نبيل عودة
"خطى" - ديوان شعر 94 صفحة من الحجم المتوسط
شعر: لبني فريد دانيال- دار الماجد - رام الله (2012)
ظاهرة انتشار الكتابة الشعرية في الثقافة العربية الفلسطينية داخل اسرائيل تثير الانتباه والتحفظ.
الملاحظة العامة لا تبعث على التفاؤل.لاحظت ان العديد من الشعراء الشباب بدأوا بدايات مقبولة. لسبب لا أفهمه، وقد تكون له تفسيرات نفسية واجتماعية وثقافية طبعا، نلاحظ على الأغلب تراجعا عن البدايات.المنطق والتوقع ان الأديب يزداد خبرة وممارسة، يتسع عالمه الثقافي والفكري، تتنوع تجربته الحياتية، تتعمق قدراته الصياغية وتنمو قدرته على نقد اعماله بنفسه.
لا اعمم هذه الظاهرة رغم كونها واسعة جدا.
من هنا بدأت أتردد في تناول الأعمال الأولى للأدباء الشباب ، الغريب انهم اختاروا الشعر تحديدا وليس الوانا ادبية أخرى.. القصة القصيرة مثلا. حتى اليوم لا اعرف كتاب قصة ناشئين وآمل ان اكون مخطئا.
لا يمكن تجاهل ما أنجزه شعرنا الفلسطيني المقاوم واحتلاله الصدارة الشعرية العربية ، بصفته عاملا جاذبا بقوة لإختيار الشباب للكتابة الشعرية، بعضهم بلا موهبة اطلاقا، بعضهم يبشرون بالخير، والمهم ان لقب شاعر أصبح الهدف وليس الإبداع نفسه.
هذه الأفكار راودتني حين اهدتني ابنة مدينتي الناصرة، الشاعرة الشابة لبنى فريد دانيال، ديوانها الشعري الأول "خطى" (تبين لي قبل نشر المقال انه ديوانها الثاني) وهي عاملة اجتماعية أيضا، وكنت قد قرأت لها العديد من القصائد في صحف ومواقع محلية.
لباكورة الأعمال الإبداعية حماسة خاصة واستقبال خاص. من حق الأدباء الشباب ان يغضبوا لقصور حركتنا النقدية في التناول الجاد لأعمالهم. المؤسف أكثر ان تناول الإبداعات الأدبية بالنقد يتميز أكثر بتكريس جهد الناقد لتسجيل اعجابه وانبهاره . هل هذا حقا ما ينتظره المبدعون؟ ان يصلوا للقمة باوهام يزرعها ناقد بظن خاطئ ان التصفيق يدعم مسيرة الأديب الابداعية؟
لست ناقدا في معالجاتي وأميل لتسمية كتاباتي مراجعات ثقافية. كتابتي انطباعية اساسا وفكرية في مضمونها.النص الذي لا يمرر لي فكرة ما أو رؤية جمالية معينة لا تثيرني صياغاته وديباجاته مهما تفنن صاحب النص بنحت الكلام.
لا يوجد ابداع كامل.صفة الإبداع الكامل للنصوص موضوع النقد، هو ما يطرحه معظم نقدنا للأسف.لست ضد الإشادة، لكن جعلها صفة مطلقة هو تجاوز للمنطق الثقافي البسيط.
"خطى" لبنى دانيال واستقبالنا للديوان بحماس هو من منطلق البدايات اولا، والجهد الجاد في نصوصها.بغض النظر عن مدى اقتحامها للفضاء الشعري.وقراءتي هنا مشروطة بعوامل عديدة. وككاتب يعتمد الانطباع الشخصي، ارى ان لبنى تملك مقومات وادوات وخيال له اهميته في استمرار مسيرتها الشعرية. في ديوانها تضع اللبنات الأولى لمسيرة الف ميل تبدأ ب "خطى" اولى.
انا لا ارى بمجرد صياغة النص الأمر المقرر.ابحث عن رؤية ثقافية ، فكرية، اجتماعية، انسانية،فنية، جمالية ولغوية. ابحث عن رؤية فلسفية لمفهوم الشعر ومعرفة صقله في قصيدة تخاطب ليس المشاعر الصماء فقط، انما العقل الواعي أيضا.ابحث عن الصور الشعرية، التي بغيابها يفقد العمل الشعري الكثير من جمالياته.
لم نولد كتابا وشعراء.خيارنا للنثر او للشعر جاء كخيار تعبيري عن الذات.هذا يتجلى بقوة في بداياتنا.لماذا الشعر وليس النثر؟ سؤال ليس من السهل الاجابة عليه، رغم كل اجتهادات تحليل الدوافع.أحد الأدباء ذهب لتفسيرات فرويدية ، الحب للشعر يولد مع العربي من المهد (؟؟)، كان تفسيره ممتعا.ولكنه لا يتجاوز المتعة السريعة.لا شك ان التراث الشعري العربي شكل جوهر الثقافة العربية في جميع عصورها. ابداع العرب في الشعر لا منافس له. كان الشعر لسان العرب. سجل ايامهم، مغامراتهم، حروبهم وتعبيرا عن ذاتيتهم في الوقت نفسه.
البعض يختار الفن، الرسم التمثيل،الموسيقى أو النحت. البعض يختار العلوم او الأبحاث . البعض لا يكتفي بخيار واحد.
السؤال: هل الخيار للون ما هو الخيار الطبيعي الذي يتسرب للوعي الشخصي مشكلا قيمة تعبيرية لا فكاك منها في مسيرة حياة المبدع؟
هل بالصدفة ان شعراء المقاومة محمود درويش وسالم جبران وسميح القاسم بداوا كتابة الشعر مع بداية تفتح وعيهم وقبل ان يعوا معنى ان يكون الإنسان شاعرا؟ اليست هذه حالة للتعبير عن الذات ، عن الأحلام، عن الأماني ، وحالة من التأثر بابداعات شعراء من التراث ومن العصر الحديث بنفس الوقت؟ نحن هنا امام ظاهرة هامه من اتساع الوعي الانساني لشعراء المقاومة الطليعيين، الفردي والجماعي الى جانب الوعي الجمالي. ويمكن القول انه جيل عاش أحداثا مأساوية شكلت مضمون وعيه وشخصيته ورؤيته العامة.
ربما أطلت في مداخلتي، اعترف ان ديوان "خطى" دفعني لهذه المداخلة لأقول أمرين اساسيين. أولا نحن نقف امام شاعرة شابة يشكل الشعر اسلوبها وادواتها في التعامل مع محيطها. ديوانها يشمل مواضيع بالغة الاتساع. عمليا كل ما يحيط بالانسان من مواضيع وأفكار.لبنى لا تعيش بانقطاع عن واقعها، تندمج بواقعها وتعبر عنه شعرا. تفرح حين يكون للفرح وقته، تبكي حين لا يكون مفر من البكاء، تغني حين يكون الغناء تعبيرا عن حالة لا بديل للغناء تعبيرا عنها. تثبت انها شاعرة جادة، خيارها للشعر ليس خيارا طارئا.
ثانيا لفتت انتباهي انها لا تسترسل في قصيدتها ، بظن يسيطر على بعض المبتدئين ان الشعر هو المعلقات الطويلة، هذه متاهة بالغة الخطورة .
التقاسيم التي تقدمها لبنى هي تعبير كامل لا يرهق القارئ ولا يبعده عن الفكرة.اسلوبها في التقاسيم القصيرة، ينقذها من الاسترسال والترهل، الآفة التي نلحظها في الكثير من ابداعات الشباب. تحافظ على انتباه القارى ليتواصل معها شعريا، حتى لو كانت بعض الصور الشعرية ضعيفة. بالطبع هذه تجربة اولى نستقبلها بترحيب ، ونطمع لرؤية أعمال شعرية أكثر اكتمالا خاصة في بناء الصورة الشعرية.
في قصيدة ابتهال تقول:
يا وطني
لو كان بمقدرتي
لهدمت السور
وعمرت الأرض البور
رغم ان المباشرة تميز معظم قصائدها، وجميع المبتدئين لم يتخلصوا في بداياتهم من المباشرة، الا اننا نلاحظ انها تحافظ على الحلم الشعري.
الأرض تشكل في ديوانها احد المواضيع التي تتعامل معها من جوانب عديدة وهي ميزة لشعرنا الفلسطيني منذ نكبة شعبنا.وما زالت تشكل مشكلة المصير الفلسطيني الأولى.
الأرض في قلوبنا
حب المكان
حب الزمان
تاريخ وعصور
وفلك يدور.
اعجبتني قصيدة اماه، بما تحمله من حس وتعابير تمس شغاف قلب كل انسان:
اراك كلما أيقظت الورد ولملمت الندى
الى ان تقول:
اريد ان اهديك فجرا ملونا
يمشي على امواج مهجتي ورمشي..
اماه اعيديني طفلة تغني كالشحرور
في حاكورة دارنا..
وهل يمكن ان لا يتغزل الفلسطيني بالوطن؟
لا زلت احبك بلادي
يا أحلى من الطير الشادي
القتل الدامي
يضنيني
يشرع أشرعة فؤادي
لطفل يبكي وينادي
أمي!
لا بد ان تبتعد لبنى عن المباشرة بحذر شديد.المباشرة لعبت دورا كبيرا في شعرنا في سنوات بعد النكبة.المباشرة تضعف الحلم الشعري.
لبنى تثبت أمرا اساسيا ، تملك ادوات الشعر واللغة الشعرية، تتميز بلغة سلسة بلا تعقيدات يلجأ اليها البعض بظن انها تعمق مضامين شعرهم. لبني رقيقة في معانيها، تملك وعيا سياسيا واضحا، وتملك فكرا متنورا يمكن ان تعتمد عليه في احداث انطلاقة شعرية في مسيرتها.
ننتظر جديدك دائما.
nabiloudeh@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق