لم يعُدْ يعنيني إن كان الذي حدث في مصر انقلاباً أو ثورة، ولم يعد يعنيني أي شيء آخر حدث نتيجة لكل ذلك، فالمصريون من الطرفين هم المعنيون بما يحدث في بلادهم ولا ينبغي لأحد أن يزايد على مصرية هذا الطرف أو ذاك. الذي يعنيني بحق أن تقوم حكومات خليجية باقتطاع مليارات من قوت شعوبها (التي تئن تحت صرخات ‘الراتب لا يكفي الحاجة’ والتي يتسول بعض مواطنيها المثقلين بالديون من حكام بلدان خليجية أخرى، ويصفها مواطنوها بأنها، رغم ثرائها العريض، أبخل حكومات العالم على شعوبها) بينما هي تتصدق بتلك المليارات على الاقتصاد المصري المنهار تقريباً، الذي تمد حكومته يدها لتلك الحكومات الخليجية رائحة وغادية: ‘حسنة يا محسنين’ بدون أدنى حياء أو خشية من إراقة ماء الوجه، أو ما تبقى منه. بات واضحاً أن الوضع العسكري السياسي الجديد في مصر قدم للعالم مصطلحاً جديداً في الاقتصاد وهو ‘اقتصاد الشحاتة’ لأنه عاجز عن تنمية البلاد لانشغاله بالقمع بأشكاله ومضامينه وأدواته كافة، كما يقول كثير من المصريين.
لقد وصل الأمر إلى حد أن بعض الاقتصاديين حذر من أن الاقتصاد المصري القائم على الشحاتة سيؤدي إلى إفقار تلك الدول الخليجية، التي أدى خوفها (من الثورات الشعبية العربية أن تنتقل العدوى إلى شعوبها المقهورة – التي بدأت تتململ بالفعل- وتحتكم للشارع وتطالب بالديمقراطية وبإصلاحات سياسية واقتصادية وغيرها) أدى بها إلى تشجيع حكومة الثورة المضادة المصرية ـ كما يصفها كثير من المصريين- على الشحاتة والشحاتة والشحاتة فحسب.
ومن ناحية أخرى تهبط ملايين أخرى من المصريين تحت خط الفقر. ففي عهد مبارك كان أكثر من نصف المصريين فقراء، أو تحت خط الفقر، أما الآن في زمن اقتصاد الشحاتة فإن زهاء ثلاثة أرباع المصريين إما فقراء أو تحت خط الفقر، إضافة إلى ازدياد معدل الجرائم وانعدام الأمن والأمان، في الوقت الذي يكوش العسكر الجدد على المليارات التي جلبها لهم اقتصاد الشحاتة تؤازرهم حكومة واجهة ورئيس واجهة هم قاموا بتعيينهما لتنفيذ المخطط الذي سنتحدث عنه لاحقاً.
غدا معروفاً أن الإنتاج في مصر شبه معطل نتيجة رفض أهل الثورة الشعبية لأهل الثورة المضادة، وملئهم الشوارع تقريبا كل يوم تعبيراً عن رفضهم لسرقة ثورتهم – وكما يقولون- تحول مصر بالتالي لدولة بوليسية بالكامل يحكمها العسكر، الذين يقودهم عسكري مغمور قفز من وراء الصـــفوف في الجيش المصري، متعطش للسلطة وللدماء ولزجِّ حتى الأطفال والصبية وراء القضبان وعودة العنابر والزنازين والتعذيب.
وللأسف فإن تلك الدول الخليجية لا يهمها كل ذلك ولا يهمها أن تتوقف الحياة كليا في مصر، ما يهمها أن يستمر الحكم المصري الحالي في وقف
المد الثوري الشعبي وإجهاض الديمقراطية وعودة الديكتاتورية التي هي الآن أبشع من ديكتاتورية مبارك والسادات، حسب محللين مصريين. وهي ـ أي تلك الدول- مستعدة أن تواصل ضخ المليارات، فقط من أجل ألا يعود المصريون إلى صناديق الاقتراع أو إلى ثورة 25 كانون الثاني/ يناير.
ما من شك في أن اللجنة الأمريكية الإسرائيلية (الإيباك) والردهات أو اللوبيات اليهودية الصهيونية في أمريكا وأوروبا تبادلت الأدوار مع الحكومة الأمريكية الحالية.
يجادل كثيرون في أن التبادل تم بحيث تؤيد الأخيرة العملية الديمقراطية في مصر كي لا تحرج أمام شعبها، لاسيما أن أمريكا تعتقد أنها أم الديمقراطيات في العالم، وتحب أن يُنظر إليها على أنها ‘زعيمة العالم الحر’، خاصة أن مرشح حزب الحرية والعدالة الرئيس محمد مرسي جاء رئيساً عن طريق صناديق الاقتراع، وانتخبه بالتالي أكثر من 51′ من الناخبين المصريين، بينما تتدخل (الإيباك) واللوبيات المرتبطة بها ـ حسب ميرشيمار ووولت هي التي تحدد السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط خدمة لإسرائيل- لإجهاض العملية الديمقراطية وإغراق مصر مرة أخرى في بحر الديكتاتورية والقمع والحكم العسكري، خدمة لإسرائيل ولإسرائيل فحسب، وهذا ما حدث وفقاً لمحللين أمريكيين وأوروبيين ويهود معادين للصهيونية، ومن ضمنهم قادة في (حركة السلام الآن) الإسرائيلية.
معروف أن السنة أو نحوها التي قضاها أول ريئس وطني مصري منتخب من الشعب مباشرة، انفرج فيها الوضع فيغزة بمقدار 180 درجة مقارنة بعهد نظام حسني مبارك. ورأينا كيف أن في الحرب الصهيونية الأخيرة على غزة وهي ‘حرب جس نبض’ قامت بها إسرائيل لقياس ردة الفعل المصري الديمقراطي، وقد خاب أمل إسرائيل، إذ بفضل وقوف الحكومة المصرية المنتخبة مع الشعب الفلسطيني في غزةاستطاعت (حماس) لأول مرة في تاريخ الصراع منذ 1948 أن تفرض شروطها بوقف إطلاق النار على إسرائيل، القوة العظمى ربما على الإطلاق في الشرق الأوسط، وهو إنجاز تاريخي بلا ريب. ورأينا أيضا أن معبر رفح بدأ يفتح بانتظام أمام الفلسطينيين المحاصرين في غزة، وكيف تدفق المسؤولون العرب كالسيل على غزة، وعلى رأسهم أمير دولةقطر السابق (الأمير الوالد) الذي زار غزة على رأس وفد كبير وعالي المستوى، وقد أسفر عنها تنفيذ عشرات المشاريع للبنية التحتية والمدارس والجامعات والطرق والمنازل وغيرها. بالإضافة إلى ذلك دخل وزراء خارجية عرب يقودهم الأمين العام لجامعة الدول العربية إلى غزة. كل تلك الإنجازات التاريخية ما كان لها أن تتم لولا وجود نظام سياسي وحكومة منتخبة ديمقراطيا تعبر عن توجهات الشعب المصري. كل ذلك لم يرُق لإسرائيل ومنظمات الضغط الصهيونية اليهودية التي تناصرها في أمريكا والغرب والعالم، فدبرت مع عملائها في الداخل المصري الإطاحة بأول رئيس ديمقراطي منتخب. فغزة رغم الحصار الخانق إبان نظام حسني مبارك لم تستطِع إسرائيل في حربها المدمرة عليها نهاية 2008 بداية 2009 إيقاف صواريخ المقاومة أو إخراج أسيرها من غزة فكيف عندما يكون للمقاومة ظهر، ومن مصر منفذها العربي إلى العالم. إنها مؤامرة إيباكية صهيونية عالمية بامتياز وإن بدا للكثيرين من السذَّج والمغيبين غير ذلك.
( عن القدس العربي )
‘ أستاذ جامعي وكاتب قطري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق