محمد عبد الحكم دياب
ها أنا أكتب للأسبوع الثاني عن مناسبة الذكرى الستين لثورة يوليو في علاقتها بثورة يناير، وذلك بسبب معركة طاحنة تدور حاليا في طول مصر وعرضها؛ تعمل على شطب ثورة يوليو من سجلات التاريخ، يقودها الحكام الجدد وحلفاؤهم من بين قوى الإسلام السياسي، إلا من رحم ربي. حتى أن أحمد ماهر من حركة 6 إبريل تصور إعلان عدائه لثورة يوليو يقربه من الحكام الجدد في فترة توزيع الغنائم والحصص
وفي البداية نقول لم يطلب أحد من أعداء ثورة يوليو أن يحتفل بها، خاصة أن الثورات في نظر كثيرين من قوى الإسلام السياسي ليست سوى مؤامرات؛ مؤامرة تلد أخرى، وهي إما يهودية أو ماسونية أو صليبية، أو كلها جميعا، ومعنى هذا أن الأبطال والشهداء الأبرار ذهبوا فداء لليهود والماسون والصليبيين. وحين نغوص في صفحات التاريخ المعاصر فلن نجد من بين هؤلاء المعادين من وقف يوما في صف ثورة، إلا إذا تخلص من تلك الهواجس.
لكن لماذا أيد أولئك الذين عادوا كل الثورات السابقة على ثورة 25 يناير تحديدا؟ ونسي أنهم أول من رفضها وأدانها، وما زالوا يتعاملون معها بمذاق الثورة المضادة، ومنهم من بقي على موقفه، ويرى في الخروج على الحاكم الظالم فتنة ضارة بالأمة!، وحجتهم حديث منسوب إلى الرسول (ص) ورد في صحيح مسلم يطلب السمع والطاعة للأمير (الحاكم) "وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع"، وحديث آخر ورد في البخاري عن بن عباس يتوعد الخارج على الحاكم بأنه "يموت ميتة جاهلية".
ومن قالوا هذا قبل ثورة 25 يناير، عادوا يقولونه بعدها لتحصين الحكام الجدد، فكيف يكون مع ثورة واجهت الاستبداد والفساد ويحصنون أنفسهم ضدها مع أنهم يحكمون باسمها؟. ومعنى هذا أن الثورة لدى هؤلاء تحمل معنى واحدا هو الانتقام وتصفية الحسابات والصدام الدائم مع الجميع. والحكم الرشيد لا يجرم الاختلاف وينبذ الخصومة ويستمر بالمراجعة ويقوى بالمصالحة. والمقدمات تقول أن الحكام الجدد لا متسع لديهم يسمح ببناء حكم يواجه التخلف والفقر والجهل والمرض والفوضى؛ شغلهم الانتقام والغنائم والحصص والأنصبة، وطمأنة المانحين وأولياء النعم في الرياض وواشنطن ولندن وبرلين، وتقديم التعهدات المطلوبة لمؤسسات المال والسياسة الصهيو غربية؛ ضمانا لعدم المساس بهياكل الاقتصاد وفوضى السوق والأسعار، والالتزام بعدم تدخل الدولة في التنمية!، وكانت جريمة يوليو وعبد الناصر تحديدا أنه رفض كل هذا وغيره، وكان شغله الشاغل القضاء على الفقر ورفع مستوى المعيشة وتحويل الخدمات إلى حقوق للجميع، مثل التعليم والصحة والعمل والسكن، فضلا عن مواجهاته مع الاستعمار والصهيونية وعمله لجمع شمل العرب وتهيئتهم لليوم الذي يتمكنون فيه من تحرير فلسطين.
وهكذا تغيرت التركيبة الاجتماعية لمصر، وهذا ما مكن والد الرئيس محمد مرسي تعليم أبنائه من دخل أرض الإصلاح الزراعي، ليكون أول رئيس من أبناء المعدمين الذين أنصفتهم ثورة يوليو. ومع ذلك فإن برنامج الرئيس؛ ابن الفقراء الطيبين ويعرف بمشروع "النهضة"، وليس له من الاسم أي نصيب، فهو مشروع تجاري استثماري فردي، لا علاقة له بأي معنى من معاني التنمية؛ ويرى العدالة الاجتماعية مهمة الجمعيات الخيرية؛ تعتمد على الزكاة وصدقات المحسنين وتبرعات أهل الخير، وهذا لا يمت للاقتصاد الحقيقي بصلة، ويبقى المشروع نشاطا تجاريا عشوائيا، أساسه السلع الاستهلاكية والسمسرة والمضاربة وتسول المعونات والقروض، والقبول بخطط صندوق النقد الدولي. ولا يختلف من قريب أو بعيد عن "مشروع" جمال مبارك وأحمد عز، الذي قضى على دور الدولة، وقصر نشاطها على الأمن والقمع والملاحقة والترويع والدعاية المزيفة.
وما فعله جمال مبارك ويفعله مرسي ضد طبيعة الدولة المصرية منذ ظهورها من آلاف السنين، فمنذ أن قامت لتنظيم الزراعة وتوزيع مياه النيل وشراء المحاصيل وتخزينها، وهي تقدم العون والدعم للشعب، ويستمر التعامل معها من جانب الحكام الجدد على نهج الحكم السابق عقابا لها على "اقتراف جرم" التنمية والتصنيع والإنتاج، فهي التي أقامت القطاع العام، ونقلت الخدمات من خانة المنح إلى قائمة الحقوق.
وجاء من يسلّع الخدمات (حولها إلى سلعة)؛ يشتريها القادر، ويحجم عنها العاجز، فراجت تجارة التعليم والصحة والموت والإسكان والبشر، وذهبت الضرائب إلى دعم الأغنياء، في التصدير والطاقة والأراضي المجانية، وأصبح الحد الأقصى للضرائب 20% على الأرباح التجارية؛ لا يُدفع منها سوى من 6% سنويا بالتلاعب والحيل (القانونية) التي توفرها التشريعات والإجراءات التي تتخذ لصالح حيتان الاستثمار وأباطرة المال.
واستهل "الشاطر" خيرت مشروع "النهضة" الرئاسي في إبريل/ نيسان الماضي؛ بمشروع سلسلة مجمعات استهلاكية (سوبر ماركت) أطلق عليها اسم "الزاد"، وقد تسبب ذلك في خلاف الحكومة مع جماعة الإخوان، والقصة أن مجموعة خيرت الشاطر تقدمت بمذكرة الى حكومة كمال الجنزوري، تطلب تخصيص مساحات من الأراضي حول المدن، لإقامة هذه السلسلة العملاقة. على أن تبدأ بمئتي فرع؛ تغطي كل مدن الدلتا، وتقوم على إدارته إحدى شركات الشاطر. ورفضت الحكومة البناء على الأراضي الزراعية، ومن المعروف أن المشروعات التي أقيمت في السابق على هذا النمط ذهبت إلى المناطق الصحراوية، وأقامت مجمعاتها الاستهلاكية والتجارية العملاقة. وكان ذلك الرفض أهم أسباب الخلاف بين جماعة الإخوان وبين حكومة الجنزوري.
وساد إحساس عام في مصر بأن الحكام الجدد يسعون إلى الصدام، مع كل السلطات والمؤسسات والمنظمات والأحزاب والثوار في وقت واحد، ومصدر هذا الإحساس هو ما يتابعون من تحريض ضد سلطة القضاء، ومؤسسات الصحافة والإعلام، والقوات المسلحة، وهم يملكون ويسيطرون على فضائيات وصحف، وأكبر شبكة ألكترونية للتواصل السياسي والاجتماعي، وأموال طائلة لا ينافسهم فيها إلا رجال أعمال أحمد عز وجمال مبارك، وما زالوا أقوى من الدولة في تصفية الحساب وتشويه الخصوم واغتيالهم سياسيا وأدبيا.
والحكام الجدد ينسبون كل الأخطاء والخطايا إلى "شياطين" القضاء والإعلام والصحافة والجيش، وتجد كل أجهزة الحكم الجديد الرسمية وجماعاته العرفية تحرض بشكل دائم ضد كل هؤلاء، دون فرق بين صالح وطالح، وأصبح الحكم "تأديب وتهذيب وإصلاح" على طريقة السجون وأماكن الحبس.
هذا المناخ المشحون هو الذي تمت فيه احتفاليات يوليو في مصر هذا العام، وكانت الملايين التي أدلت بصوتها لصالح المرشح القومي العربي الناصري حمدين صباحي، قد كشفت عن حجم كتلة تصويتية ضخمة أعادت اكتشاف هوى ملايين المصريين في اتجاه الحرية والعدل والمساواة والكرامة الإنسانية، نفس المضامين التي سعت إليها يوليو، وتعمل يناير على بلوغها.
وجاءت احتفالية هذا العام مفعمة بثقة عالية في النفس، وأخذت طابعا مهرجانيا، وأبرزه ما كان في ميدان التحرير يوم الاثنين الماضي، فبجانب الكلمات والإشادة بثورات مصر العظيمة وإعلان الناصريين أنهم جنود ثورة يناير إلى أن تتمكن من الحكم وامتلاك القرار، صدحت الأناشيد والأغاني الوطنية والقومية، وكشفت الحوارات واللقاءات الفكرية والثقافية معلومات وحقائق تاريخية غابت عن كثيرين بفعل التعتيم والتشويه والتدليس والحرب النفسية.
ورفعت على المنصة الرئيسية في ميدان التحرير سِيَر وصور ثوار وزعماء مصر وأبطالها؛ من رموز وشهداء ثورتي القاهرة الأولى والثانية ضد الاحتلال الفرنسي نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وأحمد عرابي، ومحمد فريد، ومصطفى كامل، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، والضباط الأحرار وجمال عبد الناصر، وأبطال وشهداء ثورة 25 يناير، في رسالة واضحة تقول بأن التاريخ الوطني لم يبدأ في عشرينات القرن الماضي مع نشأة جماعة الإخوان المسلمين.
وفي احتفالية نقابة الصحافيين في اليوم التالي الثلاثاء 24 يوليو/ تموز صحح المؤرخ والأستاذ الجامعي عاصم الدسوقي نظرة البعض إلى دستور 1923 "المقدس" من قِبَل الليبراليين؛ قدامى وجدد. مؤكدا أنه أساس تركيز السلطة في يد رئيس الدولة.. وقال إن اللجنة التي أوكلت إليها عملية صياغة مشروع الدستور اقترحت نظام حكم ملكي دستوري، تقليدا للنظام البريطاني، أي أن "الملك يملك ولا يحكم"، وحين عرض الأمر على الملك فؤاد اعترض؛ كيف له أن يكون ملكا دون أن يحكم، وبلا صلاحيات؟، ومنحه دستور 1923 صلاحيات واسعة؛ يعين بمقتضاها رئاسة الوزراء والوزراء ويقيلهم، ويتدخل في توجيه الأجهزة والسلطات، وهي نفس الصلاحيات التي انتقلت لرئيس الجمهورية.
وكشف عن أسباب عدم الأخذ بدستور 1954، وقال أن ذلك الدستور تبنى "الاقتصاد الحر" في وقت اتجهت الثورة إلى إعادة توزيع الثروة بقوانين تحديد الملكية والإصلاح الزراعي، وأذنت بتدخل الدولة، فضلا عن تحديده لسن الرئيس بخمسة وأربعين عاما، وكان سن كل أعضاء مجلس قيادة الثورة وكل الضباط الأحرار في الثلاثينات، أي أقل من خمسة وأربعين عاما، ومن الواضح أن النص وُضع ليلائم سن زعماء ما قبل الثورة، وسن الرئيس الراحل محمد نجيب أول رئيس للجمهورية عينه مجلس قيادة الثورة، واستنتج مجلس قيادة الثورة أن الهدف هو تصفية الثورة. شيء أشبه بما يحدث حاليا مع مشروع الدستور المرتقب، المتوقع أن يأتي على حساب ثورة يناير، وتصفية آخر ما تبقى من ثورة يوليو. ومن المحتمل أن يحدث ذلك بانقلاب دستوري صامت، وبديمقراطية موسمية تبقى على هياكل الحكم السابق وتعيد تأهيلها، وعنوان هذه الهيكلة واضح هو سلسلة محلات ومجمعات "الزاد" الاستهلاكية المعتمدة لـ"مشروع النهضة".
هل يستطيع الناصريون والقوميون العرب في مصر؛ بتعدد منابعهم وتنوع روافدهم أن يكونوا كما أعلنوا جنودا في جيش ثورة يناير حتى تتمكن من الحكم؟، وهل ينجحون في هذه المهمة؟ هل تكون وحدتهم خطوة أولى في مسيرة الألف ميل على طريق توحيد الفصائل والتنظيمات الناصرية والقومية في كيان واحد؟، إنها مهمة لا تقل صعوبة عن مهمة تمكين ثورة يناير من الحكم. وعليهم أن يمدوا أيديهم لكل القوى الوطنية الراغبة والمستعدة لنصرة ثورة يناير، من موقع الحفاظ على رصيد ثورة يوليو في الوجدان الوطني والعربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق