بعد سقوط الجدار الدكتاتوري في كثير من بلدان الشرق الأوسط الموبوءة بالأمية السياسية والمصابة بأمراض الشرق المزمنة في القبلية والتعصب الديني أو المذهبي، منذ عقود أو حقب مقيتة من الانغلاق الحديدي في كل مناحي الحياة، بدأت مرحلة من الانفلات أو التحرر غير المقيد أو غير المقنن، حتى وصل ذروته في فوضى لا مثيل لها أطلق عليها أولئك ( البطرانين ) بالفوضى الخلاقة، تجميلا لواحدة من أكثر ردود الأفعال الجمعية والفردية إثارة وجدلا، بعد غياب السلطة وما رافق تلك الانهيارات في جدار الخوف من انفلات ذلك المارد المسجون في قمقم الرعب والتخلف، وما نتج عن ذلك من عمليات نهب وسلب وقتل وانتقام وتخريب، ولعل ابرز ما عكس تلك الفورة أو الفيضان هو ما جرى في فضاء الإعلام، الذي انفلت هو الآخر أو أنعتق أو تحرر بشكل مثير ربما تجاوز أي شكل من أشكال الصحافة الحرة في الدول الديمقراطية العريقة!
ففي معظم بلداننا لم يكن هناك أكثر من قناة تلفزيونية أو قناتين يصاحبهما محطة للإذاعة وفي كل الحالات وان تعددوا فهم ينهلون من منبع واحد هو الدولة وقائدها حزبا أو ملكا أو رئيسا أو عشيرة، وهي بالتالي تمثل هؤلاء وفلسفتهم كما كنا في العراق وليبيا ومصر وتونس وما زلنا في سوريا وغيرها من بلدان الرقص على أكتاف الموت من اجل القائد المفدى والحزب الذي يختزل الأمة؟
وكان معظم المثقفين والخبراء والمحللين والسياسيين محرومين تماما من أي حق تلفزيوني أو إذاعي للتعبير عن الرأي إلا بما يتوافق مع فلسفة الحكم وتوجهاته، بما جعلهم بعيدين جدا عن تلك الوسائل حفاظا على كرامتهم وحياتهم معا، حتى سقطت تلك الأنظمة وفار التنور بحرية لا مثيل لها في إنتاج وسائل التعبير عن الرأي في شتى أشكاله ووسائله، تحقيقا للافتراض أو التحصيل الحاصل لما جرى، حيث انطلقت إلى الفضاء عشرات الفضائيات والإذاعات التي تعبر عن رأي الأحزاب والشركات والأشخاص، وأضعافها من الصحف والمجلات، بأعداد تفوق في مجملها ما موجود في أي دولة ديمقراطية عريقة بنفس عدد سكان هذه البلاد، أو ربما أكثر بكثير من مجموع قرائها أو متابعيها!؟
وخلال عدة سنوات تحولت تلك الوسائل إلى دكاكين إعلاميةبيد تجار ومقاولين لا علاقة لهم بأي شكل من الأشكال لا بالإعلام ولا بالسياسة، إلا اللهم بما يخدم مصالحهم الدكاكينية، فأصبح لدينا نمط جديد من الإعلام الذي يكتب بالقطعة أو بالشبر كما يقولون في مدح فلان أو ذم علان، وإعلامي يحقق مع ضيفه في حوار مفترض للشاشة وكأنه مفوض امن أو محقق فاشل، وبذلك تضيع كثير من ( علائم ) المهنة وافتراضات توصيفها بالمهنية أو المحايدة على اقل تقدير، ومن يرى كتابات أو تقارير بعض الصحفيين عن أي موضوع له علاقة بالجيب يكتشف نوع من البقالة والسمسرة المحترفة التي تنافس أي دلال في سوق مريدي بل تتجاوزه في حنكة المهنة وصفقاتها.
وباستثناء قلة قليلة من هذه الوسائل الإعلامية في العراق، فان كثير من مكاتب الفضائيات والإذاعات والصحف والمجلات تختلس المكافآت المخصصة لضيوفها أو كتابها، مستغلة كثير من الأمور وفي مقدمتها الحياء الشرقي واستغلال شعور الكاتب أو الضيف الإعلامي بأنه لم ينل حقه أو حصته من الإعلام ومخاطبة الرأي العام من خلال الشاشة أو الإذاعة أو الصحافة، والإيحاء له بأنها إنما تظهره أو تنشر له ( تفضلا ) وتشجيعا وبذلك تقوم باختلاس أو سرقة استحقاقه المثبت في مخصصات الموازنة لأي وسيلة إعلام مهما كانت، حيث هناك دائما حقول الأجور والمكافآت التي تشكل جزءً مهما من ميزانية المؤسسة الإعلامية،والطامة الكبرى إن كثير من هذه الوسائل ليست عادية بل أنها قنوات وصحف مهمة جدا ومدعومة بشكل كبير من دول ومؤسسات كبيرة!
حقا إنها دعوة مخلصة لتهذيب مؤسساتنا الإعلامية ورفع مستويات أدائها وشفافيتها ومصداقيتها مع الجمهور ومع من يتعاط معها، وبتقديري فان أي وسيلة إعلامية لكي تكون محترمة وتنال ثقة المتلقي فإنها تحتاج إلى تعامل محترم وشفاف في الأداء المالي والمهني معا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق