المستشار سامح عبدالله*
فى كل عام تأتى ذكرى ثورة 23 يوليو المجيدة ، وفى كل عام يكثر الحديث عن قائد الثورة ومفجرها جمال عبد الناصر ، وفى كل مرة ينتابنى شعور أن لاجديد فى الحديث عن جمال عبد الناصر ، فقد قِيل كل شيئ عن الرجل وصِيغت كل الكلمات وكل العبارات فى حق الرجل بما يجعلنى أسال نفسى عندما أتهيئ للكتابة .. ماذا أقول هذا العام فى ذكرى ثورة 23 يوليو وقد قلت العام الماضى..والحقيقة أننى كنت قد هيأت نفسى للكتابة عن موضوع آخر غير ثورة 23 يوليو وقائدها وكان فى إعتقادى أن كل شيئ قد قِيل ، والحقيقة أيضاً أننى لم أستطع أن أبعد كلماتى عن الرجل وعن ثورة الرجل ..أخذنى القلم دون أن أستطع إيقافه إلى حديث عن الرجل فمع تصاعد الإخوان المسلمين إلى أعلى مناصب الدولة وإستحوازهم على أغلبية المجلس التشريعى المنحل بحكم قضائى والحديث عن الستينيات ثم كلمة الرئيس التى ألقاها على الشعب المصرى بمناسبة العيد الستين لثورة 23 يوليو وتجنب الإشارة إلى إسم قائد الثورة الرئيس جمال عبد الناصر…كل هذا جعلنى أكتب من دون تردد عن ثورة يوليو وعن جمال عبد الناصر ..كل هذا جعلنى أتصدى لتلك الهجمة الشرسة التى لم تنقطع يوماً عن جمال عبد الناصر ..كل هذا جعلنى على قناعة تامة بأن الحديث عن الرجل أبداً لن ينضب وأن ذكراه لن تتحول أبداً إلى حفل تأبين وأنه حاضر رغم الرحيل وأنه باقٍ فى القلوب رغم كتلة الأكاذيب التى تحاول أن تنال منه بغير جدوى ..كنت أحسب أن كل الكلمات قد قِيلت فى حق الرجل…لكن الحديث عنه دائماً سيظل له بقية ..وإلى الأبد . واليوم وأنا أكتب عن الرجل وذكرى الثورة التى صنعها هو ومجموعة الأبطال أخذتنى فكرة الشرعية..شرعية الرئيس..وطرحت على نفسى سؤالاً..لماذا يرغب بعض الناس فى الحكم..لماذا يتصارع بعض الناس على الحكم !!..كان ظنى وتقديرى دائماً أن الشرعية هى أعظم ما يستند إليه رئيس عند الجلوس على كرسى الحكم..الشرعية هى الإجابة المنطقية لسؤالِ يتمثل فى ..لماذا أنت على كرسى الحكم ؟. وكل رئيس بمنطق الأمور لابد أن يأتى بشرعيته أو على الأقل يصنعها من خلال سنوات حكمه ..والشرعية التى أقصدها هى الشرعية الحقيقية التى تسجلها صفحات التاريخ بمنتهى الصدق بعيداً عن الزيف والكذب . فإذا أتينا إلى شرعية جمال عبد الناصر سنجد أن الرجل بدأ فى تسطيرها منذ وقت بعيدِ ولن أتعرض هنا لسيرة جمال عبد الناصر الذاتية بخصوص هذا الشأن لكننى سأتعرض لنقطتين هامتين فى حياة جمال عبد الناصر ..الأولى أراها نقطة فارقة ولعلها كانت أول ما سُطر فى شرعية الرجل . ألا وهى حصار الفالوجه . بدأت حرب فلسطين بعد أن تخلى رئيس وزراء مصر عام 1948 النقراشى باشا عن معارضته دخول الجيش المصرى إلى فلسطين وبعد موافقة مجلس النواب آنذاك دخل الجيش المصرى المعارك لكن تبين بعد وقت قصير أنه لم يكن جاهزاً شأنه شأن الجيوش العربية لخوض تلك المعركة وبالفعل فقد تمكنت العصابات الصهيونية من نسف جسر بيت حانون وقطعت الإتصالات بين الجيش المصرى والقيادة وكان على أثر ذلك سقوط مدينة بئر سبع بعد إنسحاب الجيش المصرى إلى غزة وهنا وجد اليوزباشى جمال عبد الناصر نفسه محاصراً مع كتيبته داخل قطاع الفالوجة بعد إنقطاع الإتصال بينه وبين مركز القيادة ولقد تحدث كثيرون عن حصار الفالوجة والمقاومة الى أبدتها تلك الكتيبة بقيادة قائدها جمال عبد الناصر وكيف إستطاع هذا القائد أن ينجو بقواته وبما بقى معه من أسلحة سليمة من نيران العدو..أيام طوال عاشها اليوزباشى جمال عبد الناصر تحت القصف وتحت الحصار ..لقد حارب الرجل على تراب فلسطين كأحد أفراد الجيش المصرى وليس قائداً للجيش وهنا يكمن الفارق بينه وبين غيره من القادة أو الرؤساء ..هذا رجل عرف منذ وقت بعيد ماذا تعنى الحرب على تراب فلسطين وماذا تعنى الخيانة والمؤامرة على أرض فلسطين وفى أيام الحصار إكتشف الرجل أن المشكلة الحقيقية ليست هنا فى قطاع الفالوجه المحاصر بل المشكلة الحقيقية هناك فى القاهرة المحاصرة بإحتلال الإنجليز والقصر ..عاد جمال عبد الناصر إلى القاهرة ويبدو أن هناك فكرة قد إختمرت فى عقله ووجدانه . تقول السيدة تحية عبد الناصر فى مذكراتها ..سنوات معه عن حرب فلسطين وحصار الفالوجه [بدأت الحرب يوم 16 1984 وفى مايو الساعة السابعة صباحاً غادر جمال البيت وأنا أبكى ،وعندما خرج من الباب وكان ينزل السلالم مسرعاً وقفت أبكى وأنظر له وهو ينزل السلالم وكان المراسل قد سبقه وعربة جيب منتظره على الباب وحضر أشقاؤه لتوديعه قبل سفره ..عندما عاد رأيت علامة جرح حديث وخياطة فى صدره من الناحية اليسرى ، سألته ما هذه ؟ فقال ،، إنها لا شيئ دى حاجة بسيطة ،، وسكت ثم وجدت فى الشنطة قميصاً وفانلة ومنديلاً بها دماء غزيرة فنظر وقال إنه أصيب وهو فى عربة حربية ، وهذا أثر جرح من رصاصة خبطت أولاً فى حديد العربة الحربية الأمامى الذى لايزيد عرضه على بضعة سنتيمترات مما خفف الإصابة إذ إنكسرت منها قطعة دخلت فى صدرى ، والحمد لله بعيدة عن القلب بمكان صغير ، ومكثت فى المستشفى أياماً قليلة ،، وأرانى القطعة وقال سأحتفظ بها والملابس المخضبة بالدماء . حكى لى كل ذلك ببساطة . وضعتها فى مكان كما هى وكان بها خروم مكان دخول القطعة ] كان هذا حديث السيدة تحية عبد الناصر عن حصار الفالوجة وهناك أحاديث أخرى كثير كلها تكشف عن حقيقة واضحة وضوح الشمس هى أن هناك رجل لم يكن يهاب الموت لأنه كان عنده قضية لم يدخر حتى حياته من أجل الوصول إليها . هنا فى نظرى بدأت شرعية جمال عبد الناصر ..هنا فى نظرى بدأت فكرة تكوين تنظيم الضباط الإحرار..هنا فى نظرى ولدت ثورة يوليو 1952…هنا ولدت شرعية رجل لم يكن يدرى أنه بعد حوالى أربع سنوات من حصار الفالوجة سيكون قائداً لتنظيم الضباط الأحرار وقائداً لثورة غيرت مجرى التاريخ المعاصر ورئيساً لجمهورية كانت رائدة لكل قوى التحرر الوطنى ليست فى المنطقة العربية فحسب بل فى العالم أجمع . وأما عن النقطة الثانية فى حياة جمال عبد الناصر فقد جرت أحداثها الدامية فى 26 يناير 1952 ففى منتصف نهار هذا اليوم إندلعت النيران فى عدة منشآت فى مدينة القاهرة عاصمة مصر وفى خلال ساعات قليلة إلتهمت النيران مايقرب من سبعمائة محل وسينما وكازينو وفندق ومكتب وشركة .. ظلت النيران مشتعلة فى القاهرة منذ منتصف اليوم وحتى الحادية عشر ليلاً..كانت الخسائر فادحة وترتبت عليها خسائر كبيرة على الإفتصاد المصرى نتيجة حريق تلك المنشآت الكبرى وتشريد آلاف العاملين بها بالإضافة إلى الإصابات والخسائر البشرية التى وقعت .والغريب أنه فى نفس التوقيت كانت هناك حفلة ملكية تحرسها قوات البوليس وعندما إتصل وزير الداخلية فؤاد سراج الدين آنذاك بالملك يطلب منه الإستعانة بالجيش للسيطرة على الحريق لعدم قدرة إدارات الحكومة المختلفة فى السيطرة عليه تلكأ حيدر باشا وزير الحربية آنذاك فى التدخل مما زاد من الخسائر الناتجة عن هذا الحريق ويقال أن سبب هذا التلكأ كان إحراج الحكومة التى كان يرأسها النحاس باشا والتى جاءت على غير رغبة من الملك أو لأنه كان مشغولاً فى الإحتفال وكلاهما أسوء من الآخر . ولقد إختلف المؤرخون فى تحديد المتسبب فى هذا الحريق فهناك من يقول أن الملك اراد التخلص من حكومة النحاس كما سبق القول وهناك من يقول أن الإنجليز وراء هذا الحريق لكسر إرادة المقاومة التى ذادت فى مواجهتهم وهناك من يقول أن المتسبب فى الحريق هو حزب مصر الفتاة والإخوان المسلمين ، لكن الحقيقة لم تظهر حتى الأن وبقى هذا الحدث لغزاً فى التاريخ المصرى حتى الأن وكانت له تداعيات كبيرة على مجرى الأحداث ، ولعلها كانت المرة الأولى التى تنزل فيها قوات الجيش إلى قلب القاهرة للسيطرة على هذا الحدث الكبير . كان جمال عبد الناصر أحد هؤلاء الذين شاهدوا القاهرة وهى تحترق ، وكان بالطبع أحد هؤلاء الذين إحترقت قلوبهم مع حريق القاهرة بكل جمالها وروعتها ..من حصار الفالوجة إلى حريق القاهرة كان جمال عبد الناصر حاضراً وعازماً على تطهير البلاد من الخونة والعملاء..لقد أبصر الخيانة والعمالة بنفسة وهو تحت حصار الفالوجة دون عتاد أو سلاح..ثم شاهدهما أيضاً فى حريق القاهرة الذى بقى رغم فظاعته سراً من الأسرار . لقد أدرك جمال عبد الناصر أن الوقت قد حان وبعد ستة أشهر من ذلك الحادث وبضعة أيام كان تحرك الضباط الإحرار نحو مركز قيادة الجيش وإعلان السيطرة عليه وعلى مقدرات البلاد كما جاء فى البيان الشهير الذى ألقاه الضابط أنور السادات . وهنا بدأ جمال عبد الناصر يؤسس لشرعية أخرى ..هى الشرعية الثورية . لقد جاء الرجل إلى الحكم كقائد لحركة الضباط الأحرار بشرعية ضابط تشبع بحب الوطن حتى الفداء وتشبع بعروبة فلسطين وقت الحصار وهو الأن الرجل الذى عليه أن يدرك حقيقة ما قام به هو ورفاقه فى ليلة 23 يوليو 1952 . ومن أجل ذلك كان إستدعاء اللواء محمد نجيب إلى مجلس قيادة الثورة ليجلس بمقعد القائد رغم أنه لم يكن بين الضباط وقت التحرك ، ليس من أجل إستغلاله حتى تستقر الأمور كما يشاع خطأ لكن لأنه الرجل الكبير الوطنى المعروف آنذاك و الذى يمكنه أن يترك إنطباعاً جيداً على شكل الحركة وغاياتها وأسبابها ، ومن أجل ذلك أيضاً كان أول ما تولاه جمال عبد الناصر بعد الثورة هو مهمة الأمن أو حقيبة الداخلية بالمفهوم العصرى ..لقد أدرك هذا الشاب حقيقة ما قام به فعلاً..كان يعلم أن لكل ثورة حقيقة ثورة مضاده..كان يعلم أن هناك متربصون حتماً ..كان يعلم أن نجاح الحركة يتوقف على مدى إستقرار الأمن فى البلاد وتأييد الشعب المصرى لها ، لم يشغله من يكون قائد مجلس قيادة الثورة أو رئيس الوزراء أو حتى رئيس الجمهورية . كان يشغله شيئ أبعد من ذلك بكثير..كان يشغله أن تتحول هذه الحركة إلى ثورة ليس بالكلمات أو الوصف لكن بالجوهر..كان جمال عبد الناصر يعلم حتماً ماذا يعنى مفهوم الثورة ..كان يعلم أن الثورة عبارة عن تغيير نظام بكل مايحمله من مكونات إجتماعية وإقتصادية وسياسية ومن هنا بدأ جمال عبد الناصر فى أول الخطوات الجادة نحو تحقيق المفهوم الثورى للحركة التى لم يُطلق عليها ثورة فى سنوانتها الأولى إلا بعد ما إكتملت ملامحها . ففى يوم التاسع من سبتمبر 1952 أى بعد أقل من شهرين على حركة الضباط الأحرار كان قانون الإصلاح الزراعى الأول الذى أقام به أروع مشروع للتوازن الإجتماعى والعدالة الإجتماعية فى تاريخ مصر حتى الأن والذى حزرت من تبعاته وثيقة أفرجت عنها المخابرات الأمريكية تقول عن هذا القانون بأنه الذى يقوى الجبهة الداخلية فى مصر ويزيد شعبية جمال عبد الناصر وهو بالفعل ما تحقق . لقد قاد جمال عبد الناصر مصر والأمة العربية بشرعية يوليو ..بإشتراكية يوليو..بمبادئ يوليو ..بإرادة يوليو التى أممت قناة السويس وأعادتها إلى مصر كاملة غير منقوصة وقاومت عدوان ثلاثى بشع قادته الأمبراطرية التى لم تكن تغيب عنها الشمس وفرنسا وإسرائيل..لقد قاد جمل عبد الناصر مصر والأمة العربية بشرعية يوليو التى أقامت أضخم خطة خمسية فى تاريخ مصر من العام 1960 وحتى 1965 ، ثم شيدت أضخم مشروعات القرن العشرين على الإطلاق ..السد العالى وحتى بعد عدوان يونيه 1967 الذى لم يكن المقصود منه فقط ضرب قدرات مصر العسكرية بل كان المقصود منه فى الأساس ضرب قدرات مصر الإقتصادية التى وقفت على قدم وساق مع أقتصاديات كبرى فى الشرق الأوسط والعالم ككل . أقول حتى مع هذه الضربة التى أصابت شرعية يوليو فإنها لم تسقط أبداً ولم تُمحى..صحيح أنها أصيبت بشرخ قوى لكنى أختلف مع الذين يقولون أن شرعية يوليو إنتهت مع عدوان 1967 . فقد إستعدت مصر للمعركة بشرعية يوليو وخاضت حرب شرسة كبدت العدو خسائر فادحة هى حرب الإستنزاف بشرعية يوليو بل أنه يمكننى القول أن الجيس المصرى عبر قناة السويس بشرعية يوليو وحتى بعد رحيل قائدها جمال عبد الناصر . لقد وصف الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل ثورة يوليو بأنها ثورة إلا خمسة ويبدو أن عدم إكتمالها على هذا النحو كان بسبب أنها لم تحقق المبدأ السادس الذى قامت عليه وهو إقامة حياة ديموقراطية سليمة لكن فى المقابل فقد نجحت الثورة فى تحقيق أكبر تحول سياسى وإجتماعى وإقتصادى فى تاريخ مصر إمتد حتى إلى خارج المنطقة وإلى أقصى ما يفوق حدود الجغرافيا . أتكلم عن شرعية الرئبس.أتكلم عن شرعية جمال عبد الناصر . فى مثل هذا الوقت من كل عام تتصاعد الهجمات وتعلوا النبرات تجاه رجل لم يتخل يوماً ما فى أيام حكمه عن الشرعية التى قام عليها نظامه .لم يتخل يوماً عن هدف واضح أمامه..واجه عثرات.. واجه حروب.. واجه الموت مرات ومرات.واجه إنكسارت نالت من قواه العسكرية والإقتصادية نالت حتى من قواه البدنية التى أسكنته المشيب قبل المشيب ، لكنها لم تنل أبداً من إرادته التى لم تنكسر أبداً حتى اللحظات الأخير فى حياته كان يعمل من أجل أمته. قديماً كانت تبكينى كلمات الهجوم المليئة بالكذب والأباطيل التى توجه إلى الرجل فى كل ذكرى تحل علينا لثورته المجيدة..كنت أحزن إلى حد البكاء ..اليوم أواجه كل ما يقال عنه بسخرية فقد إكتشفت أن الرجل يزيد قدره مع كل إفتراءات توجه إليه بينما يتضاءل حجم خصومه إلى حد الإختفاء ..غريب أن تجد رجلاً يُثير كل هذا الصخب بعد رحيله بأكثر من أربعين عام ..وليس غريباً أبداً أن يكون هذا الرجل هو جمال عبد الناصر .
* رئيس محكمة الإستئناف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق