محمد عبد المجيد - اوسلو
أحياناً أمنع نفسي من مشاهدةِ برنامج تلفزيوني حواري خشية أن يصدمني الكبار وهم يتقزمون أمام السلطة، ويحاولون توطيد العلاقة بمزيد من الأغلال في أعناقهم أو في ألسنتهم!
في السنوات العشر المنصرمة تملّكني حزنٌ شديدٌ علىَ كبارٍ ما تمنيت أنْ أراهم بمثل هذه الصورة، ووددت أن يعود الزمن بي قبل اللقاء لعلي احتفظ بهم في مكان لا يقترب منه أحد ولا يرتفع فوقه إلا القليل.
شاهدت فيلم (هي فوضى) في سينما أوديون اللندنية بمنطقة ماربل آرش. وكانت القاعة مكتظة بوجوه عربية وإعلاميين ومثقفين وعاشقي الفن السابع.
بعد انتهاء العرض تقدم الفنان خالد صالح الذي لعب دور الصول حاتم، وشكر الحاضرين ثم انصرف.
على بوابة الخروج تجمع حوله عدد من المعجبين، وأخرجت من حقيبتي كتابي الثامن ( وقائع محاكمة سيد القصر ) لأهديه إياه، ففيه مقالات كثيرة عن الشرطة والأمن والسجون والمعتقلات والفساد.
انتظرت دوري، فسألني منْ كان واقفا بجواري: هل تريد أن تهديه هذا الكتاب الذي بين يديك؟
أجبت بالايجاب، فسألني عن عنوانه: قلت ستراه بعد قليل في يد الفنان خالد صالح. قال لي: هل هو كتاب في السياسة؟ قلت: نعم، فرَدَّ ناصحاً: مادام في السياسة، فأرجو أن لا تقدمه هدية له. سألته : من أنت؟ قال: مدير أمن الفنان!
قلت له: وماذا لو كانت رواية؟: قال: في هذه الحالة يمكنك أن تقدمها له.
غضبت غضبا شديدا، وعاتبته قائلا بأن هذه النصائح تصلح لو كنا خارجين من دار عرض سينمائية في بلد عربي، أما في لندن فأزعم أن الأمر مخجل جدا.
تقدمت من الفنان الذي لعب بمهارة شديدة دورا يجسد تجاوز رجال الأمن، وأهديته الكتاب قائلا: ستجد فيه ما جسدته في الفيلم رغم أن مدير أمنك رفض أن تقرأ في السياسة!
شكرني مع ابتسامة باهتة، وقبل أن أتركه قام بتسليم الكتاب لمدير أمنه أمامي، وكأنه أراد أن يقول لي بأن ما رأيته على الشاشة يتناقض مع الواقع!
منذ سنوات استعنت بواحدة من أكبر رموز الإعلام المصري لحل مشكلة، حتى أنها قالت لي بأنها تستطيع أن تقلب البلد رأسا على عقب لقناعتها بعدالة القضية.
في المكالمة الثانية مع طرف يمثلني هناك، في مصر، سألته الإعلامية عن أوضاعي المادية في النرويج وعن امكانية دفع مبلغ كبير لكي تثير القضية في وسائل الإعلام.
ولما علمتْ أنني لن أدفع شيئا، بدأتْ في التهرب، ورفضتْ أن تتسلم مني رسائل بالفاكس، وطلبت مني أن لا أرسل إليها ( طائر الشمال ) فهي لا تقرأ إلا قليلا!
قلت لها هاتفياً: لكنني فهت أنكِ تناقشين ضيوفك أحيانا في كتب صدرت لهم!
وهنا كانت الصدمة لي فقد نفت نفيا قاطعا وقالت لي بأنها تتفق مسبقا مع الضيف وتقول بأنها قرأت الكتاب، لكن الحقيقة أن الضيف الكاتب هو الذي يلخص لها قبل البرنامج فحوى كتابه!
تقدمتُ بأدب جم إلى نقيب الصحفيين المصريين في بهو فندق عاصمة خليجية، وسألته إنْ كان قد تسلم الكتابين اللذين أرسلتهما إلى غرفته؟
قال لي: لقد أرسلتَ إلي قنبلتين!
سألته مازحا: إنها كتابان أحسب أنك الإعلامي القدير ستسعد بهما!
قال لي: أنا لا أقرأ هذه الأشياء الخطيرة، ولا أحملها معي في أي مكان، ولن أعود بالكتابين لمطار القاهرة!
قلت له: ولكنك إعلامي ومثقف وقاريء ونقيب الصحفيين المصريين، فكيف تخشى قراءة كتابين لصحفي مثلك؟
قال لي بحسم وكأنه يريد أن يهرب خشية أن يراه الاعلاميون الآخرون معي: قلت لك بأنني لا أقرأ هذه القنابل التي أرسلتها إلى!
في عاصمة خليجية أخرى قالت الزميلة مها طه، الاعلامية اللبنانية موجهةً حديثها إلى بعض رؤساء ومحرري الصحف المصرية: لماذا تديرون ظهوركم لزميلكم محمد عبد المجيد كلما رأيتموه قادما؟
رَدَّ أحدهم وقد أحمر وجهه خجلا: لأنه ينتقد بشدة السيد الرئيس!
على الغداء كنت أجلس مع مدير تحرير صحيفة نصف معارضة، فحكيت له ما حدث، فكان صريحا جدا معي، وقال بأن كثيرا مِنّا، نحن الصحفيين، يكتبون تقارير أمنية ضد كل من يناهض السلطة، فالصحفي رجلُ أمن قبل أن يكون حاملَ قلم!
اقتربت منها فهي رمز للإعلام الملتزم العتيق، وسلمت عليها، وامتدحت لغتها العربية الرصينة التي أسعدتنا سنوات طويلة.
كان وجهها يوشي بطيبة رغم تجاعيد رَسَمَها العمرُ الطويل على وجهها المشرق!
بعد أقل من ساعتين كانت قد التقت مجموعة من الاعلاميين، ورفضت بعد ذلك طوال يومين أن تتحدث معي، فقد همسوا في أذنيها، وظهر إثرها شبح السلطة أمامها!
تعجبني الفنانة يسرا في أدوار كثيرة قامت بها، لذا ترددت قبل أن استمع لحوار تلفزيوني معها، ومع ذلك فقد جلست أمام الشاشة الصغيرة.
فجأة سمعتها تقول بأن السيد الرئيس هو الوالد العطوف الرحيم المنشغل بنا جميعا، وامتدحتْ فيه حتى ظننتها ستؤمن برسالته كأنه نبي العصر.تخيلت نفسي بُعَيّد حديثها في المعتقل وقد مرت خمس عشرة سنة وأنا خلف القضبان دون محاكمة، وقد كبر أولادي من وراء ظهري دون أن أحتضن أيا منهم ولو لبرهة!
مثقفون وإعلاميون ووطنيون وقضاة ومستشارون ووجوه وطنية شرّفت مصر بأدوارها الرائعة يرفضون جمال مبارك وريثا لعرش مصر، لكن الفنان القدير عادل إمام والزعيم على الشاشة والذي أسعدنا لثلاثة عقود، وأدخل البهجة في نفوسنا، يقف منتصبا ويتحدى مصر كلها مؤيدا ابن الرئيس ليكون الرئيس الابن!
في ذهني عشرات الحكايات عن كبار الكبار وقد تسببوا في صدمات متلاحقة لي، وكلها تقريبا كانت بسبب التقرب من السلطة، والتزلف لسيد القصر، والوقوف مع خصوم الشعب.
تذكرت رئيس تحرير أهم صحيفة مصرية وهو يستفسر من صدام حسين عن حب المصريين له واعتباره محاميهم، وتناسى الاعلامي الكبير جثث 4800 مصري قام رجال طاغية بغداد بتصفيتهم، دون أن يحتج الكبار الصغار خشية الأكبر.. ولعلنا نكتشف أنه الأصغر، وحينئذٍ لن تكون الصدمة كبيرة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق