انتهت مهزلة الانتخابات المفبركة، وانتهى معها الصراع بين عملاء الاحتلال ومتزعمي كتل الطوائف، حول مقاعد البرلمان، ليبدأ صراع اخر حول مقاعد الحكومة، وهذا قد يتطلب وقتا اطول وربما اكثر عنفا. فالفوز بواحدة منها يجعل من الفقير المعدم مليونيرا او مليارديرا بغمضة عين. على عكس الدول الديمقراطية تماما، حيث تتنافس فيها الاحزاب والشخصيات المرشحة باساليب سلمية وحضارية لكسب الاصوات، من خلال عرض برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وخططها لقيادة البلاد نحو مزيد من التقدم والرقي.
وكان اكثر ما يحزن في هذا الصراع، انه تعدى حدوده ليشمل عموم الشعب العراقي، او بمعنى اوضح وادق جرى توظيف الدم العراقي البريء في هذا الصراع، وقد نجد نموذجا صارخا عنه في الاتهامات المتبادلة بين الاطراف المتصارعة بعد كل تفجير يحدث في هذه المدينة او تلك، بالضبط كما حدث في الانتخابات السابقة والتي قبلها. بل ان نوري المالكي ذهب ابعد من ذلك، ورفع سقف التفجيرات والمفخخات المحدودة، لتصل حد يدخل في خانة الابادة الجماعية، عبر استخدام كل ما لديه من الة عسكرية واسلحة مشروعة وغير مشروعة، حيث شن حربا عدوانية ظالمة ضد محافظة الانبار، ومدينة الفلوجة على وجه الخصوص، وصفها، دون حياء او خجل، بانها "حرب من اجل حماية الشيعة الامنيين في المناطق الجنوبية، من اهل السنة الارهابيين في المناطق الغربية". ولكي يضمن مزيد من اصوات الشيعة، حسب اعتقاده، وصفها في تصريح اخر بانها "حرب جيش الحسين ضد جيش يزيد".
جراء هذا الصراع الدموي على الجاه والمال من جهة، والاصرارعلى فوز ذات الوجوه الكالحة التي دمرت البلاد والعباد من جهة اخرى، كان من المفترض ان يتوصل العراقيون الى قناعة راسخة بعدم جدوى الانتخابات، وخطل المراهنة عليها وعبثية الاشتراك فيها، ورفض الحكومة التي ستنتج عنها، بل ورفض العملية السياسية بكاملها. لكن شيئا من هذا القبيل لم يحدث. حيث لم تزل فئات واسعة من الناس راضية عن هذه النتائج، وتعول عليها كثيرا وعلى الحكومة التي ستنتج عنها، وعلى وجه الخصوص على نوري المالكي، رغم كل جرائمه وكذب وعوده. ولم تزل ايضا تراهن على التغيير والاصلاح على يد هذه العصابة المجرمة. وهذه حقيقة لا يجوز، رغم مرارتها، انكارها او الهروب منها، او تجاهلها او التفكير بتجاوزها.
ومما يزيد الامر سوءا، او يزيد الطين بله، كما يقال، دخول عناصر متعددة ومختلفة ومؤثرة تعمل ليل نهار، وبكل ما لديها من امكانيات وقوة،على تعزيز مثل هذه الاوهام وترسيخها في العقول، او على الاقل تخديرها بمادة الانتظار. فبالاضافة الى وسائل الاعلام التي ترسم الصور الوردية عن العرس الانتخابي والبرلمان والحكومة القادمة، واقتراب يوم الخلاص من المعاناة، والفوز بالجنة الموعودة، برز دورالمرجعيات الدينية لاستكمال حملة التضليل والخداع هذه، فكما وقفت هذه المرجعيات، الفارسية الهوى والانتماء، الى جانب المحتل وافتت بعدم مقاتلة قواته وتسترت على جرائمه وساندت حكوماته، فانها تدعو اليوم جميع الناس،عبر خطب ايام الجمع، الى التفاؤل والقبول بنتائج الانتخابات، وتعهدت لهم كذبا مقابل ذلك بانها ستجبر الحكومة القادمة على تعديل مسارها باتجاه الاصلاح وتقديم جميع الخدمات الحياتية للمواطن، الى جانب توفير الامن والاستقرار. وعلى البيعة كما يقال، دفع المحتل مجاميع من المرتزقة والوصولين والانتهازيين، الى تمجيد الانتخابات الوردية وصناديقها الخضراء والتغزل بالاصابع البنفسجية وتعداد مناقب الفائزين، والتعويل على القادمين الجدد. وهؤلاء، كما نسميهم باللهجة العراقية، "اللكامة او الدنبكجية"
امام هذه الحالة الماساوية، وجراء الاكاذيب وحملات الخداع والتضليل لتغيير الحقائق والوقائع، وبسبب التاثير السحري لمبدأ الانتخابات، واستغلال حرمان الناس من ممارستها طيلة عقود طويلة من الزمن، لا بد من تعرية هذه الاكاذيب وابراز الحقائق والوقائع كما هي، لا كما يروج لها المحتل الامريكي وعملائه واتباعه ومريديه، ولكي لا نطيل اكثر، وباختصار شديد جدا جدا، فالانتخابات في العراق، ايها الناس، لم تجر من اجل بناء عراق جديد يفيض لبنا وعسلا، ولا من اجل تاسيس نظام ديمقراطي، ولا هي وسيلة لاشتراك الناس في السلطة وفي كافة المؤسسات ومرافق الدولة على اساس المواطنة والكفاءة والولاء للعراق، وليس على اساس الدين او الطائفة او المذهب او العرق او اللون الخ. ولا هي صممت فعلا من اجل تداولية السلطة سلميا عبر الاحتكام الى صناديق الاقتراع، وانما جرت هذه الانتخابات من اجل توفير الية سياسية ذات صفة ديمقراطية تمكن امريكا من حكم البلاد بطريقة غير مباشرة، بعد فشلها في تحقيق ذلك بطريقة مباشرة، مرة عبر الحاكم العسكري جي كارنر، واخرى عبر الحاكم المدني بول بريمر. بمعنى اخر، فان هذه الانتخابات صممت لتكون وسيلة وستار لتمرير مشروع الاحتلال وتكريسه لعقود طويلة من الزمن، وليس هدفا لبناء دولة ديمقراطية. واذا لم يكن الامر كذلك لكان علينا جميعا تصديق ما قاله الامريكان بان قواتهم جاءت الى العراق محررة وليس محتلة.
ولكن هذا ليس كل شيء، فالحكومة القادمة ستكون لا محال امتداد للحكومات السابقة، كونها ستعتمد على ذات الوجوه التي اتى بها المحتل علنا ونفذت بحمية مشروعه العدواني وفي مقدمته تدمير العراق دولة ومجتمع. بل وستقوم على ذات الاسس الطائفية والعرقية، التي قامت عليها الحكومات السابقة. بحيث يكون رئيس الجمهورية كردي ورئيس الوزاء شيعي ورئيس مجلس النواب سني، ليمتد نظام المحاصصة هذا الى جميع مؤسسات الدولة من كبيرها الى اصغر دائرة حكومية فيها، والانكى من ذلك هو ان من يقرر المحاصصة وحصصها وتوزيعها ليس اصحابها، وانما يقررها الامريكان وملالي طهران بالتراضي، وهذا ما يفسر انتقال زعماء الكتل الفائزة ما بين طهران والسفارة الامريكية في العراق.
قد يرفض البعض اصرارنا على هذا الاستنتاج كونه ليس قدرا محتوما، وانما بالامكان تغيير نظام المحاصصة الى نظام الاغلبية والاقلية، اي حزب حاكم واخر معارض، خاصة وان المالكي بالذات، الاوفر حظا بتشكيل الحكومة، قد وعد بذلك، وطرح برنامجا بهذا الخصوص سماه "استراتيجية جديدة لانقاذ العراق" تتمحور كما قال حول "تشكيل حكومة ذات اغلبية سياسية تتجاوز نقاط ضعف ومشاكل حكومة الشراكة الوطنية، وصولاً الى تحقيق تطلعات الشعب العراقي في تثبيت الامن والاستقرار والتنمية الاقتصادية كونها ستنطلق من اعتبارات المصالح الوطنية العليا وليس من خلفية طائفية أو قومية".!!!! ولم يكن خصومه اقل منه قدرة على الدجل والتحايل، ففعلوا مثله واكثر.
لن نجادل بهذا الخصوص، ونتفق بان ليس هناك قدرا محتوما من حيث المبدا، وخاصة في السياسية، وانما بالامكان حدوث تغيير حتى في عقول الناس وتوجهاتهم. واحيانا قد تضطر جهة حاكمة الى التغيير لضمان بقاءها في السلطة. لكننا نجادل وبقوة بان وجهة النظر هذه تتطلب، اكثر من اي وقت مضى، النظر الى الوقائع الفعلية ومعالجتها كما تجري حقا وليس كما تبدو او نتمنى احيانا ان تبدو. فاذا حدث وجرى تشكيل حكومة تعتمد نظام الاغلبية والاقلية، فهذا سيصطدم مع الارادة الامريكية واصرارها على ترسيخ المحاصصة الطائفية لاسباب معروفة. وقد نجد انعكاسا لهذه الحقيقة في تصريحات باراك اوباما، راعي العملية السياسية رسميا وقانونيا، التي اكد فيها لرئيس الوزراء القادم، بان تشكيل الحكومة الجديدة يجب ان ترضي جميع الاطراف وتكون حكومة شراكة للجميع، وهذه التوصية في حقيقتها وبهذه الصيغة هي كلمة السر للمحاصصة الطائفية. وقد اثبتت الوقائع والاحداث بان حكوماتنا العتيدة لا تجرا على رفض طلبا امريكا، بهذا المستوى، لانها حكومات احتلال، تعمل من اجل المحتل وليس من اجل شعوبها، وبالتالي فانه ليس بامكانها الاعتراض او حتى تقديم المقترحات. الم يعترف احمد الجلبي، بالصوت والصورة، بان حكومة المالكي الثانية قد جرى تشكيلها في السفارة الامريكية بحضور جميع الاطراف وفق نظام المحاصصة البغيض؟.
دعونا نسترسل اكثر ونفترض بان المالكي او غيره تجرا، بقدرة قادر، على طرح مثل هذه التعديلات الجوهرية، ترى من سيوافقه على ذلك؟ هل هم جماعة اياد علاوي، ام صالح المطلك، ام اسامة النجيفي؟ هل هو تيار مقتدى الصدر او حزب الفضيلة ام فيلق غدر؟ واذا افترضنا ووافق كل هؤلاء، فهل ستوافق الاحزاب الكردية، المستيفدة رقم واحد من الدستور ونظام المحاصصة، وهي التي تملك بيدها حق استخدام الفيتو الذي منحه الدستور لها ضد اي تعديل ؟، ثم من له الجرأة او الاستعداد لان يضع نفسه في مواجهة امريكا، وهي الحريصة اشد الحرص على تكريس نظام المحاصصة هذا وعدم المساس به لا من حيث الجوهر ولا من حيث الشكل؟.
دعونا نسترسل مرة اخرى ونسير مع الكذاب الى حد الباب كما يقال، ونعتبر انجاز كل ذلك سيتم في غضون ايام او اسابيع، ترى الا يتطلب الاصلاح والتغير الذي راهن عليه المنتخبون وجود دولة وطنية مستقلة وذات سيادة وتملك قرارها المستقل ولا تخضع لاجندات خارجية، وان القائمون عليها رجال يتصفون بالوطنية والاخلاص والنزاهة، وليس عملاء ومرتزقة وعمائم مزيفة، لكي تكون مؤهلة للقيام بهذه المهمة النبيلة؟.
سنفترض وجود دولة في العراق، كونها تتوفر فيها حكومة ووزارات وبرلمان وجيش وشرطة وقضاء ومحاكم الخ، لكن الا يدخل كل ذلك في نطاق مكونات الدولة، وليس مقوماتها. ومعلوم حجم الفرق الكبير بين مكونات الدولة ومقومات الدولة. لناخذ الدستور مثلا ، كونه الركن الاول في هذه المقومات، لانه يمثل الاطار العام للدولة الذي يحدد هويتها، وشكل النظام فيها، وينظم سلطاتها العامة، ويرسم العلاقات فيما بينها، ويضع الحدود لكل سلطة على حدة، ويعين الواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، ويحرص بالمقابل على ضمان استقلال البلد وسيادته الوطنية ووحدة اراضيه ويحافظ على ثرواته الطبيعة الخ، ترى هل الدستور الدائم في العراق، يستحق هذا الاسم؟ ام انه دستور خرب البلاد والعباد باعتراف حتى الموقعين عليه؟.
جراء هذه الحالة المزرية التي وصلت اليها العملية السياسية، والسقوط السياسي والاخلاقي لعملاء الاحتلال، والدمار والخراب الشامل الذي عم البلاد بسببها، والفواحش والجرائم التي ارتكبت بحق الناس، والعجز في تقديم الخدمات والامن، الى جانب حالة الاستياء التي عمت الشعب العراقي ضد هذه العملية وجلاوزتها، وبسبب عدم القدرة على التغيير من داخل العملية السياسية، ، جراء ذلك كله، فان اي مراهنة على تغيير العملية السياسية من داخلها سواء عبر الانتخابات او غيرها من الوسائل السلمية، او تغيير هذا الرئيس او ذاك ضرب من الخيال، بل يدخل في خانة المستحيلات. وعليه فانه لا طريق امامنا لتخليص العراق وشعبه الا بالمقاومة بكل اشكالها، وفي وقتنا الراهن اعتماد المقاومة المسلحة التي نجد نموذجها في الثورة المسلحة في محافظة الانبار وتطويرها لتشمل بقية محافظات العراق، وعلى وجه السرعة، وخاصة المحافظات الثائرة على الحكومة في العراق. هذه هي الحقيقة من دون لف ولا دوران. ومن يعتقد غير ذلك ستكشف له الايام بانه لفي ضلال مبين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق