يبدو أن مقالي عن إعلام الإسلاميين وفقه الواقع؛ قد أثار شجونًا بل غضبًا لدى كثير من القراء والمعنيين، من أجل إعلام إسلامي قوي وفعال ومؤثر، فالإعلام في زمننا سلاح أساسي يندرج تحت قوله تعالى : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة.. " ( الأنفال : 16)، القتال، أو الصراع ليس قاصرا على استخدام الطائرات والمدافع والصواريخ والدبابات، ولكن لا بد أن يرافقه بل يسبقه سلاح الإعلام، وقناة cnn الأميركية مثلا تمهد للغزو، وتهيئ له وتدافع بالباطل عن خطايا الغزاة وجرائمهم.. وأظن أن أصحاب الحق أولى أن يملكوا هذا السلاح الفعال ليدافعوا عن أنفسهم ويعرضوا قضيتهم العادلة بأوضح بيان!.
المسلمون في عصرنا محتاجون إلى إعلام حقيقي مهني محترف، يختلف عن إعلام صفوت الشريف وصبيانه وأنصاره. إعلام يقدم كلمة الله إلى الناس بصورة لائقة، ويدافع عن المسلمين بصورة فاعلة، ويواجه حملات الإجرام المعادية المسلحة بالمال والخبرة والذكاء الشيطاني.
بعض الناس يتصور أن انتقاد ما يسمى بالإعلام المحسوب على الإسلاميين فيه تجاوز وافتئات على الحركة الإسلامية وانتقاص لجهود قام بها أصحابها ابتغاء وجه الله، وهذا غير صحيح، لأن المسلم الحق هو الذي يسعى إلى نجاح حقيقي مؤثر، وليس لبعض النجاح غير المؤثر.
في ظل النظام المستبد الفاشي عبر ستين عاما، كانت هناك مثلا مجلة " الاعتصام " التي كانت تصدر بجهد فردي وإمكانات هزيلة، وتواجه عقبات أمنية وفنية عديدة، ولكنها كانت تؤثر في الواقع الاجتماعي والسياسي العام، وتزعج السلطة الغشوم أيما إزعاج، لسبب بسيط أنها كانت تتحرك بالإخلاص وليس بالنرجسية أو تسديد الخانة، وتواجه قضايا الواقع على الأرض بأسلوب مباشر وبسيط ومهني أيضا. الأمر نفسه كان مع مجلة " الدعوة ".
وأذكر أن لقاء شهريًّا كان يجمع المحررين والكتاب وغيرهم مع الأستاذ عمر التلمساني - يرحمه الله - عقب صدور كل عدد، وكان الاجتماع يتناول مضمون العدد وموضوعاته وشكله وطباعته وألوانه وخطوطه وكل ما يتعلق به من أول صفحة الغلاف حتى صفحة الغلاف الأخيرة، وكان الحوار حرا ومباشرا حول السلبيات والإيجابيات، لا أحد يجد غضاضة فيما يطرح أو يقال، ما تتفق عليه الأغلبية يتم تنفيذه في العدد التالي سواء بتركه إن كان سلبيا، أو تحسينه إن كان إيجابيا. وكانت المحصلة في النهاية لصالح الصحافة الإسلامية مع تواضع إمكاناتها.
لقد أتيحت بعد الثورة فرصة إصدار بعض الصحف الإسلامية أو المحسوبة على الإسلاميين، ولكن التجربة حتى الآن تبدو متواضعة ومليئة بالسلبيات سواء ما يتعلق بالحرفة والمهنة أو ما يتعلق بالإدارة والتمويل، وفي كل الأحوال فقد باتت الأمور غير مرضية سواء من ناحية التوزيع أو التأثير مع أن الجمهور القارئ لها يفترض أنه يمثل كتلة أكبر من أية كتلة أخرى!.
ولعل المشكلة الأولى تتعلق بما يمكن تسميته بالمفهوم الإسلامي الإتقان. إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه. ولكن الإتقان في معظم الصحف الإسلامية غائب إلى حد كبير. لا توجد كوادر تحريرية أو إدارية ناشطة، يبدو الأمر وكأنه موكول للبركة بالتعبير العامي، أو مشي حالك تحت أي وضع. المهم أن هناك صحيفة تصدر والسلام. الحس المهني والإنجاز الحرفي لا وجود لهما. صحافة قاعدة أو نائمة، تعبئة الصفحات غاية المراد، أما الخبر، أما السبق، فلا محل له غالبا. بعضهم ينظر إلى المسألة من منظور تجاري بحت، ولكنه في الغالب منظور فاشل، لأنه يحسب ما ينفقه دون أن يفكر فيما يمكن أن يكسبه.
ولذا تجد الصحيفة الإسلامية خالية غالبا من الإعلانات، وهي أساس التمويل في الصحافة. في الصحف المعادية للإسلام تجد إنفاقا باهظا على الكتاب والمحررين، ومع ذلك لديها جهاز قوي للإعلان يتحرك بذكاء وتخطيط. إضافة إلى الإتقان الذي يبدأ من الصورة إلى الإخراج إلى الرسم إلى السلامة اللغوية.. تصور أن بعض الصحف المحسوبة على الإسلاميين لا يوجد بها مصححون، وإن وجدوا فكأنهم غير موجودين، ولذا تغص بالأخطاء النحوية والصرفية التي تطال العناوين ؛ ناهيك عن علامات الترقيم.
المشكلة الثانية الاعتقاد أن الصحافة الإسلامية مجرد مقالات تكتب وكفي الله المؤمنين القتال. الصحافة حركة تتوازى مع حركة المجتمع أو الناس. تتناول كل ما يجرى فيه، لا تحول وجهها عن بعض ما يجرى بحجة أنه مخالف أو غير مرغوب فيه، إن تسليط الضوء على الكرة والفنون والحوادث والمرأة وما يتعلق بها، والإذاعة والتلفزيون، والظواهر الاجتماعية الطارئة، وتناول كل ذلك من منظور إسلامي هو أمر مهم للغاية،والقارئ يبحث عادة عما يجرى في المجتمع، وهنا تكون الفرصة لتقديم التصور الإسلامي الذي يصحح ويقوم ويرشد.
الموضوعات التي تتناولها الصحافة الإسلامية تبرز الأولويات التي تخدم المجتمع والدعوة معا، ورئيس التحرير الرسالي هو الذي يملك حسا ثقافيا راقيا يدفعه للتركيز على الأولويات وعدم الاستغراق في الهوامش حتى يأتي وقتها، وهو الذي يحرك محرريه بل وكتابه في سياق الأولويات.. ثم هو الذي يكتشف الكتاب الجيدين أو الكتابات الجيدة التي تصل إلى الجريدة من غير المحترفين أو ممن لا يطرقون الأبواب ويكتفون بطابع البريد في توصيل ما يكتبون، شكا إلى كاتب جيد يعيش بعيدا عن القاهرة أنه أرسل عشرات المقالات والقصص والموضوعات إلى صحيفة كذا أو مجلة كذا ولكن ما أرسله يقابل بالصمت، وهذا منهج غير سليم على كل حال. إن ما يرسله القراء قد يكون فيه زاد حقيقي تفيد منه الصحيفة أو المجلة، فضلا عن أن التواصل مع القارئ الكاتب بصورة ما قد يكون طريقا لاكتشاف كتاب موهوبين وأدباء مرموقين في المستقبل.
المشكلة الثالثة مشكلة الأجور والمكافآت، وهي أمر حيوي خاصة بالنسبة للمحررين. والتعلل بقلة الإمكانات وقلة الموارد لا يصلح في إنشاء صحافة إسلامية يفترض أن تكون نموذجا للآخرين، فالبطون لا تنتظر، ثم إن إحساس المحرر بالغبن لا يؤهله للعمل أو الإنجاز، والإدارة الصحفية الواعية هي التي تعرف كيف تزيد الموارد وترضي هيئة التحرير.
أما الاعتماد على مقولة قلة الإمكانات فالأولى حينئذ إغلاق الصحيفة كي لا يظلم أحد.
كان المهندس محمد توفيق أحمد صاحب البريد الإسلامي – رحمه الله - يخدم الدعوة الإسلامية من حر ماله المحدود،وأسلم على يديه أكثر من أربعة آلاف مسلم في مشارق الأرض ومغاربها من خلال الرسائل الدعوية الصغيرة التي كان يطبعها باللغات الحية، وكان يدعو بعض الكتاب للكتابة في البريد الإسلامي وبعد النشر يرسل إليهم صورة شيك مملوء بالدعاء الصالح والتعبير عن ظروف المجلة المتواضعة التي كان يحررها وحده من الغلاف إلى الغلاف، وكانت هذه المكافأة من أغلى المكافآت لأنها كانت تصدر عن إخلاص في عمل تطوعي صرف.
ونواصل الحديث إن شاء الله عن القنوات الفضائية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق