هكذا بدأت القصة؛ كلب ناطق في بغداد عرضه صاحبه للبيع مقابل 10 دولارات. أدهشت قدرات الكلب الشخص الذي رغب بشرائه، وطلب اختباره على انفراد.
وافق صاحب الكلب على مضض، وانطلق الكلب حال انفراده بالمشتري في سرد أحداث غريبة ادّعى أنه شهدها، خلال عمله في «وكالة المخابرات المركزية الأميركية»، وقال إنه زُرع في القصر الجمهوري ببغداد للتجسس على أسلحة الدمار الشامل. وذكر وهو يلهث تفاصيل بالأسماء والتواريخ عن أسرار خطيرة نقلها إلى واشنطن.
وعملاً بالمثل البغدادي «إذا صار شغلك عند الكلب سمّيه عوعو أفندي» توجه المشتري إلى «عوعو أفندي» متسائلا: «أما منحوك أوسمة وميداليات عن أعمالك المجيدة؟»،
قال الكلب: «لا، بالعكس طردوني من الشغل لأني رفعت تقارير تنفي تطوير العراق أسلحة الدمار الشامل».
قصة الكلب استهلّت مقالتي المنشورة هنا بعنوان «ملاحقة العراقيين المسؤولين عن توريط أميركا بالحرب»، وعرضت المقالة شهادات عاملين في وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية(DIA) عن تلفيق أحمد الجلبي وجماعته المعلومات حول امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل. وكانت شهادة ديفيد فيليبس، نائب مدير «مركز العمل الوقائي» في مجلس الشؤون الخارجية في الإدارة الأميركية حول دور الجلبي في «حل الجيش، وفراغ السلطة، وما نجم عنه من أعمال النهب والتخريب ومهاجمة القوات الأميركية». مقالات أخرى منشورة في الشهور الأولى للاحتلال تابعت الموضوع، إحداها بعنوان «أين اختفى صانع قنابل صدّام الذرية؟»، وكانت عن أحد أبرز جماعة الجلبي، وهو خضر حمزة الذي استُخدم كتابه «صانع قنبلة صدام» كمصدر في مطالعة كولن باول الشهيرة أمام مجلس الأمن عشية الحرب، وكذلك في «ملف أسلحة الدمار الشامل العراقية» الذي أصدرته الحكومة البريطانية. وتناولت مقالة «مغتربون عراقيون يسرقون بلدهم مرتين» ما سُمِّي «لجنة إعادة الإعمار والتطوير»، والتي عمل فيها أكثر من عشرة أكاديميين وخبراء عراقيين عيّنهم بول وولفيتز، مساعد وزير الدفاع الأميركي، وأشرس أعضاء اللوبي الصهيوني الذي خطط وعمل على تنفيذ الحرب ضد العراق.
وبمناسبة مرور عشر سنوات على الحرب يُعادُ فتح ملفات المثقفين المتورطين بالكارثة. مقالة «خيانة المثقفين» للكاتب الأميركي كريس هيجز، تناولت دور النخبة الأميركية المثقفة، والتي يدّعي بعض أفرادها الآن أنهم «ناهضوا الحرب، وهذا غير صحيح»، فيما يؤكد آخرون أنهم «لو كانوا يعرفون ما يعرفونه الآن لتصرفوا بشكل مختلف، وهذه كذبة طبعاً». وركّز هيجز على من يسميهم «المثقفون اللبراليون الصقور»، وبينهم هيلاري كلنتون، وجون كيري، وكُتّاب، مثل نيكولاس كريستوف، ومايكل أغناتييف، وتوماس فريدمان، وكنعان مكيه... وذكر أنهم جميعاً تصرفوا بدافع مصالح شخصية، ولمعرفتهم أن مناهضة الحرب قد تُدمر مهنهم، ولم يكتفوا بتأييدها، بل شنّوا هجمات مركزة على كل مناهضي الحرب، الذين «تلقى كثير منهم تهديدات بالقتل والفصل من العمل»، وكان هو بين من فقدوا عملهم في «نيويورك تايمز». واستُخدمتْ مؤهلاته ضدّه، بدلا من أن تؤخذ شهادته بالاعتبار لإتقانه العربية، وخبرته 15 عاماً كمراسل قضى سنوات عدة منها في المنطقة العربية، وبضعة أشهر في العراق. و«بعد عشر سنوات من الحرب، لا ينبس دعاة الحرب اللبراليين بكلمة عن إفلاسهم الأخلاقي ونفاقهم المتخم، وأياديهم الملطخة بدماء مئات الألوف من الناس الأبرياء».
وذكر هيجز أن النخبة الأميركية المثقفة، الليبرالية خصوصاً، كانت مستعدة دائماً للتضحية بالجدارة والحقيقة لأجل السلطة والتقدم الشخصي، والحصول على هبات صناديق الدعم المالي، والجوائز، وألقاب الأستاذية، وكتابة الأعمدة، وعقود تأليف الكتب، والظهور بالتلفزيون، وأجور المحاضرات السخية، والمكانة الاجتماعية. «هم يعرفون ما ينبغي عليهم قوله، ويعرفون الأيديولوجية التي عليهم خدمتها، ويعرفون ما الأكاذيب التي ينبغي أن تقال. لقد كانوا في هذه اللعبة منذ زمن طويل، وهم مستعدون، إذا تطلبت مهنتهم ذلك أن يبيعونا مرة أخرى بسرور».
وفيما تواصل كلفة حرب العراق الارتفاع، وآخر تقدير لها ستة تريليونات دولار، ينتحر كثير من المجندين الأميركيين السابقين، لمعاناتهم من «الإصابات اللاحقة للصدمات». ذَكَرت ذلك الإعلامية الأميركية «آمي غودمان» في برنامج «عشر سنوات على حرب العراق» عرضه تلفزيون أونلاين «الديمقراطية الآن».
ويستمر فتح ملفات تعذيب العراقيين، حيث قدم أخيراً 147 مجنداً بريطانياً سابقاً شهاداتهم حول الانتهاكات المرتكبة في معسكر «ناما» في مطار بغداد الدولي، وذكروا أن المعتقلين العراقيين كانوا يسجنون فترات طويلة مكممي الوجوه في زنزانات بحجم أوجار الكلاب، ويُعذّبون بصعقات كهربائية، وتُنتزع الأطراف الصناعية للمعوقين منهم ويضربون بها.
مقابل ذلك نالت نخبة مثقفي العراق المناصرين للاحتلال كعكة أدسم بكثير من كعكة زملائهم الأميركيين؛ فالمرتبات الفاحشة لمن أصبحوا وزراء، وسفراء، وأعضاء برلمان، تُعتبرُ ملاليم بالمقارنة مع ما حصل منهم على عقود تسليح، وامتلك مصارف، وشركات أمنية. وغالباً ما يُستهانُ بدور الخبراء والمثقفين العراقيين الذين عملوا للغزو والاحتلال على اعتبار أنه «ما زادَ حَنُّون في الإسلام خردلة ولا النصارى لهم شغل بحَنُّون». وهذا غير صحيح. فالحروب والنزاعات تولد في الأفئدة والعقول، وهذه للأسف «حَرَمُ» نخبة المثقفين. ولو أنهم جَنّدوا قدراتهم السياسية والذهنية في تأليف «البيان الوطني» بدلاً من «البيان الشيعي»، الذي حمل أكثر من 300 توقيع، أما كان يمكن الحفاظ على النسيج الوطني من هذا التهتك المهلك. والكلمات، كما يقول الأديب البولوني جوزف كونراد «تنقل بعيداً، وبعيداً جداً، أعمال التدمير عبر الزمان كالرصاصات تندفع محلقة عبر المسافات».
وعلى مدى سنوات كان كل من ينبه إلى مخاطر الطائفية، ولو بالنكتة، يُعتبرُ صدّامياً، أو أسوأ من ذلك؛ «سنياً متطرفاً». ووَجَدت المقاومة الوطنية المسلحة نفسها في مأزق فتّاك، لقد تترّس الاحتلال بقوات أمن طائفية وأجهزة حكم طائفية، إن تضربها تضرب «جماهير المستضعفين»؛ هنا وليس في أي مكان آخر اشتعلت جذوة «الحرب الطائفية» التي ذبحت أضعاف ما ذبح الاحتلال. وكما يقول المثل البغدادي؛ «بعد ما توَرِطتْ ترَبِعتْ». يؤكدون الآن على وحدة العراق والدين، فيما تُشعل نيران الطائفية التي أضرموها حرائق عبر المنطقة، ولو أنهم اجتهدوا وجاهدوا لإنشاء «البيت العراقي» وليس «البيت الشيعي»، أما كان ذلك سيحفظ كيان العراق من التداعي، الذي يمتد كالفالق الزلزالي عبر العالم العربي والإسلامي؟
أسئلة مُعذِّبة نُسّلي النفس عنها بخاتمة قصة الكلب الناطق، حين سأل الراغبُ بشرائه صاحبَ الكلب: بسْ أريد أعرف شي واحد... ليش هذا السعر الرخيص 10 دولارات لكلب بهذه المواصفات الخارقة؟! أجاب صاحب الكلب وهو يرتعد غضباً: «أدري أدري... خدعك إنت أيضاً. هذا أكبر كلب كذّاب بالتاريخ. لا عاش بالقصر الجمهوري، ولا اشتغل جاسوس لأميركا... ولا حتى سافر لواشنطن بحياته. عمره كلّه ما طلع من البيت. وكل وقته قضّاه ويّه الكمبيوتر والإنترنت»!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق