفلق باكرا حين كتب في 7 جوان / حزيران 1957 "الجزائر وفلسطين
جناحا ثورة وضمانة نصر" ملاحظا إن الاستعمار الفرنسي "قصد من وراء إلحاق
الجزائر بفرنسا أن يقطع أوصال المغرب العربي ليسهل عليه ابتلاعه قطعة بعد أخرى، فإذا
بهذا الإلحاق يخلق الخميرة القومية الثورية بتحرير المغرب وتوحيده، وقصد الاستعمار
الغربي مجتمعا من وراء خلق إسرائيل أن يفصل أقطار المشرق العربي ويقطع الطريق على وحدتها،
فإذا بوحدة المشرق العربي والوحدة العربية كلها تولد ولادة حيّة فعالة من نكبة فلسطين
(ولادة الجمهورية العربية المتحدة في فبراير / شباط 1958 أي بعد أشهر على تلك المقالة).
"فكفاح العرب ضد الاستعمار
والصهيونية"، حسب خطاب لعفلق ألقاه في مؤتمر مكافحة الاستعمار الذي انعقد في أثينا
من 1 إلى 5 نوفمبر / تشرين الثاني 1957، " ما كان ليظهر بمثل هذه القوة وبمثل
هذا الاندفاع، وأن يحظى بتأييد الجماهير العربية وعطف شعوب العالم، لو أنه قام فقط
على كره الأجنبي، وعلى مجرد رغبة التخلص من الحكم الاجنبي ، بل إن قوته هي الأهداف الإيجابية التي تختلج
في نفس كل عربي، والتي يستعجل الزمن لكي يستطيع تحقيقها لخيره وخير العالم".
فعالمية ثورتنا وكفاحنا في
الأمة العربية اكتسبت زخما كبيرا من ثورة الجزائر، كما من الثورة المصرية التي قادها
جمال عبد الناصر فوجد نفسه من خلالها يقود أيضا الحركة القومية العربية ويشارك في قيادة
حركة التحرر العالمية، وحركة عدم الانحياز منذ مؤتمر باندونغ في 1955.
لذلك احتل الحديث عن ثورة
مصر بقيادة جمال عبد الناصر جزءا هاما من حديث عفلق عن الثورة الجزائرية، لا لأن ثورة
مصر كانت السند الأكبر لثورة الجزائر إلى درجة أن هذا الدعم كان أحد أسباب العدوان
الثلاثي، الفرنسي – البريطاني – الإسرائيلي ضد مصر عام 1956، بل لأن الثورتين أسهمتا
في إسقاط ما كان معروفا بالاستعمار القديم، واستهدفهما ما عرف فيما بعد بالاستعمار
الجديد في النصف الثاني من الستينات.
من الأمور التي تستحق الوقوف
عندها في حديث عفلق عن الثورة الجزائرية، هو حرصه في أكثر من مرة على التمييز بين ثورة
الاستقلال الجزائري وحركات الاستقلال في الدول العربية الأخرى في لبنان وسوريا والعراق
وصولا إلى المغرب وتونس.
لقد لاحظ عفلق هذا التمييز
في حديث ألقاه في النادي الثقافي العربي في بيروت في شباط / فبراير 1956 بعنوان:
"الوحدة العربية والاشتراكية" حيث قال: "كان نضال تونس ومراكش شبيها
بنضال العراق وسوريا ولبنان زمن الانتداب الفرنسي، لذلك لم يعط النضال كل نتائجه وتوقف
عند حدود وسط من المساومة والمفاوضات كما هو معروف لديكم، فالقيادة لم تكن شعبية فالشعب
يناضل ويدفع الثمن والقيادة هي طبقة إقطاعية بورجوازية، وهذه الطبقة عين لها على العدو
وعين على تجارتها وممتلكاتها لذلك لا يمكن أن تصل في النضال إلى آخره، بل يأتي يوم
تصبح قيادة النضال هذه خائفة من الشعب أكثر مما هي خائفة من الاستعمار".
أما في الجزائر، كما يقول
عفلق: "فالاستعمار نفسه حلّ المشكلة لأنه يعمل منذ قرن وربع على إفناء الشعب العربي
في الجزائر وعلى حرمانه من أبسط عوامل البقاء لتحويل الأراضي العربية إلى أرض فرنسية
يستغلها الفرنسيون ويتكاثرون فيها. لكن العنصر العربي فيه صمود وفيه حيوية، وقد أوصله
الاستعما ر إلى حالة يستوي فيها الموت والحياة. هذه هي الحالة الثورية الممتازة".
هنا أدرك عفلق أهمية ارتباط
ثورة التحرر الجزائرية بـ "الفلاحين في القرى، بالعمال وبالطبقات الفقيرة، داعيا
إلى التعلم منها، لأن في حياتها دروسا كثيرة رائعة لا يستطيع الشباب أن يتعلمها في
المدارس".
وحين يصل إلى الوحدة العربية
يسارع عفلق إلى القول: "بأننا لا نذهب إلى أن الوحدة العربية ستتم دفعة واحدة،
بل أن الطبيعي والمعقول ان تتم على مراحل والإتحاد بين قطرين أو ثلاثة هو مرحلة يجب
أن تنصب عليها كل جهودنا حتى تثمر وهي بدورها ستسهل الوصول إلى مرحلة أعلى".
لذلك، فإن من عاش أيام ولادة
الوحدة العربية الرائدة بين مصر وسوريا، والتي قادها عبد الناصر والبعث العربي والحركة
القومية كان يدرك ان في تلك الوحدة طرف ثالث، يسهم في قيامها، وتسهم في إسناد نضال،
وهو الشعب الجزائري وثورته المجيدة.
لذلك نجح د. مصطفى نويصر وهو
العروبي الأصيل في أن يربط بين الثورة الجزائرية والحركة القومية العربية عبر مقالات
جمعها لمؤسس البعث ميشيل عفلق، بل أن يثير قضايا بالغة الأهمية، ما زالت حاضرة بقوة،
وهي العلاقة بين ثورة الجزائر والوحدة العربية والإشتراكية وتحرير فلسطين، بل بينها
وبين إنسانية حركة التحرر العربية وعالميتها.
قد يكون للراحل الأستاذ ميشيل
عفلق أفكار عديدة غير تلك التي أشارت إليها مقالاته التي جمعها د. نويصر بدقة وعلمية
عالية، لكن من يقرأ كتاب "عفلق والثورة الجزائرية" يكتشف معظم مفاتيح فكر
عفلق الذي يشكل أحد أعمدة الفكر القومي العربي المعاصر... حتى يمكن القول أن ثورة الجزائر
هي تجسيد حي لثورة العرب بكل أبعادها....
(1) الأمين العام السابق للمؤتمر
القومي العربي، رئيس المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق