الدكتور عبد الستار قاسم
من الصارخ في عالمي الفكر والسياسة أن المناداة بإقامة الديمقراطية تبقى عالية حتى تصل إلى فوز الإسلاميين، عندها تذوي وتخفت رويدا رويدا حتى لا يبقى لها صدى.
يرفع زعماء العالم الغربي أصواتهم مدافعين عن الديمقراطية وداعين كل دول العالم إلى تبنيها على اعتبار أنها الحل العملي الناجح نحو تحقيق حرية الإنسان، وهكذا يفعل مثقفون ومفكرون من كل أنحاء العالم. ومن شدة التركيز على الفكرة، أخذ يتبلور دين عالمي جديد اسمه الديمقراطية يقوم على مبدأي الفردية والتحررية.
هذا الدين الجديد الذي لا إله له لم يجد من يدافع عنه عندما تم الانقلاب على انتخابات الجزائر عام 1992، ووجد من يرفضه عندما فازت حركة حماس في انتخابات فلسطين عام 2006، وأوجست جهات كثيرة خوفا منه عندما فاز الإخوان المسلمون بانتخابات مصر عام 2012. ويبدو أن الدين جيد إذا فاز بانتخاباته من نرغب بهم، وهو يصبح فاسدا إذا فاز من لا نحبهم.
الخير والشر
لكل نظام سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي رؤية يتحدد وفقها تعريف كل من الخير والشر. النظام الديمقراطي مرتبط تركيبيا بالنظام الرأسمالي والذي يتبنى قيمة أساسية تشكل القاعدة الأولى التي تنبثق عنها مختلف القيم وهي قيمة تعظيم الأرباح الناجمة عن النشاط الاقتصادي. وهنا يرتبط معنى الحرية الديمقراطي بمعنى الأرباح من حيث أن ما يمكن ألا ينسجم مع القيمة العليا من قيم لا يمكن أن ينسجم مع معنى الحرية. فما انسجم مع القيمة العليا يكون خيرا، وما لم ينسجم يكون شرا، وذلك وفقا لمهندس النظام وقائده ومنظره.
فإذا كان المنطلق الأساسي للفكرة الإسلامية هو إقامة العدالة الاجتماعية فإن الفردية تتراجع كثيرا لصالح الجماعية، الأمر الذي يتناقض مع القيمة الربحية، فيصبح الإسلام شرا، ويصبح معنى الحرية في الإسلام متناقضا مع معنى الحرية في الديمقراطية. ولهذا لا غرابة بوجود حشود من السياسيين والمفكرين والمثقفين تقف في مواجهة الممارسة الديمقراطية إذا كانت نتائجها ستطغى على مبدأ الربحية الذي يبرر وجود الرأسمالية. القبول بنتائج انتخابية قد تتناقض إفرازاتها الفكرية ومن ثم ممارساتها العملية مع الهدف الأسمى لمن صاغ فكرة التلازم بين الرأسمالية والديمقراطية يشكل قبولا بالتدمير الذاتي، وتدهورا للقيمة العليا التي من المفترض أن تحكم سلوك الإنسان.
بما أن القيمة العليا هي الربحية فإن تعريفيْ الخير والشر متموجان وفق تموج المصلحة، وهنا يغيب المبدأ أو يتم تطويعه، وتبقى المصلحة سيدة العلاقات الإنسانية.
الضجة حول الإسلام السياسي
لم تعد الضجة حول الإسلام السياسي خافية على أحد، وهي تركز على عدد من المآخذ على الإسلاميين والإسلام منها:
1- أن الإسلام عبارة عن دين، والناس ذوو ديانات شتى، ولا يجوز إخضاعهم لدين بعينه حتى لو كان من خلال الانتخابات الديمقراطية؛
2- احتقار الإسلام للمرأة واضح من خلال تعدد الزوجات والميراث والشهادة، وغير ذلك، وهذا يدل على تخلف المسلمين وعدم قدرتهم على مواكبة التطور؛
3- لا يجري المسلمون وراء ملذات العصر الحديث، ويحاربون بعضها إلى درجة أنهم يقوضون مثلا الإنفاق على نشاطات اقتصادية تأتي بالربح الوفير على أصحابها مثل الدعارة والمجون؛
4- يرفض المسلمون التعددية وحرية الإنسان، ومن المتوقع أن يستبدوا فيما إذا تسلموا الحكم؛
5- يعادون إسرائيل عقائديا ولا يقبلون وجودها، ويرفضون التبعية لأقطاب عالمية، ويسعون أيضا إلى تحقيق الوحدة أو التكامل على مستوى العالم الإسلامي، أو الوطن العربي.
أسئلة تتطلب إجابات
أمام المآخذ التي يسوقها الرافضون لحكم أحزاب إسلامية، أطرح أسئلة كثيرة لا يستوعب المجال هنا إلا لبعضها:
أ- هل الديمقراطية والرأسمالية التحررية الحديثة دين أم لا؟ وكم من مرة ردد مسؤولون أمريكيون ورأسماليون القول بأن الديمقراطية والرأسمالية الليبيرالية الحديثة هما أفضل نظامين في العالم، ولن يطور العالم نظاما سياسيا أفضل من الديمقراطية، ولا نظاما اقتصاديا أفضل من الرأسمالية؟ ألم يقل الرئيس الأمريكي إن هذين النظامان يعكسان الحقيقة المطلقة، ولا يوجد نظام غيرهما يعكس ذلك؟
ب- هل الشيوعية أو الماركسية دين بدون إله أم لا؟ أليست الشيوعية والاشتراكية والديمقراطية مشاريع سياسية كما أن الإسلام مشروع سياسي؟
ت- أيهما أكثر احتقارا للمرأة: الذي يتزوج من أربع أم الذي يزني بعشرين؟ علما أنني لا أؤيد التفسير التقليدي لآية الزواج من رُباع. وأيهما أكثر احتراما للمرأة: الذي يصون المرأة من خلال الزوجية أم الذي يستعملها في بيوت الدعارة؟
ث- هل تربية الأطفال على اللهاث وراء الملذات أفضل من تلك التي تربيهم على توظيف الوقت بصورة متوازنة بين مختلف النشاطات بما فيه اللهو واللعب؟
ج- أين هي التعددية إذا كان السماح بها مزاجيا ويجب أن يتوافق مع المصالح؟ فهل من الممكن فصل الشعار عن الممارسة العملية؟ ألا تقوم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بزرع عملائها في صفوف الأحزاب الأخرى التي لا تتمشى مع النظام الرأسمالي الليبيرالي الحديث؟ هل مسموح لأهل الغرب ملاحقة من لا يتمشى مع أفكارهم، وغير مسموح للآخرين القيام بذات الشيء؟
ح- هل تمت دراسة نظام توزيع الميراث في الإسلام كاملا؟ وهل يجوز علميا أخذ جزء من كل ليقاس عليه هذا الكل بدون دراسة؟
خ- أيهما أفضل الإنفاق على المؤسسات التربوية أم الإنفاق المفرط على عالم التسلية واللهو؟ وأي الإنفاقين أفضل: الإنفاق الخاص بتحقيق الأرباح، أم الإنفاق الخاص بتوظيف أكبر عدد من الأيدي العاملة؟
مسلمون يسيئون
كمسلم يرى تصرفات بعض المسلمين وأحزاب إسلامية، أفضل العيش في ظل النظام الديمقراطي على العيش في ظل حكمهم. هناك مسلمون متشنجون ويلقون بالفتاوى جزافا وفق أمزجتهم الشخصية ومقتضيات بيئاتهم التربوية. أوافق على أن هناك مسلمين يركزون على أمور هامشية ولا علاقة لها في الغالب بالدين الإسلامي. فمثلا، هناك من يشغلون أنفسهم وغيرهم بلباس المرأة ومصافحتها والمجالات التي يجب أن تعمل بها أو لا تعمل، وغير ذلك، وهم في أغلب كلامهم لا يلتزمون بالتعاليم الإسلامية. وهناك من يحشرون أنوفهم في تفاصيل حياة الفرد الشخصية بطريقة تتنافى مع الإسلام وتنفر من الإسلام.
من الملاحظ أن بعض المسلمين لم ير في الثورات العربية فرصة لبناء أمة وإنما فرصة للزواج من أربع وليس من رُباع؛ وآخرون لم يجدوا فرصة لتطوير التفكير العلمي وبناء معاهد علمية متطورة وإنما فرصة لمحاربة الإنترنيت والقضاء على الفيس بوك؛ وآخرون لفرض الطقوس على الناس فرضا وليس لتطوير برامج تحقيق العدالة الاجتماعية، الخ.
ككاتب في الفكر الإسلامي، هناك مسلمون يشكلون خطرا على الفكرة الإسلامية أكثر مما يشكله الذين يرفضون الفكرة الإسلامية برمتها. هناك في العالم من يرفضون الأديان، وهناك من يرى في الإسلام دينا معاديا لحرية الإنسان، لكن هناك مسلمين يدفعون الناس دفعا نحو معاداة الإسلام والمسلمين. المعنى أن هناك في سلوكيات بعض المسلمين ما يبرر لبعض الرافضين للإسلام مواقفهم من الناحية السياسية وليس الفكرية.
لكن على فرض أن الناس انتخبوا من نظن نحن أنهم سيئون، ما هو الموقف؟ علما أن الغالبية الساحقة من الذين يخوضون الانتخابات يرون أن منافسيهم سيئون.
حق الأحزاب وحق المسلمين
السؤال الأبرز الذي يُطرح دائما: لماذا يحق لكل حزب في العالم يفوز بالانتخابات أن يشكل حكومة ويطبق برنامجه السياسي، بينما لا يحق للحزب الإسلامي أن يفعل ذلك؟ أليست الانتخابات هي مصدر الشرعية في النظام الانتخابي؟ ولماذا تتوقف عن كونها شرعية عندما يفوز حزب إسلامي؟ لماذا للرئيس الفرنسي الاشتراكي الحق في تشكيل حكومته الاشتراكية وتنفيذ برنامجه الاشتراكي، بينما لا يحق لمرسي المصري أن يشكل حكومة من جماعة الإخوان المسلمين وينفذ ما وعد به الناخبين في برنامجه الانتخابي؟
علت أصوات كثيرة في تونس وفي مصر ضد استئثار الإخوان المسلمين أو الحركات الإسلامية في الحكم على اعتبار أن تطبيق البرنامج الإسلامي سيقود إلى الفتن والصراعات الداخلية والقضاء على التعددية. لم يوضح أي صوت كيف يكون الاسئثار في ظل الانتخابات، ولا كيف يمكن أن يؤدي تطبيق برنامج الحزب الإسلامي إلى كل هذه المساوئ، ولا تؤدي برامج الأحزاب الأخرى إلى ذات النتيجة. قالت بعض الأصوات إن حكم الأحزاب الإسلامية سيقود إلى تعزيز الطائفية، وستنتهي الأمور إلى صراع إسلامي مسيحي، وستدخل مصر في غياهب الاقتتال الداخلي. هذا التبرير لا نسمعه عندما يفوز حزب مسيحي ديمقراطي، أو حزب اشتراكي أو قومي في أي دولة أخرى.
لم يجرب أحد حكم الإسلاميين في دولة مستقلة ومستقرة، وليس من العلمية بشيء الحكم على أداء الأحزاب الإسلامية قبل رؤية نشاطها وعملها وسياساتها العملية. الأصل في النظام الديمقراطي أن الحكم يؤول لمن يفوز في الانتخابات، ومبدأ تداول السلطة كفيل بإزاحة الحكومات التي تفشل في مهمتها وتقود شعبها إلى صراعات داخلية.
الانتخابات فرصة للتجديد
من المفترض أن الانتخابات آلية لتجديد الحياة السياسية، ولترسيخ مبدأ تداول السلطة. وهي سيف مسلط على رقاب الحاكمين يتهدد حكمهم إن هم أخلوا بالأمانة أو فشلوا في تأديتها. عندما يصنع الفائزون خيرا يُعاد انتخابهم، وهم يفشلون في الانتخابات القادمة إن أساؤوا.
من المتوقع أن تنطبق هذه القاعدة على الإخوان المسلمين والأحزاب الأخرى التي يمكن أن تفوز في الانتخابات. فاز الإخوان، وأصبح لديهم فرصة لإثبات قدراتهم وحكمة سياساتهم، وإن لم يفعلوا فإن مصيرهم الفشل في الانتخابات القادمة. وما دمنا رضينا بالانتخابات كحكم بين الناس، ورضينا بفكرة الأغلبية أو الأكثرية فإن عدم القبول بالنتائج يثير الفتن والقلائل، ويصنع حالة من عدم الاستقرار يدفع ثمنها الجميع. ولنا جميعا عبرة في الاقتتال الفلسطيني الذي ترتب على عدم القبول بنتائج انتخابات عام 2006 والتي كانت لصالح حركة حماس.
احترام الإسلاميين لمبدأ الانتخابات
من الناحية الإسلامية، على المسلم أن يلتزم بالمواثيق التي يكون طرفا فيها. الدخول في الانتخابات عبارة عن دخول صريح في ميثاق مع الآخرين بأن الانتخابات تتم وفق قواعد النظام الديمقراطي، وعلى المسلم أن يلتزم بهذه القواعد من الناحية الشرعية. ومن كان يرفض النظام الديمقراطي نهائيا، فإن عليه ألا يخوض الانتخابات، وإلا يكون قد دخل في تناقض صريح مع ما يؤمن به. ومن هذه الزاوية، على المراقبين والمحتجين والرافضين أن ينتظروا حتى يروا الممارسة العملية للحركات الإسلامية.
في النهاية، تقديري أن المسألة متعلقة بانحياز ضد الإسلام والحركات الإسلامية على حساب المبدأ الديمقراطي. وأعود وأقول إن الدول في النهاية تضع المصلحة فوق المبدأ، ولا غرابة أن تقف دول تدافع عن الديمقراطية بشدة ضد الديمقراطية عندما يتعارض المبدأ مع المصلحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق