* كاتبة يمنية ..حصدت عدة جوائز ادبية عربية ودولية
"تَكَاثرَتِ الظّبَاءُ على خِرَاشٍ .. فما يدري خِراشٌ ما يصيدُ"
يا لها من لحظات ترفٍ باذخٍ، كان يعيشه السيد خراش في صحرائه، وقد خرج لصيد الظباء كعادته، لكنه، بسبب ذلك الترف الذي أحاطه به القدر، عاد بلا صيد.. على غير عادته!
خراش المعتاد على البحث عن الظباء بصعوبة، حيث كان يمضي سحابة يومه غالباً في ذلك، قبل أن يحظى بواحد أو اثنين على الأكثر منها، وربما لا يجد شيئاً، فيعود انتظاراً ليوم آخر لعل وعسى، فوجئ، في ذلك اليوم، بما لم يكن في حسبانه، فما أن وصل إلى مكانه، المختار نقطة انطلاق للبحث عن الهدف الصعب عادة، حتى تكاثرت عليه الظباء، وتدفقت أسرابها حوله من كل صوب، إلى درجةٍ أصابته بالحيرة، فكان كلما أخرج سهماً من كنانته، وهمَّ بإطلاقه على واحدٍ منها، لمح ظبياً آخر أكثر سمنة وأنسب للصيد، فتوجّه نحوه، تاركاً الأول يمضي لشأنه، لكن خياره الثاني كان سرعان ما يمضي لشأنه أيضاً، بعد أن يظهر في الأفق ما هو أكثر سمنة وأنسب، وربما أقرب إلى مرمى السهم. وبدلاً من العودة محملاً بغنيمةٍ غير عادية من الصيد، عاد خراش، في نهاية يومه، خالي الوفاض، فلا ظبياً أَصاب، ولا سهماً أبقى! وبدلاً من إصابة الظباء في مقتل، أصابته الحيرة بينها في مقتل، فتفرقت عنه الظباء، محتمية ببعضها، وتركته يتخبط في حيرته بينها!
ويبدو أن أمتنا العربية، هذه الأيام، تعيش الحيرة التي واجهها خراش، ولكن بشكلٍ عكسي. فقد تكاثرت عليها الضباع، وليس الظباء، من كل جانب، فما تدري إلى أين توجه سهامها، وأصبحت، أينما تولي وجهها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، تجد أمامها عدواً حقيقياً، حتى وإن بدا لها بثياب الصديق.
وإذا كانت ضباع الغرب والشرق والشمال والجنوب دائماً موجودة، وتحيط بالأمة، بشكل أو بآخر، وبنسبةٍ أو بأخرى، فإن الجديد، على ما يبدو، هو انكشاف ضباع الوسط، أي التي تعيش بين ظهراني الأمة، منها وفيها. صحيح أن هذه الضباع "الوطنية" كانت موجودة في السابق، لكنها اجتهدت، دائماً، في الاختفاء والتدليس ولبس الأقنعة، إلا أنها، اليوم، كشفت عن أقنعتها فظهرت للعيان بوضوح شديد، بل منها ما أصبح يتباهى بضبعيته، وما حرب غزة عنا بعيدة، حيث كان فيها المتصهينون العرب الظهير الأقوى للصهاينة، وبشكلٍ لم يكن يحلم به هؤلاء.
وإذا كانت قصة خراش التي لخصها لنا الشاعر العربي القديم والمجهول، في بيت واحدٍ ذهب مثلاً سائراً بين الناس، قد انتهت بفشله الذريع في إكمال مهمته، نتيجة ذلك الحل السحري العجيب الذي لجأت إليه الظباء، في ذلك اليوم، عبر استراتيجية التكاثر الكثيف الذي حيّره، وأنقذها من مصيرها المتوقع، فإننا لا ندري كيف سينتهي الأمر بخراش الأمة في وضعها الراهن. خصوصاً أن الفرق بين ظباء الأمس وضباع اليوم هو الفرق بين الضحية والجلاد. فقد كانت الظباء تدافع عن نفسها من سهام خراش، لكن الضباع، اليوم، هي من توجّه السهام إلى قلب الأمة المثخن بالجراح.
بقي تفصيل صغير يتعلق ببيت الشعر الذي تصدّر المقالة، هو أنه يرد كثيراً في كتب الأدب مثلاً من الأمثلة العربية السائرة، لكن أحداً لم يشر إلى اسم قائله. وفيما توافق كثيرون على قصته كما ذكرناها، فإن الشيخ الجليل، علي الطنطاوي، رحمه الله، قال مرةً، وهو يبتسم ابتسامةً ذات مغزى، إن المسمى خراش في البيت الشعري هو كلب صيد! وبذلك، إذا اعتمدنا هذه المعلومة علينا أن نغيّر المقابل الراهن الذي اقترحناه لخراش، ونبحث له عن مقابلٍ جديد من بين كلاب هذه الأيام... وما أكثرها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق