16 مايو 2013

فلسطين... نكباتٌ تتجدّد... ولا أملَ إلا بالمقاومة - د أمين حطيط


عندما أعلنت المنظمة الصهيونية العالمية قيام «دولة اسرائيل» على مساحة تبلغ نصف فلسطين التاريخية في 15 ايار من عام 1948، وأسمته يوم الاستقلال، اعتبر العرب ان هذا اليوم نكبة، نكبة تمثلت بضياع ارض عربية وتهجير أهلها وتهديد الامة بجسم غريب زُرع في قلبها، لكن النكبة تلك كانت في رأي الموضوعيين من المتابعين، بحجم يمكن استيعابها واحتواؤها والعمل على التفلّت منها واستعادة الارض واعادة الاهل الى الديار، وكانت من العلامات الايجابية السعي العربي ما قاموا به يومها، رغم انه لم يؤد الى نتائج ايجابية ملموسة ومؤثرة، فكانت المقاطعة والمحاصرة واعتبار قضية فلسطين قضية الامة العربية كلها، والصراع هو صراع وجود بين هذه الامة واجنبي يعتدي عليها، و يسعى الى إذلالها وتركيعها و مصادرة ثروتها.
وعندما احتلت «إسرائيل» عام 1967 ما تبقى من أرض فلسطين من البحر الى النهر، بما في ذلك قطاع غزة الذي كان تحت ادارة مصرية، والضفة الغربية لنهر الاردن التي كانت قد أُلحقت بإمارة الهاشميين شرقي النهر من أجل تكوين مملكتهم الاردنية، تسبّب الاحتلال بتهجير المزيد من الفلسطينيين وتحويلهم كأسلافهم الى لاجئين في مخيمات أُقيمت عام 1948 على عجل و»بشكل موقت»، على اعتبار ان العرب يومها انطلقوا في حرب الإنقاذ، التي لم تنقذ حبة تراب واحدة، ولم تُرجع فلسطينياً واحداً الى بيته، وهكذا كان عام 1967 بعد ذلك، عام الفاجعة والنكبات والمزيد من الانهيار العربي، والتوسّع الصهيوني على حساب الكرامة والحقّ العربي.
نكبة تلت نكبة، حتى باتت (النكبة – الهزيمة) مرادفاً للسلوك العربي في مواجهة الحركة الصهيونية، التي انتجت مع الغرب الاستعماري «اسرائيل»، والتي تستمرّ في خطّها الصاعد على حساب العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً. وفي ظلمة هذه الاحداث وبعد ان اتجّه جمعٌ من الفلسطينيين إلى الاعتماد
على الذات في تكوين خلايا مسلّحة لخوض حرب تحرير شعبية، اعتباراً من عام 1965، وجد هذا الجمع بعد ان انضم اليه آخرون، ان الطريق الى فلسطين لن تكون عبر قصور الملوك ومكاتب رؤسائهم، كما انها لن تُسلك بنجاح عبر الجيوش والانظمة العربية بشتّى عناوينها، وان الطريق الفاعلة الموصلة الى الهدف حتى ولو طال المسير، لا تكون إلا عبر المقاومة الشعبية التي تتوجّه لضرب العدو في أماكن اغتصابه، ضرباً متصاعداً يُفسد عليه أمنه فيوقف الهجرة الى فلسطين، ويساهم في هزّ اقتصاده فيحمله على الهجرة المعاكسة، ويُفسد عليه الحياة في كل مكان وجد عليه في فلسطين، فيحمله على الرحيل وإعادة الارض الى اصحابها.
كانت المقاومة الفلسطينية التي بدأت تحت عنوان العمل الفدائي – اختير الاسم هذا للتدليل على صعوبة المهمة والاستعداد للتضحية بالنفس من اجلها – قد شكلت بصيص نور في النفق العربي المظلم، ولأجل ذلك صفّقت الجماهير العربية لها وأيّدتها وأمدتها بكل ممكن ومتاح، وألزمت الانظمة العربية الرسمية بأن تؤازرها حتى لو لم تكن مقتنعة بها او مقتنعة بجدواها او حتى مع خشيتها منها. لكنها قدمت لها الدعم والمؤازرة على كل صعيد، حتى تطوّر الموقف الى حدّ ان بعض الانظمة العربية غالت في الدعم، الى ان اسّست فصائل مقاومة ترتبط بها مباشرة، وتستند اليها في كل ما تحتاجه في العمل المقاوم.
لكن عهد الأمل والعنفوان هذا لم يدم طويلاً، وكانت الاخطاء المشتركة من قبل المنظمات الفدائية الفلسطينية وبعض الانظمة العربية سبباً في تحويل وجهة البندقية، وقبل مضي 5 سنوات على انطلاق المقاومة، اندلعت شرارة المواجهة بين السلاح الفلسطيني والجيش الاردني وكان ايلول الاسود عام 1970 في الاردن، الذي جاء للفلسطينيين بالنكبة الثالثة، إذ أُخرجوا من الأردن وقُيّدت حركة من تبقى منهم هناك، إلى أن باتوا كأنّهم تحت الاقامة الجبرية، وانتقل السلاح الفلسطيني الى لبنان ولم يطل العهد به حتى كان احتكاكٌ، فانفجار بينه وبين الجيش اللبناني، ثم بينه وبين جزء من الشعب اللبناني – اليمين المسيحي – وكانت مواجهة طالت وطالت، حتى مهّدت الطريق لـ«اسرائيل» للدخول الى لبنان وإنزال النكبة الرابعة بالفلسطينيين بطرد مقاومتهم وإبعادها الى تونس، حتى لا يكون لهم الى فلسطين طريق فاعلة وآمنة.
أجل، مع عام 1982 كانت النكبة الكبرى التي تحلّ بالقضية الفلسطينية حتى حينه، ذات وجوه سياسية واستراتيجية وعسكرية ميدانية، تمثلت بصلح مصر- السادات، واستسلامها أمام «اسرائيل» وخروجها من الصراع العربي ـ الاسرائيلي، الذي سُجّل علانية لاول مرة من قبل دولة عربية، وخروج المقاومة من ميدان القتال والتأثير على «اسرائيل» التي انقلبت بعد قلق وخوف الى حال من الطمأنينة والثقة بمستقبلها ودورها المتنامي في المنطقة.
ولكنّ النبضين الشعبيين العربي والفلسطيني لم يستسلما آنذاك، وبعد سنوات قليلة كانت الانتفاضة الفلسطينية، وانطلاق حركات مقاومة فلسطينية في الداخل تحت عناوين اسلامية هذه المرة (الجهاد الاسلامي وحركة المقاومة الاسلامية «حماس»)، وكما شكّلت انطلاقة المقاومة الاولى عام 1965 رافعة معنوية للقضية الفلسطينية، جدّد انطلاق مقاومة الداخل هذه الرافعة والامل العربي والفلسطيني والاسلامي بالقدرة على استعادة فلسطين وإقامة العدل على ارضها... خاصة أن دولة مؤثرة إقليمياً، دخلت على خط الصراع ووسّعت دائرة الرفض لوجود «اسرائيل» في المنطقة، حيث كانت الجمهورية الاسلامية في ايران مكوناً هاماً من مكونات الدعم للمقاومة.
استطاعت مقاومة الداخل ان تحتلّ سريعاً مركزاً مؤثراً على الصعيد الاستراتيجي في المنطقة، وتنامت الى القدر الذي فرضت فيه على «اسرائيل» الخروج من قطاع غزة، وتسليمه للسلطة التي أنشأتها اتفاقات اوسلو المعقودة عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية و«اسرائيل»، وهي الاتفاقات التي نظر اليها العدو على انها الطريق الى تصفية القضية الفلسطينية بالشكل الذي يناسب الحركة الصهيونية، بينما حولتها المقاومة الفلسطينية ذات الطابع الاسلامي، الى طريق تجعل فيه من التهديد والخطر، فرصة وأملاً.
لقد كان الانسحاب من غزة عاملاً مشجّعاً للسير في طريق المقاومة، ومحفّزاً للقوى الداعمة لتلك المقاومة من اجل مواصلة العمل وتصعيد المواجهة، ولكن الفرح لم يطل، وكانت النكبة الخامسة الجديدة الخطرة، التي تمثلت في صراع فلسطيني ـ فلسطيني بين تيار السلطة الذي تخلّى عن المقاومة، وتيار المقاومة الذي نظر الى مسألة السلطة على انها أداة لتفعيل المقاومة. خلاف استراتيجي بين الفريقين الفلسطينيين الاساسيين، أدى الى مواجهة وقطيعة ولم تُفلح كل محاولات رأب الصدع التي دارت على ما يقارب العقد من الزمن في حلّها، ولم تنجح في ردمها، وباتت «عبارة المصالحة الفلسطينية» هدفاً من الاهداف الاستراتيجية التي يؤكَد عليها و تتكرّر في كل محفل وعلى كل شفة ولسان، ولكنها بقيت كلاماً لا يجد طريقه الى الميدان.
اما النكبة والكارثة التي تُعتبر الاخطر في كل ما ذكر من نكبات وويلات وهزائم، فكانت في السنتين الاخيرتين، وقد تمثلت بانشقاق بعض مقاومة الداخل عن ذاتها والالتحاق بمحور عربي عميل للصهيونية والغرب، يسعى الى تصفية القضية الفلسطينية، ويريد اعتبار «اسرائيل» جزءاً رئيسياً من بلاد الشام يتكّل عليه في مواجهة خطر مزعوم، «يهدّد العرب من بوابتهم الشرقية» – على حدّ ما أقنعهم وزرع في أذهانهم الاستعمار المتجدّد – هو «الخطر الفارسي والشيعي أيضا».
أجل، إن النكبة – الكارثة، التي حلّت بفلسطين هي السادسة التي نعيش فصولها اليوم، وهي من طبيعة استراتيجية تكاد تقضي على الحلم والامل، خلافاً لكلّ النكبات السابقة التي كان فيها ضياع للحقّ واستمرار للأمل، إنها نكبة ذات طبيعة اخرى بدأت ملامحها تتجلّى في تبرع عربي بمبادلة الاراضي، من اجل تشريع المستعمرات الصهيونية في الضفة الغربية، كما ستتجلى بما هو ادهى عبر ما يُحضّر له من اعتراف بيهودية الدولة «دولة اسرائيل» ما يعني الترخيص ومنح الحق لها بطرد مليون ونصف فلسطيني من الذين استمرّوا في ديارهم منذ عام 1948.
ان النكبة الاخطر تجري فصولها الآن، بعد ان حُضّرت بيئتها عبر ما نسميه الحريق العربي ويسميه الصهاينة الربيع العربي لانه ربيع لهم، سيوصلهم الى ما يريدون كما خطّطوا وتوقّعوا، ولا مخرج من هذه النكبة القاتلة الا في وقف النار العربية وبشكل خاص في سورية، وهي النار التي اضرمها عرب ومتطرّفون باوامر صهيونية وغربية واميركية، ومن غير العودة الى ميدان المقاومة الحقيقة وقد فتحت لها جبهة جديدة الآن في الجولان - والتخلي عن كل ما يعرض من اغراء وترغيب على طريق التصفية والاستسلام. لا إنقاذ لحقّ مغتصب ولا محافظة على حق مهدّد بالاغتصاب. فهل يستقيظ من يعنيه الامر ويعود الى ساح المقاومة ويعود محورها الذي لن يترك السلاح ولن يستقرّ له قرار قبل استعادة كامل الحقوق في فلسطين؟

ليست هناك تعليقات: