بقلم حسن خليل غريب - كاتب وباحث من لبنان
وجَّه الدكتور كاظم عبد الزهرة الفراتي هذا السؤال على صفحته، وعرضه للحوار، لذلك سأبدي رأيي فيه:
كان الفكر القومي بشكل عام عاملاً مؤرقاً لمنظومة الدول الرأسمالية لأنه يعني، فيما يعنيه عند تلك المنظومة، أنه البوابة الرئيسة لبناء دولة عربية واحدة. وبناء دولة عربية واحدة بما تمتلكه من أعماق استراتيجية جغرافية وسياسية واقتصادية وعسكرية، يؤدي إلى منع تلك الدول من احتواء تلك المميزات والهيمنة عليها. وعندما ينحسر مجال التمدد الرأسمالي في المنطقة العربية يعني تقليص النفوذ الرأسمالي الذي يعمل على احتكار ثرواتها لمصلحة شعوبهم.
وعندما غزت الولايات المتحدة الأميركية العراق وقامت باحتلاله إنما كان نصب أعينها أن تقوِّض آخر حصن من حصون الفكر القومي الذي يمثله فكر حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم.
وبالفعل كان القرار الأول لـ(بريمر)، الحاكم الأميركي الأول للعراق المحتل، هو قرار اجتثاث (حزب البعث): وقد جاء عنوان القرار بنصه الحرفي: (المذكرة رقم (1) الصـادرة عـن السـلطـة الائـتـلافيـة المـؤقـتـة. تنفيذ الأمر رقم 1 (CPA/ORD/16)، المؤرخ 1 أيار/مايو 2003، المعنون "تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث"). والقرار الآخر الذي تلاه كان (حل الجيش العراقي) لأنه جيش يعتنق العقيدة القومية ويبقى عاملاً مهماً من عوامل حماية تلك العقيدة.
إن رقم القرار وتاريخه، يؤكدان الهدف الأساسي من غزو العراق. وسنرى لاحقاً أن المشروع الأميركي التآمري على الفكر القومي سيتم تطبيقه في كل زاوية من زوايا الوطن العربي يُشتمُّ فيها أثر من آثار التعاطف مع الأفكار القومية.
وما نُسب للرئيس أوباما أخيراً بأنه أمر بإسقاط القرار الذي أصدره سلفه جورج بوش، وما جاءت بعض الأنباء لتؤكد صحة هذا الأمر هو الدور الذي لعبه السفير الأميركي في (المنطقة الخضراء) عندما فاوض سياسيي (المكون السني) لقبول تشكيل حكومة (حيدر العبادي). ومن الشروط التي أبلغهم قبولها هو (إلغاء قانون الاجتثاث).
إن هذا الخبر لو صحَّ لكان يعني عند المغرِّر بهم أن هناك انقلاباً جذرياً في الاستراتيجية الأميركية، كإحدى أكبر دول المنظومة الرأسمالية. فهل فعلاً هذا هو الواقع؟
من غير المعلن، ولكنه من المقروء بالتحليل والاستنتاج أن أوباما، رئيس الإدارة الأميركية، اعترف ضمناً بالدور الكبير الذي يلعبه حزب البعث في قيادة الثورة العراقية المسلَّحة. كما اعترف ضمناً بأنه لا حل آخر يمكن أن ينقذ (العملية السياسية) من الانهيار إلاَّ بمشاركة حزب البعث.
ماذا نستنتج من كل تلك الاحتمالات؟
لقد تأكَّد أوباما أن حملته العسكرية لحماية ما زعم أنه جرائم بحق الأقليات المسيحية والأيزيدية. ومن خلالها تأكد أن طائراته تحدث أضراراً مادية ولكنها لن تحتل الأرض. كما تأكد أن حملته التي زعم أن أهدافها إنسانية، والتي انطلت على عقول البعض، فإنها لم تنطل على عقول الآخرين. وقد استنزفتها نتائج الغارات الجوية الفاشلة على مواقع محدودة في الموصل التي كانت مجرد بالونات نفسية لدعم عملائه من زعماء (سنة الموصل) لتشكيل (صحوات جديدة).
وعلى الرغم من كل ذلك، فقد استمرت (قافلة الثورة) تسير، وطائرات أوباما (تعوي) في أجواء العراق. فما هو الحل الذي يفترضه هذا الواقع؟
يُقال بأن أوباما استقوى من جديد وراح يستعرض عضلاته أمام النظام الإيراني وعاد مستقوياً ليتجاوزهم في قرار تشكيل حكومة (حيدر العبادي) بعد أن كان يستجديهم في السابق، ولهذا أمر سفيره في العراق للاستجابة لشروط (زعماء السنة العراقيين) من المشاركين في العملية السياسية ومنها (إلغاء قرار الاجتثاث). ولم يكن استعراض القوة هذا، كما نحسب، إلاَّ رسالة تطمين لدول الخليج العربي ودويلاته من أنه عاد ليكون صاحب القرار الأول في العراق وليس النظام الإيراني. وكأنه يستنهضهم ويعيد الاطمئنان لنفوسهم بأنه لن يتركهم تحت رحمة النظام الإيراني وتهديده لأمنهم ووجودهم.
إلى هنا، ينتهي تحليلنا للدور الأميركي فيما يُسمى (إلغاء قرار الاجتثاث)، فنتساءل من جديد: هل انقلب أوباما على استراتيجية منظومة الدول الرأسمالية القائل والعامل من أجل (اجتثاث فلسفة الفكر القومي العربي)؟
ومن أجل أن يكون تقييمنا واضحاً، نستبق سؤالنا الأول بالسؤال الأساس الذي إذا أجبنا عليه نقترب من الوضوح أكثر؟
والسؤال الأساسي: ما هو موقف الثورة العراقية من مسألة كهذه؟ وسنجيب عليه مما نعرفه من ثوابت الثورة المُعلَنة.
من ثوابت الثورة العراقية إسقاط العملية السياسية، كوجه عراقي من وجوه الاحتلال، ولن يسقط الاحتلال إلاَّ بإسقاط تلك العملية، وليس الحل بالمشاركة فيها. ولأن من أهداف قرار أوباما إغراء الثورة للمشاركة في حكومة حيدر العبادي، مباشرة أو مداورة، يعني أن الخديعة الأولى قد سقطت.
ومن ثوابت الثورة تحرير العراق من الاحتلال وكل إفرازاته، وأن يعود موحداً تحت ظل حكومة مدنية لا رائحة فيها للمحاصصة الطائفية. ولأن الدستور العراقي المأمور به أميركياً ينص على تقسيم العراق إلى فيدراليات ثلاثة، لا يجيز تمرير ثابت الثورة بواجب إعادة توحيد العراق، تكون الخديعة الثانية لقرار أوباما قد سقطت.
ومن ثوابت الثورة أن تنسحب كل القوات الأجنبية، وأن تنتهي كل التدخلات الخارجية بشؤون العراق الداخلية، ولأن النفوذ الإيراني سيبقى في العراق طالما ظلَّ العراق مقسماً إلى فيدراليات ثلاثة، وهذا ما يتناقض مع ثوابت الثورة، تكون الخديعة الثالثة قد سقطت.
وفي المحصلة الأخيرة نعتقد أن قرار أوباما بإلغاء قرار جورج بوش، هو مجرد خديعة أخرى يُراد تمريرها على العقول الساذجة، وهي شبيهة كما نقرأ بعدها الثالث، أي غير المعلن، هو أن عامل المكيدة فيها واضح، أي (تجميع الدبابير في وكر واحد) من أجل القضاء عليهم بطلعة طيران أميركي واحدة.
وما نود أن يفهمه (زعماء المكون السني) المشارك بالعملية السياسية، هو أنه إذا كانوا يريدون استمرار قبول الخديعة الأميركية كما قبلوها سابقاً، وكما سيستمرون بقبولها لاحقاً، فإن الشعب العراقي، وخاصة من يزعمون تمثيله، لن يُخدع بقبولهم لأنهم ارتضوا العبودية الدائمة، وليس لعبد رأي أو مشورة أو سلطة. وسيبقى شعب العراق مستمراً بثورته حتى يتحرر العراق ليس من الاحتلال فحسب، بل أيضاً من (سلطة العبيد) التي يمثلونها أفضل تمثيل.
ما أننا نود القول لدول الخليج العربي ودويلاته: لا تخدعنكم أكاذيب أوباما، ووعود سفيره في (المنطقة الخضراء) بأنه وافق على شروط من يزعمون بأنهم يمثلون (المكون السني)، ورغم تسريب وسائل الإعلام الأميركية بأن هذا القبول كان رغم أنف النظام الإيراني، لأن الحقيقة هي إنه لن يتخلى عن النظام الإيراني أبداً. فهذا النظام هو من أهم شركاء أميركا في تنفيذ "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، وخاصة في تثبيت تقسيم العراق، ففي تقسيمه مصلحة إيرانية عليا، لن تتقدم عليه مصلحة أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق