بقلم محمد عبد المجيد
الإنسانُ بدون الحــُـلم صحراءٌ جدباء، وبغير الخيالِ كمحبرةٍ جافةٍ بجوارها قلمٌ نزع الصدأُ ســِـنـَّـهُ، ومن حُسن حظ المرء أنَّ كلَّ الأشياءِ قابلة للسرقة أو الفقدان أو الاختفاء إلا .. الحــُـلم.
حتى أشرس السجــّـانين لا يستطيع أن يتسلل إلى سجين يحتضر ليطــَّـلــِـع علىَ أحلامه قبل أن يصحبها معه مــَـلــَـكٌ الموت وهو يقوم بزيارته اليتيمة، والتي ينتظرها كل واحدٍ منا مع تمنياتٍ أن يتأخر ضيفــُـك فتبلغ عــُـمـْـرَ نوح، عليه السلام، وهو يصنع الفــُــلــْـكَ وقومه يتغامزون!
في غربتي التي امتدت لأربعة عقود قمت في خيالي بتغيير المشهد المصري مرات لا حصر لها، ونشرت مقالا تحت عنوان ( مجلس الشعب الذي أحلم به)، ثم ( الرجل الذي أحلم به رئيسا لمصر ) وقلت في مقالي الأخير:
الحياة لا تستقيم بدون أحلامٍ، والأحلامُ هي العلاجُ السحرّي لكلِ أنواعِ اليأسِ والكآبةِ والحزن!
ومع ذلك فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التمسك بالحلم عن زعيم ينتشلنا من مستنقع لا قرار له، أو الاستمرار في العبودية المختارة تتقاذفنا أسرة مبارك كأننا كرة بلاستيك تمررها أقدام لاعبين يصرخ فيهم جمهور هستيري يظن أن كرامته تحددها الملاعب الخضراء، وأن التقدمَ هو حالة كروية ولو تحول المجتمع كله إلى أفواه جائعة، وبطون خاوية، وعقول فارغة، ونفوس مريضة.
وأنا لا زلت مُتمكسا بالحُلم عن زعيمٍ مجهول كما تتمسك عذراءٌ في خِدرها بفارسٍ أحلامِها الذي قد لا يأتي حتى يلج الجمل في سُم الخياط!
أحلم برئيس يحب مصرَ، وترابَها، ونيلها، وتاريخها، وحاضرَها، ويحتفظ في مخيلته بتفاصيل مستقبلِها الذي يرسم كل خطوطه كفنان ماهر لا تبرح الريشة سبّابته وإبهامه إلا لِــِـماماً!
أحلم برئيس يحترم شعبَه، ويعتبر كرامة كل مصري مِنْ كرامته، ولو سرق كفيلٌ أو مُهَرّبٌ على مراكبِ الموتِ أو بلطجي أو رجل يَحْميه أحدُّ الكبار مصرياً، فإنَّ الرئيسَ يأتيه بحقه قبل أنْ يقوم مِنْ مَقامه.
أحلم برئيس يتسلل آناءَ الليل وأطرافَ النهار إلىَ السجون والمعتقلات، ويبحث عن المظلومين، ويُفرج عن الأبرياء، ويطرد مِنْ رحمته كبارَ الضباطِ المتورطين في التعذيب والمهانة واذلال أبناء البلد.
أحلم برئيسٍ يحترم القضاءَ، ويجعل القضاة والمستشارين يُشرفون علىَ الانتخابات، ويُعطي توجيهاته بأنْ لا تقترب وزارة الداخليةِ مِنْ أيّ مصري يتم الحُكمُ عليه بالبراءةِ، فيعود إلىَ أهله قبل أنْ ينبلج فجرُ اليومِ التالي.
أحلم برئيس يُحب الفنَ الرقيقَ، ويستمع إلىَ الموسيقى الكلاسيكيةِ، ويحفظ بعضَ المعلقات، ويعرف قواعدَ اللغة العربية وآدابَها، ويستشهد مُرْتجلا بالمتنبي وأبي تمام وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل والجواهري ومظفر النواب!
أحلم برئيس لديه مشروع قومي ووطني وحضاري، ويعرف تضاريسَ مصر وجغرافيتها، ويقرأ لجمال حمدان، ويحفظ عن ظهر قلبٍ كل قطعة من أرض مصر، ولديه فكرة عن احتياجاتها البشرية والمائية والانمائية.
أحلم برئيس ينتزع مئات الآلاف من الأفدنة التي استولى عليها لصوصُ عَهدِ مبارك، ويُعيدها للمصريين في مشروعات انتاجية، زراعية وصناعية، ومدن سكنية ضخمة وراقية وجميلة تتسع للفقير والغني على حد سواء.
أحلم برئيس يغضب من المديح، ويزيح عن طريقه المنافقين، ويفتح صدرَه للنقد، ولا ينام الليلَ حتى يطمأن أنَّ بالوعة صغيرة في قرية نائية سقط فيها ثلاثة أطفال قد تم إغلاقها ومحاسبة رئيسُ الحي، وأنَّ المصريَّ الذي يستغيث به ولو كان في جوفِ كهفً يصل صوّته للقصر.
أحلم برئيس عبقري، وذكي، ورقيق القلب، ويفهم في الفلسفة وأصول الحكم، ويقرأ في العلوم الانسانية، ويحفظ عن ظهر قلبٍ الشِرّعة العالمية لحقوق الانسان، وتخجل منظمات حقوق الانسان أنْ تعاتبه ولو علىَ استحياء.
أحلم برئيس يتساوى لديه المسلم والمسيحي والبهائي واللاديني، والســُـنـّـي والشيعي، وأن المقياس الوطني لديه هي الكفاءة والمصداقية والنزاهة والعمل الجاد والمثابرة.
أحلم برئيس يلتهم الكتاب الجَيّدَ الذي تقع عليه عيناه، ويستطيع أنْ يتحدث حديثا راقيا وعقلانيا وموضوعيا، مرتجلا وليس من نص جامد أحمق وضعه له مستشاروه، عن الصحة والعلاج وحقوق الطفل ومناهج التعليم وحرمة البيوت وأسعار الكتب والملازم في الجامعة والدروس الخصوصية ونسبة التلوث في مياه الشرب.
أحلم برئيس يحلم بجيش وطني قوي، كل أفراده كأنهم خليّة نحل في التدريب والتعلم، وهم سَندٌ للأمة وليسوا عالة على اقتصادها، وأنَّ التعليمَ لا يتوقف مع اليونيفورم، وأنْ لا تكون لأي قوة في العالم سيطرة ولو غير مباشرة على جيش مصر، وأنَّ المصريين هم الذين يحددون حاجياتهم من السلاح، وأنه جيش يتحرك داخل أرض الوطن دون اتفاقات تلزمه بالتقزم والتحجيم ورغبات أمريكا وإسرائيل!
أحلم برئيس يخاف من أصغر عضو في مجلس الشعب، ويخاصم النومُ عينيه قبل أيّ استجواب تحت قبة البرلمان، ولو كان الاستجوابُ موجَّهاً إلى وزير في أقلّ الوزارات أهمية.
أحلم برئيس يَعْرض على الأمة مشروعا متكاملاً للقضاء على الأميّة في عدة سنوات.
أحلم برئيس لا يحكم مصرَ وهو على فراش المرض أو الموت، وأنْ يكون في كامل قواه العقلية والروحية والجسدية والنفسية.
أحلم برئيس يبدأ صباحَه بتصفح كل الصحف اليومية، المعارضة قبل القومية، ولا يعتمد على ما يختاره له مستشاروه، وتلتقط عيناه همومَ الوطن كله، ويتصل بنفسه بكل مسؤولي مؤسسات الدولة، وتلهب توجيهاته قوىَ النشاط فيها، وتضاعف أوامره عطاءاتهم، ويزيح عن الطريق المهمِلَ والفاسدَ، ولا تكون له أولويات، فكل مشاكل الوطن علىَ نفس القدر من الأهمية، محاربة المخدرات كالعلاج المجاني، كرامة المواطن في أقسام الشرطة كحقه في مياه غير ملوثة، حق الطفل في الحليب يومياً كأهمية العاطل في العثور على عمل.
أحلم برئيس لا تسجنه الشللية في القصر، ولا يحبسه المنافقون في الايحاء له بأنه الملهَمُ والزعيم، ولا يبحث عن الثناءِ والمديح في كل عمل يقوم به أو توجيهات أو أوامر.
أحلم برئيس يبدأ من الصفر في كل شبر من أرض مصر، من الشواطيء التي استولى عليها الأثرياءُ، والاحتكارات في البيع والشراء التي التهمت خيرات مصر، وإنشاء لجان حماية المستهلك، ووضع خطة مُحْكمة وذكية للفصل في مئات الآلاف من القضايا المُحنطة في المحاكم، فالعدالة البطيئة ظلمٌ بَيّنٌ، وخطة لوضع حلول لأكثر من مليون طفل من أطفال الشوارع، وانهاء فضيحة سُكان المقابر، وتخليص الوطن من العشوائيات، واعتبار القضاء على البطالة هي المَحَكّ لنجاح الرئيس أو فشله في إدارة شؤون الوطن.
أحلم برئيس لا يحكم باسمه أولادُه وأشقاؤه وزوجته وحواريّون ومستشاروه والملتصقون بسطوته وسيطرته، فكل الناس في عهده علىَ قدم المساواة، ويستطيع أصغر قاض استدعاء ابن الرئيس، وحتى الحُكم بحبسِه لو تجاوز السرعة المسموح بها لسيارته.
أحلم برئيس غير مختلّ النفس والروح، وفيه تواضع وإيمان ومحبة وتسامح، ويعتبر نفسَه الملاذ الآمنَ لكل مصري في الداخل أو في الخارج.
أحلم برئيس صادق مع شعبه، ولا يقيم معاهدات سرية مع خصوم مصر، ولا يتعاون مع إسرائيل، ولا يسمح لأي دولة باهانة رعاياه، ويصارح المصريين بكل تفاصيل الاتفاقات والمعاهدات التي تعقدها الدولة، ولا يُفرّط في استقلالها، ولا يبيع غازَها وبترولَها لأعدائها ..
أحلم برئيس لا يكره المصريين ولا يحتقرهم كما هو الحال مع الرئيس مبارك، فنجده في موقع أي حادث كبير، أو حريق، أو غرق سفينة، أو كارثة تسمم، أو زلزال ....
أحلم برئيس يجري، ويلهث، ويطير بمصر صوب كل مناحي التقدم والازدهار والرفاهية والتطور، ويتمكن من ازالة الفوارق بين الطبقات، وليس كما الرئيس مبارك الذي ينام ملايين من رعاياه وهم يتضورون جوعا، ويلعب العشرات بمليارات انتزعوها عنوة من خيرات مصر.
أحلم برئيس إنْ هددت مسؤولا في عهده بأن شكواك ستصل إليه يَخرُّ صريعا من الخوف حتى لو كان وزير الداخلية إنْ أهانك ضابط أمن، ووزير العدل إذا اختفت قضيتك في المحاكم، ووزير الصحة إذا سرق مجرمو الطب عضوا من جسد مريض يأتمنهم عليه تحت التخدير، فيخونوه رغم قسَم الشرف الطبي.
أحلم برئيس يُعيد التسامحَ للمصريين، وفي عهده يتساوى المسجدُ والكنيسة، ويحتفل كل مصري بأعياد أخيه في الوطن، ويعتبر كل من المسلم والقبطي أن حساب الآخرة شأن ربّاني، وأن الجنة لمن جاء اللهَ بقلب سليم، وأنَّ محبة المصري للآخر الذي يختلف معه في الدين والعقيدة هي أقصر الطرق لصناعة التسامح الذي يُرضي اللهَ تعالى.
أحلم برئيس تدعو له ربّة كل أسرة مصرية وهي تطعِم أولادَها، وتصحبهم للطبيب أو الصيدلي، وتتسوق حاجياتهم، وليس كما يحدث الآن فملايين من ربّات البيوت المصرية يرفعن أيديَهن إلى السماءِ، ويلعَنَّ مَنْ تسبب في هذا المشهد الكارثي والحزين لأم الدنيا.
أحلم برئيس ينتزع السلطة من الرئيس مبارك، ولا تصل به إلى القصرِ دبابة في حماية أمريكية أو مساعدة اسرائيلية.
أحلم برئيس يرفع مصرَ درجات في التعليم والإعلام والكتاب ودور النشر وحقوق الانسان وحرية الصحافة والصحة والمواصلات و ...
أحلم برئيس يوافق على مناقصة ضخمة لشركات نظافة تجعل مصرَ واحدة من أنظف بلادِ العالم الثالث، وتضع صناديقَ قمامة في كل شوارع وحواري وأزقة مصر، وتقوم بتفريغها مرتين في كل يوم.
أحلم برئيس يعرف كلمة السرّ، ويَدخل بها إلى نفوس وقلوب وعقول المصريين، ويدمرّ البرنامجَ الذي وضعه عهد مبارك في شرايين أبناء شعبنا فجعل سلوكيات المصريين بلطجة ورشوة وفساداً وبقشيشاً واكراميات واستغلالاً وكراهية وتعصّباً وتديّناً زائفاً وازدواجية تجمع الملائكة والشياطينَ في قلب واحد، فيُعيد الرئيسُ الجديدُ الوضعَ الطبيعيَّ للانسانِ السويِّ.
أحلم برئيس تتقدم مصرُ في عهده بالفن الجميل، والموسيقى َالراقية، والفيلم الجيّد، والكِتاب المثمر والمفيد، والتلفزيون الريادي ...
أحلم برئيس يأمر وزير إعلامه بطرد آلافَ العاملين والعاملات في القنوات المصرية كلها، الأرضية والفضائية، ثم يعيد توظيفهم على أسس جديدةٍ قائمة على الكفاءات الثقافية واللغوية والعقلية والعلمية والقدرة على العطاء والمعلومات العامة والأفكار المبهرة والمبدعة، وفي هذه الحالة لن يعود إلى الشاشة الصغيرة من المومياوات الحالية إلا حفنة تعَدّ على أصابع اليدين!
أحلم برئيس يغادر المواطنُ مصرَ في عهده ويعود إليها سبعين مرة في اليوم، فلا تجرح كرامتَه في المطارِ كلمة أو نظرة أو اشتباهٌ، ويرفع رأسَه أمام مدير أمن المطار.
أحلم برئيس لا يضيع خطابُ بريدٍ في عهده، ولا يُهمل موظفٌ شكوى أو طلباً، ويحتقر المصري كل من يتوسط لآخر، ويعتبر القضاءُ أنَّ أعداءَ الوطن في الداخل هم مهربو المخدرات، والبلطجية من المَسّجلين خطرين، والذين لا يحترمون أحكامَ العدالة.
أحلم برئيس لستَ مُضطراً في عهده أنْ تضع يدك في جيبك لتحصل علىَ حقك، ولا تضغط علىَ أعصابِك المزايَدة الدينية من مُكبّرات الصوت، وجدال النقاب، ومطاردة المفكرين، ولا يقبل القضاءُ دعاوىَ يرفعها متخلفون عقلياً لمطاردةِ من يُفكرّ، أو يختلف معهم ..
أحلم بالبطل الذي ينقذ مصرَ قبل أنْ تصعد روحُ الوطن إلى بارئها، وأنْ يأخذ أرضَ الكنانة في أحضانه، ويلملم جراحَها قبل أن تتفكك أرضُها وينحسر نيلُها، ويستولى الآخرون على نصيبِها من المياه، وتتحول مصر إلى ساحة حرب داخلية نتيجة التعصب والكراهية.
أحلم برئيس يضع مبارك وأسرتَه وزبانية السلطةِ وداعمي الطغيان وخط الدفاع الأول عن الاستبداد في العقود الثلاثة المنصرمة من المستشارين والوزراء وكبار الإعلاميين ورؤساء تحرير صحف النفاق القومية ومثقفين وكُتاب وروائيين وأكاديميين ومحافظين خلف القفص في محكمة شعبية بتهمة محاولة اغتيال وطن، وتخريب أمة، ونهب دولة، واهدار طاقات، وتهجير أدمغة، وتفريغ مصر من خيراتها.
أحلم بانتفاضة أبطال العبور، أو عصيان مدني، أو ثورة العمال والطلاب، أو غضب الجوعى، أو ثأر الذين لم تعد كرامتهم تتحمل المزيدَ من المهانة، أو بطل بجوار الرئيس استيقظ ضميرُه فجأة إثر اكتشافه أنه يحب مصرَ حُبّاً حقيقيا، وليس كرويّا، وأنه الرجلُ الذي تنطبق عليه معظمُ شروط أحلامي!
لم يكن هذا الحلم في عام 2009الأخير، فمادام هناك قلب ينبض فسأكرر المشهد عشرات المرات حتى يستوي مع صعود روحي إلى بارئها.
في العامين المنصرمين طاردتني أفكار أزعم الآن أنها الأقرب إلى النضج، وأنها الأسرع في تحقيق التقدم لمصر، وشغلتني بأم الدنيا عن كل القضايا الأخرى.
اكتشفت أنه لو حكم مصرَ نبيٌ بغير رسالة سماوية لما تمكن من أنْ يختار معاونيه ومستشاريه ووزراء حكومته ومحافظي البلد ورؤساء وعُمــَـد ومشايخ القرى والنجوع، فقدرة الإنسان على اختيار المسؤول الأقرب إلى الكمال لا يمكن أن تزيد عن ثلاثة أشخاص ولو كان يعرف كل مصري يتهادى بين حلايب والثغر.
لو أنني رئيس مصر، وهذا خيال محض لئلا يصطاد فيه المدرَّبون على البحث عن الجنسيات والهويات وجوازات سفر الأولاد وأختام الزيارة، خروجاً من مطار القاهرة الدولي أو دخولاً إليه، فيمكن أن أعرف مئة أو مئتين من الأشخاص الأكفاء لتولي مناصب رسمية وحكومية.
سبعون من هؤلاء يمكن اعتبارهم بدرجة امتياز في مجال عمل كل منهم: البحث العلمي، الإدارة، تنقية المياه، الزراعة، الهندسة النووية، التربية والتعليم، التعليم العالي، الصحة، إدارة المستشفيات، الخبرة بصناعة الدواء، السياحة، الإعلام، صفقات السلاح الأرخص والأفضل، الثقافة، الآداب والعلوم الإنسانية ... الخ
وخمسون من السبعين يتميزون بالكفء والعبقرية في مجالين أو أكثر.
وثلاثون من الخمسين يمكن وصفهم بأنهم موسوعات متنقلة على أرض مصر.
وعشرون من الثلاثين لا تجد إلا بشق الأنفس ثغرات أخلاقية أو معلوماتية أو ضعفاً في الصمود أمام الشللية، أو صبراً يسقط صاحبه إعياءً مع كثرة الضربات المتلاحقة من الخصوم.
وعشرة من العشرين تكاد تكتمل في شخصية كل منهم ما أنت بقادر على أن تعثر على مساحة متناهية الصغر من الضعف أو الخلل يتسلل منها مما يؤذي المجتمع أو المنصب قبل أن يؤذي صاحبه.
ثلاثة من العشرة في تصفية نهائية لو بحثتْ أجهزة المخابرات والأمن وكشف الكذب والفيش والتشبيه وتاريخ صاحبه وكم المعلومات الذي يختزنه، وقدرته على الإدارة، وعشقه لمصر، وحساباته في البنوك، وعدم تورطه في صناعة صنم حزبي أو سياسي أو ديني لما عثرت على خلل واحد ولو استعانت بكل من يعرف حياة هذا الشخص الخاصة والعامة والعائلية وطفولته ومراهقته ومراحل تعليمه.
هؤلاء الثلاثة هم أٌقصى ما أستطيع أن أختار بدقة وأمانة ومنطق وعقلانية وبحث وتدقيق وفحص وتجارب شخصية حتى لو كنت أعرف تفاصيل حياة كل مصري من الثمانين مليونا.
لو زدت واحدا أو اثنين لمنحتُ لفرصة الخطأ في الاختيار كوة تتسلل منها ولو كانت أصغر من فم النملة، فنصف عمر الإنسان يمضي قبل أن يبدأ في معرفة ماهية الحياة.
نحن أمام ثلاثة أنبياء بدون رسالة! كل واحد منهم حِكـــمة تمشي على قدمين، وموسوعة فيها روح وجسد وعقل وفكر.
إنهم الأساس الذي أبني عليه مشروعي الحلمي أو الخيالي لإنقاذ مصر!
ليس لأي منهم حزب سياسي أو ديني أو توجه أيديولوجي أو تعاطف مع جهة دون أخرى أو اكتراث بالفروقات والهويات والمذاهب والأديان والعقائد والمقدسات التي تفصل مصريا عن آخر.
التقدم والحضارة والتمدن والرفاهية والأمان والقوة كلها أهداف لأي مجتمع في العالم الأول الذي يحتفظ بمسافة بعد المشرقين عن الخطة الخمسية لحكومة ذكية في أحد بلدان العالم الثالث، وهذا يعني أن السرعة المضاعفة التي تلهث بها حكومة مخلصة وجيدة في مصر، مثلا، ستظل في ذيل ركب الأمم، فالرئيس مهما بلغت عبقريته لن يتمكن ومستشاروه ومساعدوه من اختيار الأنبياء الذين تحدثت عنهم.
نأتي إلى الثلاثة الذين قمت باختيارهم، فأرفع يدي ليتولى كل منهم القيام بنفس العملية والتي غالبا لن تحتمل الخطأ بأي صورة من الصور ، فيختار الثلاثة تسعة، ثم وقفة جديدة لشرح كيفية الاختيار، نظريا وعمليا، فتقف أمام سبعة وعشرين ممن لا يعرف أكثر المصريين أنهم من أبناء مصر ولكن غابوا عن المشهد الفاسد والمستبد والمنافق والأفاق والوصولي.
لا يعرف أحد بالخيارات، ولا يتصل من تم اختيارُه بمن يريد اختيارَه.
في أقل من أسبوع يكون لديك ما يقارب ثلاثة آلاف عالم وموسوعي ومثقف وإداري وشجاع وأمين ونزيه و ... ، وهؤلاء ليسوا أشخاصا عاديين، ولو استعنت بالجن الأزرق وهدهد سليمان ومصباح علاء الدين لما استطاعوا جمعهم في مكان واحد.
مصريون حتى النخاع، مجهولون كأنهم أشباح لا تراها العين المجردة. ليس منهم واحد موجود أمامنا في المشهد المصري حتى لو كان أتباعه يركعون له آناء الليل وأطراف النهار.
هؤلاء هم مصر التي يحصرون مشاكلها وهمومها وأزماتها ومصاعبها وأوجاعها وكوارثها بين إصبعين من أصابعهم، فينطلق الوطن ويصبح عمل اليوم كأنه عدة أسابيع في الزمن البائد، والشهر عاماً، وتنجز في العام ما يجعل مصر تبدو كأحد النمور الآسيوية الأفريقية والعربية التي تزيد سرعتها عن سرعة الصوت في المفهوم الإنمائي والتطوري.
ثلاثة آلاف لا يختار الرئيس منهم الأصلح لأي منصب وإلا فقدت الكفاءة المكان المناسب لها، ولكن يختار كل منهم، مع تنظيم وإدارة من الرئيس دون أي إيحاء، المنصب الذي يستطيع أن يستخرج كل ذرة في عبقريته، وقد يختار أن يكون محافظا لمحافظة يعرف قدرته على جعلها جنة مصر وقبلتها، وقد يختار وزارة الصحة لتحقيق مشروع في ذهنه يجعلها بردا وسلاما على صحة كل المصريين، وربما يختار التعليم ليضع حلمه في قفزات تعليمية تعجّل في تقدم مصر، ولعله يصبح مسؤولا عن محو الأمية، أو تنظيم ضرائب الدولة ليتضاعف دخلها، أو يكون لديه برنامج متكامل لجعل أرباح قناة السويس أو السياحة أو الإعلام أو التصدير أو الاكتفاء الزراعي الذاتي أو .. ضعفين أو أكثر.
ثلاثة آلاف من أنبياء العصر موجودون قــَـطعا بين الثمانين مليونا من المصريين، وهنا سيكون منهم مجلس الشعب ومجلس الشورى والمحكمة الدستورية والنائب العام وكل الوزراء ووكلاء الوزارات، ولن يكون هناك منهم من هو مدين لأي جهة، حزبية أو دينية أو عسكرية أو رئاسة الوزراء. لن تعرف مسبقا صاحب المنصب، رجل أو امرأة أو مسلم أو قبطي أو معتنق أي دين آخر أومذهب .
الحرية هي أن يستقل صاحب المنصب عن أي تلميحات أو تصريحات أو إيحاءات من جهة سلطوية أو مالية أو قداسة دينية.
كلهم، الثلاثة آلاف، مصريون حتى النخاع، تنطق كل مسامات أجسادهم بعراقة خمسة آلاف عام.
تلك هي فكرتي التي شغلتني ردحا من الزمن، وقمت على مدار أيام الحلم والخيال والفكرة والمتابعة في ســَـدِّ كل ثغراتها ليختفي تماما من المشهد المصري كل هؤلاء الذين آذت اطلالتهم وكتاباتهم عينيَّ، وأوجعت حناجرُهم وصيحاتهم المتخلفة وأفكارُهم المتقلبة أذنـَـيَّ.
إنها حلم قد يذهب الآن مع الرياح، وفقا لتعبير الكواكبي، ولكنه يذهب غداً بالأوتاد، لذا لم يكن أيٌّ من المرشحين الثلاثة عشر قادراً على مداعبة أقل أحلامي وأصغرها وأكثرها تواضعاً وبساطة، فكلهم كانوا أصغر من مصر بمئات السنوات الضوئية.
هذا هو حلمي لإنقاذ مصر بدون وجوه كالحة، غاضبة، متطرفة، جوفاء، وصولية تطل علينا منذ سنوات فيتناثر غبارها ليضاعف تلوث الهواء والماء والفكر والسياسة والإعلام و .. القصر الرئاسي.
ترى، من يشاركني هذا الحلم؟
*رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 21يونيو 2012