06 أغسطس 2012

لم يحدث إجماع علي تعريف الإجماع



الدكتور عادل عامر
الإجماع بتعريف بعض الأصوليين هو: ( اتفاقُ المجتهدينَ من أمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بعدَ وفاتِهِ، في عصرٍ من العصورِ، على حُكْمٍ شرعيٍّ ). وعرَّفه آخرون بأنه : (اتفاقُ المُكَلَّفينَ من أمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، في عصرٍ من العصورِ ، على حُكْمِ واقِعَةٍ من الوقائِعِ) . وقال آخرون هو : ( اتفاقُ أمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم خاصَّةً على أمْرٍ من الأمورِ الدِّينيَّةِ )  . وذهب الإمام الطبري  إلى أن ( قول الجمهور هو إجماع صحيح ) .
ويلاحظ أن هذه التعريفات غير متفقة على تحديد من هم أهل الإجماع: هل هم المجتهدون من أمة محمد ؟ المكلفون من أمة محمد ؟ أمة محمد ؟ جمهور العلماء من أمة محمد ؟ كما أن هذه التعريفات لا تربط الإجماع بعصر معين ، ولا تربطه صراحة بأي من المصدرين الأساسيين للتشريع ( الكتاب والسنة ) وإن كان هذا معلوماً ضمناً ، ولهذا ذهب فقهاء آخرون إلى تعريف مختلف للإجماع ، منهم الفقيه ابن حزم في كتابه ( الإحكام في أصول الأحكام ) الذي قال : ( وأمَّا شَيْءٌ نَقَلَهُ الثِّقَةُ عَنْ ثِقَةٍ كذلكَ ، مُبَلَّغاً إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ ، فَمِنْهُ ما أُجْمِعَ على القَوْلِ بِهِ ، وَمِنْهُ ما اخْتُلِفَ فيهِ ، فهذا معنى الإجماعِ الذي لا إجماعَ في الدِّيانَةِ غيرُهُ البَتَّةَ ، وَمَنِ ادَّعَى غيرَ هذا فإنَّما يَخْبِطُ فيما لا يَدْري ، ويقولُ ما لا عِلْمَ لَهُ ، ويقولُ بما لا يفهمُ ، ويدينُ بما لا يعرفُ حقيقَتَهُ ، وقد علَّق أحمد شاكر في حاشية الكتاب مؤيداً ما ذهب إليه ابن حزم ، فقال : هذا هو الحق في معنى الإجماع والاحتجاج به ، وهو بعينه المعلوم من الدين بالضرورة ، وأما الإجماع الذي يدَّعيه الأصوليون فلا يُتَصَوَّر وقوعُه ، ولا يكون أبداً ، وما هو إلا خيال )  .
إلا أن هذا الخلاف بين الأصوليين والفقهاء على تعريف الإجماع لا ينفي أنهم أجمعوا على كثير من الأحكام ، وبخاصة منها الأحكام المتعلقة بالعقيدة والعبادات والأخلاق ، وهذا ما أشار إليه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى الذي قال رداً على من سأله : ( هل مِنْ إجماعٍ ؟ فأجابَ : نَعَمْ بحمدِ اللهِ كثيرٌ في جملةِ الفرائضِ التي لا يَسَعُ أحداً جَهْلُها ، فذلكَ الإجماعُ الذي لو قلتَ أجْمَعَ النَّاسُ لم تَجِدْ حَوْلَكَ أحداً يعرفُ شيئاً يقولُ ليسَ هذا بإجماعٍ ، فهذا الطريقُ يَصْدُقُ فيها من ادَّعَى الإجماعَ) .
وقد مرَّ مفهوم ( الإجماع ) بمراحل عديدة قبل أن يتبلور ويصبح مصدراً من مصادر التشريع المعتمدة عند الأصوليين والفقهاء ، فبعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كان الخلفاء الراشدون رضوان الله تعالى عليهم إذا عرضت لأحدهم قضية جمع حوله كبار الصحابة ممن عُرفوا بالفقه ، فيعرضها عليهم ويستشيرهم فيها ، فإذا أجمعوا على رأي أمضاه ، فكان هذا إجماعاً من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، وقد ظل إجماعهم على مرِّ العصور محلَّ اعتبار وتقدير من عامة الفقهاء الذين ظلوا حريصين على معرفة مواضع إجماع الصحابة ليتبعوه ، وحتى في حال اختلاف الصحابة حول مسألة ما من المسائل ظل الفقهاء حريصين أن يدور اجتهادهم في دائرة اجتهاد الصحابة ، كما ظل كلُّ فقيه حريصاً أن لا يَشُذَّ بأقوال يخالف بها ما عليه فقهاء عصره ، وعلى هذا المنوال من الإتباع جرى العُرف في تاريخ الفقه الإسلامي ، وأصبح الإجماع حجة ومصدراً من مصادر التشريع يأتي مباشرة بعد الكتاب والسنة .
وقد أحصى الإمام ابن المنذر  عدد المسائل المجمع عليها في نحو ( 700 مسألة ) ، وأوصلها الإمام أبو إسحاق الأسفراييني  إلى أكثر من عشرين ألف مسألة ، ( والحقيقة أنه لا تُعتمد هذه الإجماعات الفقهية إلا بعد التثبُّت والتحرِّي ، فلربَّما يراد بها اتفاق الأكثر لا الجميع ، ولربَّما قصد بها اتفاق أئمة المذاهب الأربعة دون غيرهم ، أو مجرد اتفاق علماء المذاهب دون غيرهم ، أو لعدم العلم بالمخالف ، والغالب أنه يراد به الاتفاق المذهبي )  .
وبسبب هذه الاختلافات حول ( الإجماع ) والمسائل التي أجمعوا عليها فقد شكك بعض العلماء بانعقاد الإجماع أصلاً وقالوا باستحالة وقوعه ، وبخاصة منه الإجماع الذي ينسب إلى عصر ما بعد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ( لأن المجتهدين من الصحابة قد انتشروا في الآفاق وتفرَّقوا في الأمصار ، وغاية ما يستطيع الفقيه أن يقول : لا أعلم في هذه المسألة خلافاً )  . ومما يلفت النظر في هذا المقام أن الفقهاء إذا كانوا قد أجمعوا على عدد من الأحكام المتعلقة بالعقيدة والفرائض والأخلاق فإنهم قلما أجمعوا على حكم من الأحكام العملية ، وهذا ما نلمسه بوضوح في مختلف الأحكام التي تفيض بها كتب الفقه ، فهذه الكتب في جملتها كتب خلاف لا كتب إجماع .
ومع تسليمنا بأن الإجماع في ( المسائل العملية ) التي تتعلق بأفعال العباد قد وقع فعلاً في عصر الصحابة الأول ، لأنهم كانوا في مبدأ الأمر مجتمعين في مصر واحد ، فإننا نرى أن إجماعهم في هذه المسائل العملية ليس ملزماً بالضرورة لغير عصرهم ، ومن ثم يمكن لفقهاء كل عصر أن يكون لهم إجماعهم الذي قد يوافق إجماع من سبقوهم أو يخالفه ، لأن الأحكام العملية قابلة للتغير بتغير الأحوال والأزمان والبيئات كما تقضي القاعدة الأصولية المعروفة ، وهذا ما ذهب إليه بعض الأصوليين فقالوا : ( يجوز حصول إجماع آخر ، إذ قد يظهر للمتأخرين دليل يوجب حُكماً بخلاف الحكم السابق ، ويكون الإجماع الأول حُجَّة لا يقتضي امتناع حصول إجماع آخر مخالف له ، إذ يمكن أن يتصور كون الإجماع حجة إلى غاية معينة هي حصول إجماع آخر ، فلا يلزم تصادم الإجماعين . وقد رجَّح هذا الرأي بعض أساتذتي الأجلاء ، لأن غاية ما هنالك أنه نَسَخَ إجماعاً سابقاً ، والنسخ بعد انقطاع الوحي جائز فيما يثبت بالاجتهاد ، أي فيما لم يُعلم حكمُه من الدِّين بالضرورة )  . وقد أكد فقيه آخر هذا الرأي فقال : ( إن من الإجماع ما يقبل الإبطال بإجماع جديد . وذلك فيما بني الإجماع فيه على عرف تبدل، أو مصلحة زمنية تغيرت، لأن المصلحة المذكورة هي علة الحكم، والمعلول يدور مع علته وجوداً وعدماً. صحيح أن الجمهور منعوا ذلك، لأن كون الإجماع حجة يقتضي امتناع حصول إجماع آخر مخالف له، وجوَّزه أبو عبد الله البصري، وقال: إنه لا يقتضي ذلك
خبير في الحقوق و القانون العام

ليست هناك تعليقات: