المعلومات والاعترافات الخطيرة التي أدلى بها وكيل جهاز المخابرات العامة المصرية السابق اللواء ثروت جودة لا ينبغي أن تمر مرور الكرام ، لا على الأحزاب والنخب السياسية كلها التي وصفها "بالقذارة" ولا على أي مهتم بمستقبل البلد أو حتى مهتم بمعرفة خلفيات ما دار من وقائع ومؤامرات في السنوات الثلاث التي أعقبت ثورة 25 يناير ، فالحوار الذي أجرته الزميلة "الوطن" كشف عن حقائق مذهلة لأوضاع المؤسسات الرسمية المصرية وخاصة المؤسسات السيادية عقب تولي محمد مرسي رئاسة الجمهورية ، وبطبيعة الحال كان الأمر كذلك قبل توليه ، وببساطة شديدة فوكيل الجهاز السيادي الخطير يقول بأن الجهاز تآمر على رئيس الجمهورية ، وضلله وأعطى القيادة السياسية معلومات مغلوطة أو غير صحيحة في جميع الملفات المطروحة ، أو على حد تعبيره الحرفي في الحوار (المخابرات العامة المصرية لم تعط شيئاً حقيقياً لمستر مرسى! قولاً واحداً فاصلاً) ثم أضاف شارحا (نحن نعلم أنه «خائن» من قبل أن يكون رئيساً، وهنا السؤال: أعطى له معلومة ليه؟ والمهم: ما الذى كان يريد أن يحصل عليه؟) ، وأضاف وكيل الجهاز السيادي الخطير في ذات الحوار قائلا : (قلت للواء رأفت شحاتة وقت أن تولى مسئولية الجهاز أن يصلى ركعتين ويستغفر الله وينسى القَسَم الذى حلفه أمام مرسى عند توليه الجهاز) ، وهذه الاعترافات لو كانت في أي دولة تعرف ألف باء القانون أو فكرة الدولة في حد ذاتها لتم تحويل صاحبها إلى المحاكمة فورا أو إخضاعه للتحقيقات وإحالته للمحاكمة ، لأن ما قاله ـ إن صح ـ يمثل جرائم خيانة عظمى ، وتآمر على رئيس الجمهورية ، لأن محمد مرسي قبل الإطاحة به ، وعندما أدى القسم أمام المحكمة الدستورية كان رئيسا شرعيا يتوجب على جميع مؤسسات الدولة أن تطيعه وتعمل بولاء كامل له ، أيا كان الخلاف مع رؤيته السياسية ، ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة وقتها المشير طنطاوي أدى قسم الولاء أمامه في القصر وأدى التحية العسكرية له في المحافل الرسمية مرارا وتكرارا ، والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي قبل قرار رئيس الجمهورية بإبعاد طنطاوي وتكليفه بوزارة الدفاع ومنصب القائد العام للقوات المسلحة وأدى السيسي قسم الولاء لمرسي قائدا أعلى للقوات المسلحة كما أدى له التحية العسكرية حتى آخر يوم في عشرات المواقف والمناسبات ، وأعضاء المجلس العسكري في أغلبهم بمن فيهم وزير الدفاع الحالي الفريق صدقي صبحي حصلوا على مناصبهم الشرعية بقرار محمد مرسي ، فأن يأتي لواء بالمخابرات ليقول أننا كنا نضلله والقسم الذي أديناه أمامه كان ضحك على الذقون "كده وكده" ، فهذا ليس له أي وصف آخر سوى الخيانة العظمى التي تلزم بمحاكمته ، حتى لو تمت الإطاحة بالرئيس بعد ذلك ، وأما الحديث الذي قاله اللواء ثروت جوده بأنهم كانوا يعلمون أن مرسي خائن وعميل للسي آي إيه والمخابرات القطرية والإيرانية والتركية ، فهو ليس كلام مصاطب فقط ، وإنما هو دليل اتهام إضافي لمحاكمة الجهاز كله ، لأنه علم بأن المرشح لرئاسة الجمهورية خائن وعميل للمخابرات الأمريكية ولم يبلغ السلطات أو لم يقدم الوثائق التي تثبت ذلك مما عرض الأمن القومي للخطر الشديد وسهل "لعميل مخابرات أجنبية" اختراق منصب الرئيس ، بافتراض صحة كلامه .
أيضا ، ما قاله اللواء ثروت جودة هو دليل براءة كاملة للرئيس الأسبق محمد مرسي من أغلب الاتهامات الموجهة له ، بما فيها حوادث القتل والإرهاب التي تمت في سيناء وغيرها أو الاتهامات الجديدة بتسريب أسرار الأمن القومي لقطر وتركيا ، لأنه ـ باعترافه ـ لم تقدم له المؤسسات الأمنية السيادية أي معلومات صحيحة على الإطلاق ، أي أنها ضللته ، فعلى أي أساس يتهم بشيء تم تضليله فيه وحجب المعلومات الحقيقية عنه ، ثم ما هي الأسرار التي يحاكم فيها لتسريبها طالما كلها معلومات غير صحيحة ومضللة ، والأغرب أن يتساءل المسؤول الأمني الرفيع ببلاهة منقطعة النظير "أعطي له معلومة ليه؟" ، أي أن الرجل كان يتصور أنه يعمل في "عزبة أبوه" وليس في مؤسسة أمنية شرعية تعمل في ظل سيادة دولة ويتوجب عليها طاعة رئيس الدولة والولاء له ما لم يتقرر ـ دستوريا ـ وضع آخر بعد ذلك .
اللواء ثروت جودة قدم معلومات أخرى بالغة الخطورة عن علاقة المؤسسة العسكرية وأذرعها المختلفة وبعضها البعض ، وأنه كان بينها حزازات وكراهية عميقة بين قياداتها ، فكشف عن أن مبارك في 2010 فوض اللواء عمر سليمان رئيس المخابرات العامة المسؤولية كاملة عن مجلس الأمن القومي وبالتالي كان سليمان يعطي التوجيهات للجيش والداخلية ، وأن المشير طنطاوي كان يكره عمر سليمان كراهية شديدة ، ورفض رفضا باتا أن يتولى عمر سليمان رئاسة الجمهورية ، وبهذه المناسبة نذكر بأن محاولة الاغتيال الوحيدة التي جرت في أثناء ثورة يناير كانت تستهدف عمر سليمان في شارع الخليفة المأمون ونجا منها بأعجوبة ، ولا يعرف أحد أي تفاصيل حتى الآن عن هذه الواقعة ، وأضاف رجل المخابرات أن زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية أيام مبارك كان يكره عمر سليمان وجهاز المخابرات العامة كراهية شديدة جدا حسب قوله ، وبالمناسبة أيضا نذكر بأن زكريا عزمي ظل يعمل في القصر الجمهوري حوالي شهرين بعد الإطاحة بمبارك ، دون أن ندري ماذا كان يعمل بالضبط .
كلام وكيل جهاز المخابرات العامة السابق امتلأ بالاتهامات الخطيرة في كل اتجاه ، بعد أن غشيته حالة "بلطجة كلامية" ، فاتهم اللجنة العليا للانتخابات بالتزوير والتلاعب ، وكان فيها قضاة المحكمة الدستورية ومحكمة الاستئناف والنقض وشيوخ القضاء المصري ، اتهمهم بأنهم زورا انتخابات الرئاسة فمنحوها لمرسي "الخائن" رغم أن أحمد شفيق كان هو الفائز!!! ، وهو كلام يستحق ـ وحده ـ أن يحاكم عليه وأن يقدم وثائقه ، لأن منصب رئيس الجمهورية وشرعيته لا يصلح معه حديث المصاطب والبلطجة بهذه الطريقة ، كما اتهم المستشار حاتم بجاتو بالاسم بأنه علم بفوز شفيق ورفض الإبلاغ عن ذلك قائلا (اللجنة العليا للانتخابات كان فيها رجل سمح لـ«مرسى» أن يحكم مصر، وهو حاتم بجاتو وكانت الأمانة السياسية والقضائية والعدالة تُحتم عليه الاعتراض، لكنه لم يفعل، وهو علم ولم يُبلغ. نعم شفيق كان فائزاً فى انتخابات الرئاسة) وألمح إلى تواطؤ المشير طنطاوي مع اللجنة في ذلك لأن طنطاوي كان يكره أحمد شفيق ولا يريده رئيسا بأي حال قائلا (طنطاوى لم يكن يريد عمر سليمان أو أحمد شفيق رؤساء لمصر بأى حال من الأحوال، وهذا يعود لكم كبير من «الحزازيات» مع طنطاوى) ، وبالمناسبة أيضا ، فطنطاوي هو الأب الروحي للسيسي ، وحتى الآن لا يظهر السيسي في مناسبة مهمة إلا بجواره المشير طنطاوي على سبيل التكريم ، وهذا الكلام ـ إن صح ـ يعطيك الانطباع بأن المؤسسات السيادية كان تعيش أجواء التآمر فيما بينها ، وقياداتها كانت تضرب في بعضها البعض بكراهية شديدة ، وأن "المسكين" محمد مرسي دخل وسط هذه الطاحونة فسحقته ، ضمن عمليات السحق المتبادلة والإقصاء الاحترافي المقنن .
وكيل جهاز المخابرات السابق في حديثه "التاريخي" قدم معلومات تستحق التساؤل بعدها عن خطط تأهيل القيادات الرفيعة في المؤسسات السيادية ، فمما قاله جنابه نصا (فى حين أن روسيا جندت من أمريكا، وأمريكا جندت من روسيا مثلاً! لكن جهازنا "المخابرات العامة" جند ناس من أمريكا وروسيا وإسرائيل وغيرهم، وفى المقابل «محدش عندى أنا اتجند ضد مصر) ، وهي رسالة تحية وصداقة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين تخطره بأن المخابرات المصرية جندت رجاله للتجسس عليه ، وكذلك رسالة محبة للمخابرات الأمريكية بأننا جندنا رجالكم هناك للتجسس عليكم ، هذا كلام يصعب أن يصدر من شخص موزون أو عاقل ، فضلا عن أن يكون وكيلا لجهاز المخابرات العامة المصرية ، الأخ ثروت أضاف في حواره أيضا قوله (القصة «خلصت خلاص»، وأمريكا اليوم هى «اللى بتتحايل علينا ناخد الطائرات الأباتشى وإحنا قاعدين حاطين رِجل على رجل، مش عايز أباتشيك هنجيب من روسيا») ، وهي مفاجأة مخابراتية رائعة بكل تأكيد أن أمريكا تقبل يد السيسي من أجل أن يقبل أخذ السلاح والطائرات الأباتشي منها؟! .
القيادة المخابراتية الرفيعة اللواء ثروت جودة كشف سرا أمنيا آخر بالغ الخطورة ، يقول فيه (مصر تملك إمكانيات كبيرة لا يعلم عنها أحد شيئاً، فنحن نملك قوات «الشبح» فى الشرطة، أُنفق عليها 200 مليون دولار وهذه القوات لم تنزل للشارع حتى اليوم، لأنها لو نزلت الشارع لن يتحملها أحد) ، وأعتقد أنه سيكون من حق أي محامي الآن طلب شهادته عن "الطرف الثالث" الذي يتهم بالتورط في عمليات قتل المتظاهرين وسحقهم وقتل سبعين مشجعا للأهلي في بورسعيد وغيرها من وقائع مروعة طوال سنوات الثورة دون أن يعرف أحد شيئا عن القوة المجهولة المتورطة فيها ، وقد طلبت المحاكم شهادات وزراء الداخلية وقياداتها ولم يأت أحد منهم على ذكر هذه القوة الباطشة الرهيبة "الشبح" التي تكلفت قرابة مليار ونصف المليار جنيه مصري لتجهيزها وإعدادها لشيء لا نعرفه ، ولم يقدموا معلومات حتى عن وجودها من أصله أمام المحكمة ، رغم أنها قوة جبارة ومروعة لو نزلت الميدان فلن يتحمل ضرباتها أحد حسب قوله ، وهذا يمثل تضليلا للعدالة وشهادة زور .
الحوار خطير بالفعل ، ولا ينبغي أن يمر دون وقفة من الجهات الرسمية أو الحزبية أو القضاء ومؤسساته أو أي مهموم بمستقبل هذا الوطن ، ما قدمه اللواء ثروت جودة عن أحوال مصر ومؤسساتها السيادية في السنوات الأخيرة مروع ومخيف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق