بقلم: فهد الريماوي
قبل ستة عقود دار فيها كوكب الارض ستين دورة حول الشمس، تمخض الضمير الوطني المصري فانجب ثورة 32 يوليو التي قوضت مملكة الفساد والاستبداد في مصر، وبددت عتمة الليل العربي الذي اعقب نكبة فلسطين، واسست لنهضة قومية غيرت وجه الشرق الاوسط، وشكلت حاضنة وداعمة وقوة مثال لعشرات الثورات الآسيوية والافريقية·
قبل ستة عقود بزغ فجر جمال عبد الناصر، واشرقت شمس الثورية العربية، بدءاً من ثورة الجزائر ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، ومروراً بثورة العراق ضد الارتهان للمستعمر البريطاني، وثورة اليمن ضد التخلف المغرق في ظلام القرون الوسطى، وثورة فلسطين ضد الاحتلال الصهيوني المدجج بالمزاعم التوراتية·· وغير ذلك كثير·
قبل ستة عقود امسك عبد الناصر بناصية المستقبل، ومفاتيح التاريخ، ومقاليد الامور المصرية والعربية وحتى الدولية·· وضع العروبة على خارطة العالم، واوجد للعرب مكاناً تحت الشمس، ووضعهم في مصاف ارقى الامم والشعوب، وفتح لهم ابواب المجد والعزة والكرامة، وخاض بهم ولحسابهم اشرف واشرس المعارك التي نقلتهم من الظلمات الى النور، ورفعتهم من قيعان المذلة والتبعية الى ذرى الشموخ والنهوض والتحرر والحرية·
في هذه المناسبة لن نعدد ونمجد انجازات عبد الناصر وثورته، ولن نبرر ونفسر اسباب ما لحق هذه الثورة من نكسات واخفاقات، نظراً لان الكل العربي بات في صورة هذه وتلك·· وانما نود ان نشير الى ماهية هذه الثورة وخصوصيتها وطبيعتها العبقرية التي استطاعت، في حالي الانتصار والانكسار، ان توفر لها زخماً متجدداً يعصمها من الخمود والترمد، وشعبية واسعة تعينها على تجاوز المحن وتخطي العقبات، وبوصلة تاريخية مرهفة تتيح لها دقة التصويب، وتهديها الى سواء السبيل·
لقد تميزت ثورة 32 يوليو بعنفوان الروح الوطنية، وانصرفت منذ البداية لانتزاع الاستقلال، وتحقيق جلاء قوات الاحتلال البريطاني عن قناة السويس وباقي التراب المصري، فقد كانت في المبتدأ والاساس ثورة تحرر وطني تستهدف اطاحة الاستبداد الملكي والاستعمار البريطاني معاً، قبل ان تكتسب ابعاداً جديدة تتمثل في النزوع القومي العربي، والالتزام بالعدل الاجتماعي، والانخراط في ملحمة تنموية ونهضوية شاملة نقلت الاغلبية المصرية الكادحة والمكافحة من حال الفاقة والعسرة الى نعيم اليسرة والوفرة·
منذ انطلاقتها قبل ستين عاماً، جاءت ثورة 23 يوليو ملبية لطموحات الشعب المصري، ومعبرة عن قناعاته، بل معززة وراعية لهذه الطموحات والقناعات، وذلك خلافاً لما يجري هذا الاوان من تزييف وتحريف للطموحات والقناعة الشعبية المصرية التي يراد لها مصادقة امريكا، ومهادنة اسرائيل، ومصاهرة الرجعية الوهابية التي زعم الرئيس محمد مرسي انها "حاضنة الاسلام السني، بينما مصر هي حاميته"·· الامر الذي يشي باننا على ابواب فتنة كبرى بين المذهبين السني والشيعي·
لم يعد خافياً على الكثير من المتابعين والمراقبين السياسيين، ان التشجيع الامريكي لوصول مرسي واخوانه الى سدة الحكم المصري، لا يأتي على سبيل المجاملة، او من قبيل المنحة او الهدية المجانية، وانما يتوخى اصابة عدة عصافير بحجر واحد، اولها ضرب الاسلام من داخله عبر اثارة النعرات المذهبية، وثانيها تصويب سهام العداء العربي نحو ايران بدل اسرائيل، وثالثها نفي الحركة الناصرية من الوجود ومحو ثورة 23 يوليو من ذاكرة التاريخ·
شتان بين ثورة 23 يوليو التي اعادت مصر الى عروبتها، ووضعتها في طليعة امتها، ومكنتها من تصدر دول عدم الانحياز، ومن هزيمة فرنسا وبريطانيا في حرب السويس·· وبين ثورة 25 يناير المسلوقة والمسروقة التي باتت قيادتها الاخوانية تسير على الحساب الامريكي، وتتعهد باحترام معاهدات كامب ديفيد، وتتلاعب بالمشاعر المذهبية والطائفية، ولا تخجل من الالتحاق علناً بالرجعية السعودية والمشيخات الخليجية·
صحيح ان ثورة يوليو لم تلتزم بمعايير الديموقراطية السياسية، وفق التعريف الليبرالي الشائع، ولم تأخذ بمبدأ التعددية الحزبية والنيابية، ولكنها فعلت ذلك ليس طلباً لاحتكار السلطة، او حباً في الاستئثار والدكتاتورية، بل قرفاً من مرحلة الاسفاف الديموقراطي التي سبقت قيام الثورة، واتسمت بفساد الاحزاب، وتزوير الانتخابات، وتدخل الملك والانجليز السافر في تشكيل وترحيل الحكومات·
الاهم من ذلك ان ثورة يوليو التي تميزت بقيادتها الكاريزمية الساطعة، كانت صاحبة مشروع وطني وقومي وتقدمي شامل وعظيم يحتاج الى اكبر عمليات الجمع والتعبئة والتحشيد الشعبي العام، ضمن اطار تنظيمي جامع ومؤهل للنهوض بهذا المشروع الطموح الذي وفر للمواطن المصري معيشة لائقة وحياة كريمة، فيما اتاح للدولة المصرية ان تلعب دوراً عربياً وعالمياً بالغ الاهمية والفاعلية·
كانت مصر في عهد عبد الناصر دولة دور ورسالة·· كانت دولة قائدة ورائدة ومحورية يُشار اليها بالبنان، ويُحسب لها الف حساب، ويُسمع صوتها في سائر المحافل الاقليمية والدولية·· فقد ادرك عبد الناصر ان هذا ما يليق بمصر الجغرافيا والتاريخ·· مصر الازهر والاهرام·· مصر تُحتُمس وصلاح الدين ومحمد علي·· مصر التي ما عرفت طوال تاريخها الحل الوسط، فاما الشموخ واما الرضوخ ولا شيء آخر·
في ذكرى انطلاقتها الستين، نود ان نؤكد ان ثورة يوليو مازالت حاضرة في اروقة الحاضر، وماثلة في آفاق المستقبل، ومؤهلة للاسترجاع والاستئناف، وقابلة للتطوير والتحديث وفق معطيات الزمن الراهن وقياساته ومستجداته، ولن يكون في صالح الرئيس الاخواني الطازج التنكر لهذه الثورة، والسعي الى الثأر والانتقام منها، واهالة التراب على صفحاتها وانجازاتها، ولعل له في مصير المرتد انور السادات، والمعتوه حسني مبارك اللذين افتئتا عليها اكبر مثل وعبرة·
يكفي ان يتذكر هذا الرئيس وجماعته، ان المرشح الناصري حمدين الصباحي المفتقد للتمويل السخي والتنظيم القوي، قد حصل بقوة الحضور الشعبي للناصرية على ما يقارب الستة ملايين صوت، وهو رقم لا يقل كثيراً عما احرزه مرشح المجلس العسكري، احمد شفيق، او مرشح جماعة الاخوان محمد مرسي بذاته وكامل صفاته·
وفي الختام، تحية عربية كاملة الدسم لثورة 23 يوليو المسافرة، منذ ستين عاماً، في مسافات المجد، والمحفورة ابد الدهر في قلوب الاجيال العربية المتوالية، والعصية على الالغاء والاحتواء والتشويه والتهميش، رغم تكالب القوى الرجعية والصهيونية والامبريالية عليها لعدة عقود·
وسلام على قائد هذه الثورة وربانها الخالد الذي ارتأى ان التحرير مُقدم على الحرية، وان الاشتراكية مفضلة على الديموقراطية، وان الوحدة الوطنية والقومية سد يحول دون اية محاور واصطفافات طائفية او مذهبية او اقليمية·· ولا نامت اعين دهاقنة الثأر والثورة المضادة والاستماتة على السلطة !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق