المصريون
في كلمته التي انتظرها المصريون أمام منصة الأمم المتحدة في نيويورك ، تحدث الرئيس عبد الفتاح السيسي خمسة عشر دقيقة تقريبا ، وهو إيجاز إيجابي في مثل هذه المناسبات ، وقد استغرق السيسي حوالي ثمان دقائق من كلمته ، أي أكثر من النصف قليلا في الدفاع عن موقفه تجاه الأحداث التي جرت في مصر وإطاحته بالرئيس المدني المنتخب محمد مرسي ، وراح السيسي يشرح بتفصيل ويعيد الكلام بأكثر من طريقة ليثبت أن ما قام به كان إرادة شعبية وأن مصر كانت معرضة للخطر لوجود هذا الفريق "الإخوان" في سدة الحكم ، وأن الشعب المصري ثار على الإخوان لأنهم مارسوا الإقصاء ضد خصومهم ، وهي هفوة في الخطاب تنفي ضمنيا تهمة الإرهاب الموجهة للإخوان أو أن الخلاف معهم كان على أساسها ، لأن الخلاف معهم كان خلافا على سياسات ، وقال السيسي أن العالم بدأ يتفهم الحالة المصرية الآن بعد انتشار العنف والإرهاب .
بدا السيسي في كلمته كما لو كان في وضع المتهم الذي يدافع عن نفسه أمام محكمة ، ويشعر بأن كل من حوله يتهمونه بشيء ، وهو يحاول أن يبرر ما حدث ، ويحاول أن يثبت أن ما فعله كان شرعيا ولم يكن فيه سرقة للديمقراطية أو إهدار لإرادة الشعب واختياره عبر انتخابات أشرف عليها القضاء ، ويحاول أن يثبت أن ما فعله لم يكن فيه تجاوز للعدالة والشرعية والديمقراطية ، وكذلك الحال في إطالته الحديث عن احترام مصر للحريات العامة وحرية التعبير وأنها ثوابت لا عودة عنها مطلقا ، وهو كلام مناقض لما يراه العالم ويضج من سماعه يوميا تقريبا من إهدار للحريات العامة في مصر وحبس الصحفيين واعتقال النشطاء باتهامات بالغة الغرابة فضلا عن حبس عشرات الآلاف من أنصار الرئيس الأسبق مرسي ، وتصل الأحوال إلى الحبس على أمور بالغة الغرابة والسخافة كحبس فتاة لحملها مسطرة عليها شعار رابعة أو حبس سيدة لاستخدامها "دبوس" عليه شارة رابعة أو حبس فتيات لحملهن "بالونات" عليها شعار رابعة وهي وقائع لا تصدق في أي معيار حقوقي أو قانوني أو إنساني في عالم اليوم ، وكانت المفارقة أنه بينما كان السيسي يتحدث في الأمم المتحدة عن احترامه للحريات والحق في التعبير كان الأمين العام للأمم المتحدة نفسه يطالب مصر بإطلاق سراح النشطاء ووقف اضطهاد دعاة حقوق الإنسان واحترام الحريات العامة ، وكذلك فعل الرئيس الأمريكي باراك أوباما ، وهو ما فرغ كلمة السيسي من أي قدرة على الإقناع ، رغم التضخيم المدهش في الإعلام المصري لقيمة كلمته وخطورتها وترحيب العالم بها وتصفيق الأمم المتحدة طويلا لها !! .
هناك أزمة عميقة للشرعية في مصر ، الأمر أوضح من أن يتجاهله أحد ، والسيسي أكثر شخص في مصر يدرك ثقل هذه الأزمة ، وخطورتها ، وهو يبحث عن أي وسيلة لتفكيكها أو إنهاء عقدتها ، وهو الوحيد في النظام المصري الجديد الذي كرر الحديث عن "شراكة" مع الخصوم ، وأن الإخوان يمكنهم العودة لممارسة العمل السياسي بعد نبذ العنف ، لا أحد غيره يمتلك الجرأة على أن يتحدث بهذا الأمر ، هو يدرك جيدا عمق الأزمة وخطورتها داخل مصر وخارج مصر وتبعاتها أمنيا واقتصاديا واجتماعيا وقضائيا وأخلاقيا أيضا ، وسيظل غبارها ونارها تطارده وتطارد نظامه وتربك خططه للإنقاذ الاقتصادي والأمني والاجتماعي وتهين العدالة في بلاده لسنوات طويلة ، ولكن المشكلة أنه لا يملك الرؤية الكافية لإنهاء هذه الأزمة وتصحيح المسار ، كما لا يملك الشجاعة الكافية أيضا بفعل الضغوط الشديدة التي تمارس عليه من قبل أجنحة في السلطة نفسها ترفض هذا المسار أيا كانت العواقب ، والسيسي لا يستطيع أن يخسرها الآن أو يتجاوز حضورها .
أيضا هجوم السيسي في كلمته على التيارات الإسلامية بكاملها ، والإسلام السياسي بشكل خاص ، ووصمه بالإرهاب وأنه سبب الشر كله الذي يراه العالم ، هو كلام دعائي بحت وعصبي وغير عقلاني على الإطلاق ، ويمكن للسيسي بسهولة أن يرى هذه التيارات وهي تحكم بلادا من حوله هي أفضل حالا من مصر الآن ، اقتصاديا وحقوقيا وأمنيا وحضاريا ، مثل تركيا ، وتحكم دول أخرى عربية مثل تونس والحال هناك أفضل إنسانيا وأمنيا وحقوقيا وديمقراطيا بكل المقاييس عن مصر ، وفي المغرب حيث الحكومة هناك يمثلها حزب إسلامي برئاسة الصديق العزيز المفكر الإسلامي المعروف الأستاذ عبد الإله بن كيران والذي حقق حزمة إصلاحات مهمة للغاية في أكثر من صعيد ، اقتصاديا وحقوقيا واجتماعيا وأمنيا رغم عظم تركة أسلافه وقسوتها في بلاد تعاني كثيرا ، كما أن هناك إجماعا دوليا على أن الذكاء السياسي للعاهل المغربي بإتاحة الفرصة للحركة الإسلامية أن تتولى الحكومة بسقف حرية معقول كان عاصما للمغرب من عواصف سياسية وأمنية ودينية اجتاحت المنطقة .
كاتب ورقة السيسي أراد أن يتفلسف بشكل زائد في هجومه على التيارات الإسلامية ، فهاجر إلى التاريخ ليصف دولة الخلافة العثمانية بالإرهاب وأنها جذر الإرهاب في بدايات القرن العشرين ، وهو كلام مضحك في غرائبيته ، فضلا عن كذبه الصريح ، فالخلافة كانت امبراطورية كبرى ومحورية في العالم أدارت شؤون عشرات الأمم والدول والأعراق والطوائف ، وكانت جزءا من تحالفات دولية ضخمة كما أن رموز الوطنية المصرية وصانعي نهضتها مثل الزعيم مصطفى كامل والزعيم محمد فريد وغيرهم كانوا من أعظم المدافعين عنها والمبجلين لمكانتها والمعظمين لارتباط مصر بها كإطار سياسي تاريخي عاصم من الاستباحة في وجه مطامع استعمار أوربي صريح .
كلمة السيسي التي تناقض الواقع ، وانشغاله طويلا بالدفاع عن نفسه وعن نظامه ، وحشده لمؤيديه أمام الأمم المتحدة ، وهو الوحيد في العالم الذي فعل ذلك من فرط القلق ، واضطراره في كلمته للدفاع عن ثورة يناير بأوضح كلام ووصفها بثورة شعب ضد الفساد وحكم الفرد "الاستبداد" رغم أن معظم أنصاره المتحمسين في القاهرة يصفونها بمؤامرة أمريكية ، وهذا الجدل والانقسام الواسع حول تقييم زيارته وكلمته ورسالته ، كلها مؤشرات متجددة على أن مصر تعاني من ثقل الانقسام ، وأنه أثقل وأخطر من أن يهرب من وقعه السيسي أو غيره
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق