أحمد الفلوجي
حين يقال حلّ فصل الربيع في المكان الفلاني فإننا نفهم أن هواءه العليل وزهوره الزاهية والبراعم الجديدة وكل المظاهر المصاحبة ستعم المكان كله ليتمتع بها جميع القاطنين بتلك البقاع، فلا تمييز بين صغير أو كبير ولا غني أو فقير ولا رعية أو أمير؛ بل ولن يكون مشاهدة تلك المظاهر والإحساس بها حكرا على أهل البلاد دون الغرباء وعابري السبيل، فالربيع بما معه للجميع بغض النظر عن الجنس أو اللون أو الدين أو الهوية أو الانتماء.
وهكذا تبادر إلى فهمنا حين سمعنا (الربيع العربي)، فنسبة الربيع إلى كلمة (العربي) تعني جميع من يسكن هذه البلاد فضلا – بل ومن باب أولى – من يحمل الهوية العربية، جميعا وبدون تمييز قُطري، فما حدث لم يطلق عليه (الربيع التونسي، والربيع المصري، وووو)، فهل حقا تمتع العرب جميعا بهذا (الربيع)؟ لن أتحدث باسم الجميع بل سأتحدث عن (العراق) تحديدا وللأسف بلغة (قُطرية) ليس تعصبا بل انتصارا لجزء من هذا العالم العربي والذي وقع عليه ظلم كبير.
لن نبقى أسيري الماضي القريب فنتحدث عن التقصير العربي تجاه احتلال العراق والتقصير في نصرة أهله ومقاومته التي أذهلت العالم، تلك المقاومة التي منعت الكثير من الشرور عن بقية البلاد العربية والتي مرغت أنف عدو العرب الكبير – أمريكيا – في التراب، إنها المقاومة التي عدها الكثير من المنصفين بأنها الشرارة التي منحت العرب عزة النفس وأعادت لهم الشعور بقوتهم وما يملكونه من قدرات، ولن نتحدث عن ترك هذه المقاومة وحيدة في الميدان تبذل دماء أبنائها وتضحي بالغالي والرخيص فكانت (المقاومة اليتيمة) الفريدة من نوعها.
لكن لنبقى في حدود قضيتنا (الربيع العربي) فنتحدث عن نسمات هذا الربيع وما حمله من عبق الحرية والعدالة والمساواة، لماذا لم تصل للعراق كما وصلت إلى الآخرين؟ لماذا تجاهل الإعلام العربي تلك المظاهرات التي حدثت بالعراق ولم يسلط عليها الضوء كما فعل في البلاد الأخرى، وتجاهل شهداء تلك التظاهرات والقمع الحكومي الذي فاق كل مظاهر القمع الأخرى في العالم العربي، ولماذا تجاهل العرب ما يحدث في العراق من مجازر يومية ترتكبها الأجهزة الحكومية، وتجاهلوا الاعتقالات اليومية للعشرات والمئات من الأبرياء وما يرتكب ضد أولئك المعتقلين من انتهاكات لحقوق الإنسان، بل ولماذا لم تكتف حكومات العرب بالتجاهل لحقوق الشعب العراقي ولكنها راحت تتسابق لتقديم الدعم السياسي والاعتراف الرسمي للحكومة التي تمارس أنواع الظلم وتشتهر بالفساد، والأغرب أن أكثر المتسابقين لدعم حكومة الإجرام العراقية كانت الحكومات التي جاءت بفضل (الربيع العربي).
ولقد تطور هذا التجاهل وذاك الإهمال لقضية العراق من إخوانهم العرب فأصبح دعما معلنا للحكومة التي جاء بها الاحتلال، ثم تطور الدعم إلى تفويض مطلق لها عبر (القمة العربية)، فانعكس كل ذلك على الواقع العراقي، حيث تصاعد القمع الحكومي الذي أخذ تفويضا من العرب، وتزايد الفساد الحكومي في كل الاتجاهات لأنه أخذ ضوءا أخضر من العالم عبر الحكومات العربية باعترافهم بها وبغضهم الطرف عنها وعن سنوات عديدة من الإجرام وقائمة طويلة من الفساد، فتصاعدت الاعتقالات وما يرافقها من تعذيب وقتل وكل أنواع الانتهاكات، وتزايدت ملايين الدولارات المنهوبة، والمسلسل مستمر ومآسي الشعب العراقي في ازدياد.
وربما أكثر من تضرر بهذا (الربيع العربي) بشكل مباشر المهجرون من الشعب العراقي، فكان الكثير منهم يتعرض للمخاطر التي رافقت مخاض ذلك الربيع، نالهم نصيب كبير من العنف وواجهوا الخوف وتعرضوا للجوع والضنك وبعضهم فقد حياته وأمواله.
واليوم يتعرض المهجرون من العراقيين في سوريا لمخاطر جمة، فما يحدث في هذا البلد من عنف لا يفرق بين مواطن ومقيم، بل ربما يكون المهجر العراقي أكثر عرضة للخطر من غيره، فالغريب دائما هو الحلقة الأضعف في حالة الفوضى، وهو الصيد الأسهل للمجرمين وضعاف النفوس، وللإنصاف فإن المهجرين العراقيين في سوريا كانوا أفضل حالا من كل المهجرين العراقيين في البلدان الأخرى، ففضلا عن كرم الشعب السوري كانت التسهيلات الحكومية لهم في الإقامة والتنقل، والمساواة لأولادهم بالسوريين في الدراسة الأساسية المجانية، وغير ذلك حتى جاءت الأحداث الأخيرة التي عصفت بالبلاد فنال هؤلاء المهجرين العراقيين ما نال الشعب السوري من عنف وخوف واضطراب.
ومما زاد وضع العراقيين - المهجرين بسوريا - سوءا شعورهم بأنهم معرضون للتهديد من طرفي الصراع على حد سواء، فإعلان (القاعدة) ورجالها العراقيين تدخلهم بالصراع، وظهور اعترافات لبعض من شارك بتلك الأحداث عبر التلفزيون الرسمي السوري والذين أكدوا على أن (عراقيين) كانوا يشاركون ويوجهون ويخططون لتنفيذ التفجيرات في سوريا، جعل العراقيين يشعرون أنهم جميعا عرضة للاشتباه ويتخوفون الاعتقال، ومن جانب آخر فالموقف الرسمي لحكومة المالكي الداعمة للحكومة السورية جعل المهجرين الذين فروا من اضطهاد أجهزة المالكي وميليشياته يتخوفون أن يكونوا جزءا من صفقة رد الجميل فيتم تسليمهم للمالكي أو تطلق يد ميليشياته لتتم تصفيتهم حيث ما كانوا.
كما أن قيام (التيار الصدري) بالدعم المعلن لحكومة سوريا؛ واتهام المعارضة السورية لميليشيا (جيش المهدي) بالمشاركة في المواجهات المسلحة ضد تلك المعارضة؛ جعل العراقي المهجر بسوريا يخشى تعرضه للاتهام بانتمائه لهذه الميليشيا أو التأييد الطائفي لها.
وهنا بدأ هذا المهجر العراقي يتنقل وعائلته من حي لآخر داخل سوريا ومن محافظة لأخرى بحسب تصاعد العنف هنا وهدوئه هناك، وباتت رحلته الأصعب في بحثه للمكان البديل لسوريا لاسيما أولئك الذين حكم عليهم بالنفي المؤبد عن العراق ما دامت حكومة الاحتلال، لكن أين يلتفت وإلى أين يسافر وكيف السبيل؟
أقرب البلاد لهم (الأردن) ولكن أنى لهم أن يدخلوها وقد اتخذت حكومتها قرارا بمنع دخول أي عراقي سبق ومنح إقامة بسوريا، وكأن العراقي المقيم بسوريا يحمل فايروسا ميؤوسا من معالجته وشفائه، ولا يستغرب مثل هذا الإجراء إذا ما علمنا أنه من اختراع (المخابرات) الأردنية، التي تسيء بهذا الاجراء للشعب الأردني الكريم والعائلة الهاشمية المالكة التي تربطها بالعراق تاريخ من القرابة والمواقف القومية المشتركة.
هل يتوجهون لمصر؟ لا يمكنهم ذلك فسمة الدخول لمصر (الفيزة) متوقفة للعراقيين إلا عبر شركات تبيع وتشتري بها وبهم وبمبالغ كبيرة ولا تخلو من مواقف النصب والاحتيال، ومثل هذا في العديد من البلاد الأخرى، ولن أتحدث عن بقية البلدان العربية وأعدد الصعوبات بل قل المعوقات التي تحول دون دخول العراقي لتلك البلاد.
خيارات العراقي المهجر صعبة؛ فهي عموما بين بلاد نهضت حديثا من (الربيع العربي) لكن إجراءات الحكومة الدكتاتورية السابقة لا تزال هي السارية والحكام الديمقراطيون الجدد يخشون أن يمسوا العلاقات الدبلوماسية مع حكومة الاحتلال العراقية بأي سوء فيتسببون بإزعاج السيد الأمريكي راعي الديمقراطية في العالم، وهناك بلاد أخرى الوضع الأمني فيها صعب جدا لأنها لا تزال تدور في فلك العنف أو تحاول تجربة (الربيع العربي) فيها، أو فيها صعوبات أخرى أمنية أو مادية.
أما بلاد الخليج فهي بعيدة عن العراق وأهله وكأنها لا تنتمي للعرب إلا بالاسم، وكأن حكومات هذه البلاد – حاشا شعوبها – قد رهنت كل سياساتها بالرضا الأمريكي، نعم من حقها أن تراعي في علاقاتها السيد الأمريكي على صعيد السياسات الخارجية والأمن القومي والاقتصاد ونحوها فهذه الأمور مبنية على المصالح المتبادلة، لكن بماذا يزعج أمريكا إجراءات إنسانية للشعوب الشقيقة؟
أحد المهجرين العراقيين يقول: أنا لا أريد من البلاد العربية إلا أرضا رملية أقيم عليها، لا أريد مدينة أؤجر بمالي شقة فيها؛ فربما سيقولون تسببت بأزمة سكن في بلاد المباني فيها ضعف عدد سكانها، ولا أريد أن يسمحوا لأولادي بالدراسة في مدارسهم الخاصة؛ فربما يقولون زاحمت في مقعده طالبا يدفع أقساطا دراسية كما أدفع لولدي، ولا أريد السماح بمعالجة عائلتي في المستشفيات الخاصة التي سأدفع كما يدفع غيري للعلاج؛ فقد تؤثر حبة الأسبرين في أزمة صحية لتلك البلاد...، أنا لا أريد إلا بقعة في الصحراء المقفرة أنصب عليها خيمتي وأحفر فيها بئرا أشرب منه وأزرع لآكل مما أحصد، وأنا مستعد للتعهد لهم أنني لن أقبل حتى صدقات وزكاة أموال الأغنياء بذلك البلد؛ كي لا أنقص من نصيب الفقراء الذين ترسل لهم الأموال في دول أخرى كجنوب أفريقيا وشرق آسيا غربها.
فهل هذا نصيبنا من (الربيع العربي) وهو المزيد من الإهمال والتجاهل والصدود؟ شكرا للعرب وشكرا لربيعهم الذي احتكروه ومنعوه عنا، أما أنت يا شعب العراق فليس لك إلا الله، واعلم بأن الظلم لن يدوم وأن وراء الليل صبح منير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق