العراقي
علاقته بالنظام العراقي السابق لم تجعل منه تابعاً صغيراً ولم تجرده من الاعتراض والنقد والمواجهةحميد سعيد: النظام القائم ليس صنيعة الاحتلال فحسب بل هو نظام طائفي مشوّهالمبدع الذي لا يحترم تاريخه ولا يحترم نفسه، لا يمكن أن يحترم إبداعه
"المحرر" حميد سعيد (أبو بادية) أو (أبو مصعب) سيان، فهو في عالم الثقافة والشعر غني عن التعريف، بصماته الشعرية فريدة في توازناتها، ووقفاته فيها لم يسبقه إليها أحد، ديوانه (مملكة عبد الله) طبع مرات عدة، وأشعاره ترجمت إلى الإنكليزية. نكتفي بما ذكر عنه في الحوار الذي أجراه الزميل عدنان الهلالي، ونُشر في صحيفة "السفير" التي تصدر في بيروت بتاريخ 27/7/2012 بمناسبة نيله (جائزة القدس للآداب) التي يمنحها الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب. وهذا ما جاء في الحوار:
"حميد سعيد من الأسماء الثقافية المهمة التي ساهمت في تشكيل المشهد الشعري العراقي والعربي. تجربته الابداعيّة مثّلت إضافة نوعية للشعرية العربيّة في الستينيات. يقيمُ في عَمان منذ احتلال بلده في 2003، لكن العراقَ بالنسبة إليه ظلَّ حاضراً وعياً شعريّاً وفكريّاً. نال مؤخراً جائزة القدس للآداب.
أصدر حميد سعيد أربع عشرة مجموعة شعريّة، كان آخرها: (من وردة الكتابة الى غابة الرماد) 2005، و(مشهد مختلف) 2008 و(من أوراق الموريسكي) 2012. اقتربنا من عالمه الشعريّ، فكان الحوار التالي:
* فلنبدأ من آخر قضية، على علاقة بحضورك الثقافي، حيث نلت مؤخراً جائزة القدس للآداب، على أية خلفية تم ترشيحك لهذه الجائزة؟
- جائزة القدس للآداب، جائزة سنوية يمنحها الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، لمفكرين ومبدعين اشتغلت كتاباتهم في محيط القضية الفلسطينية، في أفقها القومي الإنساني، لا في حصار التسييس والابتعاد بها من علياء مكانتها التاريخية الى حضيض التنابز والصراع على أدوار هامشية، في نص مهمش، وأن تقترن هذه الكتابات بوعي عملي يعبَّر عنه، بدور فاعل ومتوازن، يدرك المتغيرات ولا يفرِّط بالثوابت. وما دمنا نتحدث عن إبداع جمالي ومعرفي، ينبغي أن يكون هذا الإبداع، بصفحتيه الجمالية والمعرفية بمستوى القضية الفلسطينية في ذرى تجلياتها لا في هوامشها، ينتسب إلى مثاليتها المشرقة، لا إلى الواقعية المنحطة.
وبإمكاني أن أدَّعي، أن علاقتي بالقضية الفلسطينية على امتداد ما يقرب من نصف قرن، لم تكن إلاّ صورة واضحة، في إطار ما تحدثت عنه، وما افترضته، إذ رغم جميع متغيرات المواقف السياسية وما رافقها أحياناً من تنظير لا حدود له، توهم أصحابه بأنهم لا يتجاوزون المقدَّس، وأن من لا يقول به هو الذي يتجاوز المقدَّس، ولم أكن أعبأ بهذه الادعاءات، ولم أتردد عن تسفيهها، ومن جانب آخر، لم أتردد عن مشاكسة التسييس الساذج الذي قاربته قيادات فلسطينية مكرَّسة.
ومع هذا، لم تتأثر علاقتي بجوهر القضية الفلسطينية، إذ لطالما تصرفت وكأنني أنا الفلسطيني، لا أولئك الذين ضاعوا وضيّعوا مريديهم في متاهات القول النظري أو الذين اختزلوا القضية التاريخية في الحدود الضيِّقة للتسييس الساذج، وليس من قبيل الصدفة، أن أكون أول عربي غير فلسطيني ينال وسام القدس الذي تمنحه منظمة التحرير الفلسطينية، وكان ذلك في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
أما ترشيحي لجائزة القدس للآداب، فقد جاء بمبادرة من رابطة الكتاب الأردنيين، والاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين، ولو عدنا إلى ما قاله عدد من المسؤولين في الرابطة والاتحاد، بشأن مقومات هذا الترشيح، نجدها لم تتجاوز التأكيد على أهمية انجازي الإبداعي والدور الفاعل الذي رافقني باستمرار في موقفي من القضية الفلسطينية ورمزها المثالي "القدس" الذي صدر عن وعي إيجابي لم يدخل في محيط التنابز السياسي ولا عرف سوق الربح والخسارة.
إن الرضا بالترشيح لأية جائزة، لا يعني نيل الجائزة، إنما الموافقة على ضوابط وتقاليد منحها، وقد كنت سعيداً حين نلت جميع أصوات لجنة الحكم، وكما علمت فيما بعد أن هذا الإجماع تحقق بيسر ومن دون أية مماحكات أو اعتراضات، لكن ما أثار استغرابي واستهجنه كثيرون، القول بأن منحي الجائزة كان سياسياً، وكأن جائزة القدس للآداب لا تمت للمؤثر السياسي بصلة! أو القول بأنني أنتسب إلى النظام السابق، ولا أدري كيف تم للقائل اكتشاف هذا السر الخطير؟! ثم ما علاقة انتسابي للنظام السابق، بمنحي الجائزة أو منحها لغيري فهل جائزة القدس للآداب مشمولة بـ"قانون الاجتثاث" الذي أصدره الحاكم الأميركي "بريمر" وما زال سارياً، وبأثر منه حرمتُ مثل آلاف العراقيين، منذ عشر سنوات، حتى من راتبي التقاعدي.
* هل تنزعج، حين يقال، انك مثقف خرج من معطف النظام السابق؟
- لنبدأ بمراجعة بناء السؤال، وأنبه إلى ما جاء فيه من قول: الخروج من معطف النظام السابق، فأنا رجل لم يخرج من أي معطف ولا من أية "دشداشة".. بل لطالما عبرت في مواقفي عن قناعات حقيقية، أؤ من بها وأدافع عنها وأضحي من أجلها، ثم أنني لست ممن يخلع صاحبه. من هنا أقول: لا يزعجني القول بالانتساب للنظام السابق، إن لم أقل يُسعدني، ولو قلت غير هذا لبدا الأمر ملتبساً، غير مقنع وفيه مما لا يتلاءم مع تكويني الشخصي، وعلاقتي بالنظام ليست علاقة بالسلطة ومنافقتها كما عند كثيرين، والتي ما أن تغيب، تحضر منظومة لغوية ملفقة، تبرر خلعها والانتقال إلى سلطة جاءت بعدها، مهما كانت هذه السلطة، ما دامت تقترن بمنافع. غير أن هذا الانتساب، لم يفقدني يوماً توازني ولم يجعل منّي مجرّد تابع صغير، ولم يجردني من وعي الاعتراض والنقد والمواجهة، لذلك لم أضطر الى غطاء يتشكَّل من الأكاذيب والادعاءات لفك الارتباط بها، والدخول في بيت طاعة النظام الذي يجيء بعدها.
* هل تُشير فيما تقول، إلى علاقة حميد سعيد، المثقف - المبدع، بحزب البعث في العراق؟
- لقد سبق انتمائي إلى البعث، سلطته في العراق بزمن طويل، وإذا شاءت الظروف أن يكون هذا الانتماء في سن مبكرة جداً، إذ لم أكن وقتذاك قد تجاوزت الرابعة عشر من العمر، وهذا ما كرّس رؤيتي المثالية وأبعدني عن أي نوع من أنواع عبادة السلطة، فقد كانت سنين الانتماء تلك، التي سبقت السلطة، قد عرضتني لجميع أنواع العقوبات السلطوية، الاعتقال والاختفاء والإقامة الجبرية، الحرمان من الدراسة والحرمان من العمل، وخلالها تحملت مسؤوليات تنظيمية اقترنت بممارسات خطيرة.
لذا، بقيت خلال سلطة البعث، أنتسب إلى البعث لا إلى سلطته، أو لأقل كان انتسابي إلى البعث أكثر عنفواناً من انتسابي إلى السلطة، وبفعل هذا التوجه، كنت أتعالى على السلطة، معترضا ومشاكساً ومتمرداً، وهذه التجربة تختلف قطعاً عن تجربة الذين تسللوا إلى الحزب طمعا بعطايا السلطة، فإذا انتهت تفرّق سامرهم وقوِّضت الخيام، بحثاً عن سامر غير الذي كان، وعن خيام أخرى.
أما علاقتي الآن وبفعل متغيرات في الوعي ومتغيرات في الواقع، وما تفرضه عليّ الظروف العامة والذاتية، فأنها لا تتجاوز الإيمان المثالي بالأهداف، فما زلت مؤمناً بها، واستذكار ما كان من تجربتي الطويلة نسبياً والتواصل مع من كنت أحترمهم، وقبل ذلك احترام نفسي وتاريخي، فالمبدع الذي لا يحترم تاريخه ولا يحترم نفسه، لا يمكن أن يحترم إبداعه. إن ما أشرت إليه بشأن علاقتي بالبعث، ليس نتاج الظروف الراهنة، ولو عدت إلى الكثير من كتاباتي وحواراتي، لوجدت أن هذه الأفكار وما تفصح عنه من موقف، قلتها وكررت قولها، على امتداد ما يقرب من ثلاثة عقود.
* منذ احتلال بغداد، وقد غادرتها إلى حيث تقبم في عمّان، هل أنت في منفى أم في اغتراب، وكيف تعيش هذا الزمن ثقافياً، وماذا أضاف إلى تجربتك؟
- لم أكن في البداية عازماً على مغادرة العراق، وبقيت خلال الشهور الخمسة الأولى، بعد الاحتلال، مقيماً في بيتي، أمارس علاقاتي الاجتماعية بشيء من التحفظ، غير أن ما كان يثار من إشاعات وما ينشر من قوائم بأسماء من شملتهم قرارات القتل، أثار رعب عائلتي وقلق المقربين من أصدقائي، وكانوا يمارسون ضغوطهم عليّ، لمغادرة العراق، ولو لزمن قصير. وقتذاك توجهت إلى الأردن في رحلة عسيرة، كتب عنها بأدق التفاصيل الكاتب الفلسطيني سليم النجار في مخطوطة كتابه "سنين عمان.. مع الشاعر حميد سعيد" وكنت آمل أن لا تتجاوز إقامتي، ثلاثة أسابيع، ثمَّ مطّت أرجلها الثواني، كما قال خليل حاوي، فاستحالت إلى سنين.
إن عمّان التي أقيم فيها منذ تسع سنين، ليست منفى، وهذه الإقامة التي طالت، خياري الشخصي وأنا أتحمّل مسؤولية هذا الخيار، ولا أعيش فيها ما يمكن أن يُعدَّ اغتراباً. ورغم ما فرضت على نفسي من عزلة، وبخاصة في السنوات الأولى من إقامتي بعمّان، فلم تقدني العزلة إلى حالة اغتراب اجتماعي أو سايكولوجي، ففي زمن تطورت فيه وسائل الاتصال وتعددت وسائل المعرفة، يتجاوز المرء حالة اغترابه، وينفتح على الآخر من دون أن يفقد خصوصياته أو يتجاوز حدودها.
لقد اعطتني هذه الإقامة مدى مفتوحاً للتأمل والمراجعة والقراءة والحوار، وفي هذا المدى المفتوح واصلت الكتابة شعراً ونصاً ثقافياً ومادة صحفية، فأنجزت ثلاث مجموعات شعرية جديدة، وكتابين أدبيين، ومقالات كثيرة، كما استجبت لمشروع حوارات مطوّلة مع الإعلامي والشاعر هشام عودة، صدرت في كتاب بعنوان "الشمعة والدرويش.. حميد سعيد يتحدّث" وراجعت مع سليم النجار مخطوطة كتابه السيري "سنين عمان.. مع الشاعر حميد سعيد" ولأن سنين عمان ما زالت تتواصل، اقترح عليه عدد من الأصدقاء تأجيل نشره. وما زلت أتواصل مع عدد من الباحثين والنقاد وطلبة دراسات عليا، في عدد من جامعات الوطن العربي، اختاروا جوانب من تجربتي الشعرية لكتابة مشاريعهم النقدية وأطاريحهم الأكاديمية. قبل ذلك، وخلال هذه السنين تحديداً، صدرت عدة كتب في عدد من العواصم العربية، تناولت تجرتي الشعرية.
لم أفارق بغداد
* بعد ما مرَّ من سنين الإقامة في عمّان، هل تتمنى العودة إلى بغداد، وهل يحول دون عودتك، أن لكل زمان دولة ورجال؟
- أستطيع أن أؤكد لك، أنني لم أفارق بغداد، أن هذا القول بقدر ما يتضمن من إيحاء شعري، فهو يفصح عن حقيقة قائمة، فمنذ بداية اٌقامتي في عمان وأنا أتلقى من معظم مدن العراق، وبخاصة من بغداد والحلة، اتصالات يومياً، عن طريق جميع وسائل الاتصال المتاحة لي، ويزورني أصدقاء كثيرون، أدباء وفنانون وإعلاميون، سياسيون ورجال دين وشيوخ عشائر ومواطنون بسطاء، حتى بت أحياناً، أتصور أنني أكثر معرفة بما يجري في العراق، من الذين مازالوا يقيمون فيه. وحين أؤجل التفكير بعودتي إلى بغداد، فلأنني لا أريد التفريط بفردوس عزلتي والاقتراب من هذه الدراما الإغريقية، وليس الأمر كما جاء في السؤال، بأن لكل زمان دولة ورجال، فالنظام، أي نظام، ليس هو الوطن، واختلافك مع النظام، أي نظام، ليس اختلاقاً مع الوطن.
لا شك في أنني أرفض النظام القائم في العراق وأحتقر أطرافاً وأشخاصاً فيه، ليس لأنه صنيعة الاحتلال الأمريكي فحسب، بل لأنه نظام مشوّه لا يريد التصالح مع الناس، وغير متصالح مع نفسه، ولا مع العناوين الطائفية التي شُكِّل منها، وهنا لابد من الإشارة إلى الفرق بين الطائفة والطائفية، فالطائفة وجود قائم نتيجة عوامل تاريخية واجتماعية وثقافية، أما الطائفية فهي الوباء الذي يدمِّر جميع البنى، الوطنية والدينية والاجتماعية، بل يدمِّر بنية الطائفة ذاتها، التي يمارس عصاب تطرفه باسمها.
وما ذهبت إليه، يكاد يكون السمة المشتركة لجميع الطائفيين في العالم، قديماً وحديثاً. سأروي لك هذه الحادثة، جاءني منذ شهور موظف عراقي كبير، مازال حيّاً، أتحفظ على ذكر اسمه وأفصح لي عن رسالة ملتبسة بشأن عودتي إلى بغداد، وكان ردي عليه ساخراً وقاسياً، ثم زارني بعد أيام قائلاً: لقد كنت بالغ القسوة، لكنك على حق، فزدت من عيار سخريتي، وفي الزيارة الثالثة والأخيرة، حيث جاء ليودعني، فقال: جفاني النوم منذ أيام، فأنا أفكر بالبقاء في عمّان! ثم حدثني عن سبب استمراره في الوظيفة، وهو سبب غير مشرف، أنأى بنفسي عن كشفه.
الداخل والخارج
* برأيك، هل ثمة فرق بين شعر الداخل وشعر الخارج، ثقافة الداخل وثقافة الخارج، كيف تقرأ هذه الثنائية وأنت الان خارج بلدك؟
- أعرف أن هذا القول، قد ردده بعض الذين وجدوا أنفسهم في أرض الله الواسعة بعيدين عن بيئاتهم الأولى، يكتبون نصاً أدبياً أو يحاولون كتابته، فعمد بعضهم إلى ارتجال هذه الثنائية، وهذه أطروحة بثنائيتها تغري بالتنطع، لكنها أطروحة ساذجة وسطحية، لا ترى الأشياء على حقيقتها، وتعمم ما لا يصح التعميم فيه. من الطبيعي أن ينفتح من هو في مكان مختلف على قضايا وموضوعات وجماليات وعناوين مختلفة، وهذا المختلف موضوعاً، ينفتح على ما هو مختلف في البنى الجمالية، لغة وإيقاعاً وشكلاً، لكن هناك من يعيش حالة التمركز حول الذات، فلا يرى ما هو خارج تمركزه الذاتي، وحين لا يرى فهو لا يتعلم ولا يتغير.
إذاً، إن الاختلاف في الإنسان وليس في المكان الذي هو فيه، لقد التقيت أناساً في أكثر المدن في العالم تطوراً وانفتاحاً واختلافاً ثقافياً، وزرتهم في بيوتهم وتحاورت معهم، فوجدتهم كأنهم لم يغادروا الحي الذي نشأوا فيه، في مدنهم الأولى، ووجدتهم منغلقين على ما عرفوا وما ورثوا، يرفضون أي جديد. وعرفت أناساً لم يغادروا مدنهم الصغيرة المحافظة، غير أنهم أكثر تحضراً وانفتاحاً وتحرراً من أولئك الذين تحدثت عنهم من قبل. على سبيل المثال، لقد نشأنا في مدن صغيرة وفي مجتمع محافظ، لكننا قرأنا أهم ما أنتج الفكر العالمي وتعايشنا مع نتاجه المعرفي بالانفتاح والحوار، وحين اقترب بعضنا من مناخات حضارية مختلفة، لم يفاجأ ولم يعصف به الاغتراب ولا دفع به إلى الانغلاق ومزيد من التمركز حول ما نشأ عليه.
* كيف ترى وضع الثقافة في العراق سابقاً، وكيف تراه الآن، وهل لك علاقة شخصية، ثقافية أو سياسية بالعراق؟
- بداية، سأحسم الامر قائلاً، ليست لي أية علاقة سياسية بالعراق، أي بجميع أطراف ما يسمى بالعملية السياسية، لكن من الطبيعي أن أتعاطف مع المعارضة الوطنية، وذراعها المقاوم، وأستنكر عمليات القتل والتفجير والتفخيخ، وفي الوقت ذاته ما أعرفه موثقاً، من اعتقالات وقتل وتعذيب وحشي، تعف عنه الذئاب، وما أعرفه من نهب للمال العام واستيلاء على ممتلكات مواطنين، واستنكاري هذا يشمل جميع الأطراف والعناوين والمصادر، وتصلني معلومات بعضها من مصادر داخل السلطة وأخرى من خارجها، إن جميع الأطراف داخل السلطة وخارجها، ليست بريئة من دماء العراقيين التي تسيل كالأنهار، في وقت يجف فيه الفراتان ويتحولان الى ساقيتين مهددتين بالنضوب.
أما علاقتي بمثقفي العراق ومبدعيه من جميع المدارس والتوجهات الفكرية والفنية، فهي على أحسن حال، إذ أتلقى يومياً اتصالات كثيرة عن طريق جميع وسائل الاتصال، ويزورني كثيرون ممن يصلون إلى الأردن من الكتاب والأدباء والأكاديميين والفنانين والإعلاميين، وتصلني كتبهم ويقتنون كتبي، وما ينشر من كتب تتناول تجربتي الثقافية والسيرية. ومن ثم لا أريد أن أدخل في المقارنة التي اقترحها السؤال، فمثل هذه المقارنة لا وجه لها من جهة، ولا يمكن ان يكون المرء فيها، متجرداً من هواه، من جهة ثانية، لكنني سأبدي ملاحظة، نبّه إليها كاتب عربي، في مقالة نشرتها إحدى الصحف العربية، حيث قال: لم يظهر اسم مهم جديد منذ أن أطاح الغزو الامريكي بالحكم الوطني في العراق، ولم تظهر موجة إبداعية تلفت النظر، كما كنا نعرف العراق في جميع عهوده السياسية، وأن الأسماء التي تواصل حضورها هي الأسماء ذاتها التي كنا نعرفها سواء كانت في داخل العراق او خارجه، وهي ملاحظة جديرة بالاهتمام، عن الوضع الثقافي الراهن في العراق.
* الآن، بعد احتلال العراق، هل أنت متفائل ثقافياً أم متشائم، وكيف ترى المشهد الشعري، وهل من أطروحة فكرية جديدة قادرة على قراءة الواقع؟
- لا أظن أن تقويم قضية من النوع الذي يحدده السؤال، يكون بالتفاؤل أو بالتشاؤم، أما المشهد الشعري العراقي، فقد اقتربت من تحديد رؤيتي بشأنه، في إجابتي عن السؤال السابق. أما الأطروحة القادرة على قراءة الواقع، فأعترف بعجزي عن إدراك ملامحها، ذلك أن الخراب يتواصل ويتسِّع ويتشعَّب، وقد توصّل أكاديمي عربي، كان إلى زمن قريب، أستاذاً في جامعة كولومبيا الأميركية، بعد متابعة استمرت عدداً من السنين، إلى أن ما وصل إليه العراق من خراب، ليس بفعل أخطاء اقترفتها الإدارات الأميركية أو أجهزتها التي عملت والتي ما زالت تعمل في العراق، وإنّما المطلوب أمريكياً، هو هذا الوضع الذي يعيشه العراقيون، ويتوقع ان الأمر إلى تفاقم وليس إلى إصلاح. وفعلاً، لا تُسمَع دعوات للإصلاح أو التصالح، إلاّ حين تأتي في سياق الصراع على المصالح، أو للغلبة في ميدان مهارشة الديكة.
* ترأست الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب في مرحلة زمنية سابقة، بالمناسبة: هل كان قرار الاتحاد بحجب عضوية العراق صائباً، وهل كان قراراً سياسياً أم ثقافياً؟
- ترأست الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب من دون أية رغبة أو تخطيط أو قرار مسبق، وكان قرار ترشيحي آنياً وفي موقف اضطراري، وسأتحدث يوماً عمّا حدث في مؤتمر بغداد في العام 1986 بشيء من التفصيل. إن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وكما كان من قبل أو كما عرفته، هو مجموع الاتحادات العربية المنتمية إليه، وبصراحة وأنا أتحدث عن تلك المرحلة، أن معظم الاتحادات، وبخاصة الممولة جيّداً والقادرة على تغطية مهماتها مالياً وإدارياً، ترتبط بدولها وحكوماتها ولا تتجاوزها سياسياً، بما فيها الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق الذي كنت من مؤسسيه وقادته، أما سوى ذلك، أي اتحادات مستقلة، فقد كانت قليلة وضعيفة التمويل وغير قادرة على تضييف المؤتمرات واجتماعات المكتب الدائم والنشاطات الثقافية الدورية، تلك كانت طبيعة المرحلة وما أشرت إليه يكاد يشمل معظم الاتحادات العربية، لذا كانت معظم القرارات مسيسة، والخلافات مسيسة أيضاً.
ولا أرى في هذا التسييس خروجاً عن طبيعة الأشياء، فهو صورة للواقع العربي، الذي لا فكاك للاتحاد من أن يكون بعضاً منه. أما في المرحلة الراهنة، فأن الاتحاد يعاني من ضعف في التمويل الذي كانت توفره اتحادات معروفة، تغيّرت أو تغيّرت توجهات حكوماتها، وربما سيعاني من عدم القدرة على التواصل والاستمرار. وما نشير إليه بشأن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، تعانيه الآن اتحادات عربية أخرى، قد تضطر للتوقف أو الانسحاب، أو تسليم قيادتها لقوى سياسية قادرة على توفير التمويل لها.
الربيع العربي
* كيف ترى ما جرى في عدد من العواصم العربية، ألا ترى أن احتلال العراق، هو بداية هذا الربيع - الخريف؟
- لم أرَ ربيعاً ولا خريفاً. حتى هذا الوصف "الربيع" هو مصطلح أجنبي جاءنا مترجماً، وهي ترجمة مزورة، لكنها فرضت على المتلقي العربي، مثلما فرض عليه الكثير من المصطلحات والأسماء والأوصاف التي لا علاقة لها بالحقيقي والواقعي، وعلينا أن نفرِّق بين موقفنا من أنظمة - انتهت صلاحيتها - وما عادت قادرة حتى على تجديد نفسها، وموقفنا من هذا الخراب الذي يظهر فيه التدخل الأجنبي، المباشر حيناً وبالواسطة حيناً آخر. حتى حين يكون التغيير ضرورة، لا أدري كيف يرتضي البعض أن يكون مرهون الصوت والدور والإرادة لتدخل أجنبي، بالجيوش حيناً وبجنود من عسل! ومواد أخرى، حيناً آخر؟
ولا أظن أن التدخل الأجنبي، بما نعرف من أهدافه والتزاماته، يؤدي هذا الدور بدوافع إنسانية، ويفقد بعضهم أعصابه لمجرد التساؤل بشأنها، ومناقشة دوافعها. إن الذين يشتمون رموزاً نبيلة، ممن عرفوا بنظافة اليد واللسان، وعرفوا بتاريخهم الوطني والقومي الإيجابي، لأنهم ينتسبون إلى النظام الوطني السابق في العراق، نجدهم يصابون بالعي حين يتعلق الأمر بمتعاونين مع دول أجنبية، ولعبوا وما زالوا دور الدليل والمخبر والمرتزق، لها ولأهدافها.
* وهل سيحل الربيع في العراق؟
- لن أتعامل مع مصطلح "الربيع" للأسباب التي بينتها آنفاً. أما التغيير، فأن الوضع الذي صُمّم لعراق ما بعد الاحتلال، فهو على تماس مع التفجير والاحتراب، وهو تصميم جاء عن قصد واضح وأهداف لا تخطئها البصيرة، فالعراق الآن، يتحكّم به الطائفيون، من جميع الطوائف، إذ اغتصب الطائفي المسيّس، الطائفة بكل عمقها التاريخي والاجتماعي، وبهذه العلاقة الملتبسة بين الطائفي والطائفي، ترهن إرادة الطوائف، وبارتهانها جميعاً، رهنت إرادة الانسان في العراق.
لقد بات كثيرون يخشون من التغيير، لأنهم يخشون من أن يشعل الطائفي النار في "وطنية" الطائفة، ويفرض عليها صراعاً دموياً، لأن وجود الطائفي رهين بهذا الصراع أو التهديد به. لذا، فليس من تغيير في العراق، إلاّ بدفع الطائفي – من جميع الطوائف - بعيداً عن أي دور سياسي والبدء من وعي المواطنة، من دون أن تمسّ خصوصيات الطوائف.
جبل الستينيات
* بعد هذه الانتقالات في مواضيع شتّى، وقبل أن أنهي هذا الحوار، سأحاول أن أعود معك إلى قضية المجايلة في الشعر، حيث بدأت تجربتك الشعرية في الستينيات، أي بعد جيل الرواد، إلى أين انتهت خريطة المجايلة هذه؟
- هذا موضوع كتبت فيه وتحدثت عنه كثيراً حتى ما عاد لي ما يمكن إضافته إلى ما سبق من قول. باختصار، إن جيل الستينيات في الشعر العربي تحديداً، لم يكن نتاج محض عقد زمني، بل لأن ذلك العقد شهد من المتغيرات، عربياً وعالمياً، ما ترك أثراً عميقاً في الثقافة والسياسة والحياة والإبداع، وإذا كان التركيز قد حظي به الشعر، فأن المتغيرات شملت أجناساً أخرى، أدبية وفنية، وعلى سبيل المثال المسرح والقصة القصيرة والرواية والفن التشكيلي.
إن المتغيرات الإبداعية تعبِّر عنها مواهب حقيقية، وقد اقترن الشعر الستيني، ليس في العراق حسب، بل في أكثر من قطر عربي بمواهب لافتة، ولم تخرج القصيدة الجديدة من الحدود التي أوصلها إليها الرواد، بل دفعت بها إلى آفاق واسعة من التجريب والتحديث والانفتاح، ومما يلفت النظر، أن ما أقدم عليه الموهوبون من الشعراء الستينيين، اقتحم ما انغلق عليه بعض شعراء جيل الرواد، فانفتحت قصائدهم له ومعه. ولم يكن الشعراء الستينيون سواء في العراق أو في أقطار عربية أخرى، يصدرون عن صوت واحد، وقصيدة ذات ملامح واحدة، بل كان لكل منهم، لغته وتجربته ومساحة مغامرته، وإلى حد ما مصادره أيضاً.
وحين تواصلت تجاربهم وتطورت واغتنت، ما عاد من تشابه بين تجربة وأخرى وبين صوت شعري وآخر، ولم يعد الشاعر الستيني الموهوب محاصراً ببداياته، فكان شاعر أفق مفتوح على مدى اتساع اللغة من جهة واتساع التاريخ الشعري من جهة ثانية، وهكذا هو الشاعر المهم والاستثنائي، سواء كان قد بدأ في العقد الستيني من القرن الماضي، أو قبل هذا التاريخ أو بعده."
عدنان الهلالي - "السفير" 27/7/2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق