تسود صفوف المعارضة فوضى قاتلة، ويتحكم بقرارتها أناس بعضهم على قدر استثنائي ونادر من الأنانية والجهل. فبدل أن يعمل هؤلاء على إخراج المعارضة السورية، المدنية والمسلحة، من حال زجّوها فيها ملأوها بأخطائهم وتناقضاتهم وخياراتهم المشوّهة، لا نعثر لهم على جهد غير الحفاظ عليها وإدامتها، ليس فقط لأنها ارتبطت بأسمائهم وأحزابهم، وانما كذلك لأنها تعود عليهم بمغانم مادية لا يستهان بها، جعلت بعضهم مليونيرات، في حين يجوع الشعب ويعرى ويكاد يلوك البحص للصبر على معدته الخاوية. في وضع كهذا، لا عجب أن معارضين كثيرين لا يهمهم شيء غير إيجاد مسوغات لأخطائهم، وحجج يدافعون من خلالها عن ارتكاباتهم
ليست هذه الفوضى مدنية وسياسية فقط، بل هي عسكرية ومسلحة أيضاً. لو كانت مقتصرة على السياسة والأحزاب، لكن وقعها على الشعب أهون، ولأمكن إصلاحها بشيء من العمل والدراية. ولو كانت عسكرية وحسب، لكان بالإمكان التصدي لها بالتعبئة السياسية والشعبية. لكنها فوضى عامة، ذات تغذية ذاتية من جهة ومتبادلة من جهة أخرى، فالفوضى المدنية تعزز وتقوي وتنشر الفوضى في الصفوف العسكرية، والفوضى العسكرية تزيد من بؤس وفداحة الفوضى السياسية. والثورة، التي كانت ولا تزال طموح شعب يموت في سبيل حريته، تتحول إلى مصطلح يفقد أكثر فأكثر معناه الأصلي/ العملي، وتبرز فيها جوانب تجعلها أكثر فأكثر عبئاً ثقيلاً على الثوار خاصة والمواطنين عامة، وتقلبها إلى ما لم يكونوا يعتقدون يوما بحدوثه: الفوضى التي تخترق تضحيات المناضلين في سبيل الحرية، وتفرغها من شحنات الأمل الضرورية لنجاح أية ثورة تصارع طغياناً على درجة رفيعة من التصميم على القتال والقتل، يجلس قادته في كراسيهم، لا كي يتدبروا شؤون مواطنيهم، بل من أجل إدارة عمليات القتل المنظم بإحكام لا رجعة عنه
والمشكلة أن من يدّعون تولي إدارة معركة الحرية والدفاع عن الشعب لا يعترفون بدورهم في أزمة سببتها عقلياتهم وخياراتهم وتدابيرهم، مع أنهم يقرّون من حين لآخر بوجود الأزمة، كي يلقوا بالمسؤولية عنها على ظهر النظام اولاً وقبل كل شيء، ثم على ظهر بقية اطراف المعارضة، وظهر هذه الدولة العربية أو تلك وهذا الحزب أو ذاك، وأخيراً على ظهر الدول الكبرى ومنظمات الشرعية الدولية وأدواتها، وفي أحيان كثيرة على ظهر هذا الشخص أو ذاك من نقّادهم، أو المهتمين بالشأن السوري ويكلفون انفسهم بإيجاد حلول لمعضلاته العصية حتى اللحظة على اي حل. إذا كان هؤلاء ينكرون دورهم في وقوع الأزمة والفوضى، هل يستطيع هؤلاء إصلاح حالهم والعمل على إخراج سوريا
وثورتها من الانحراف الخطير الذي أسقطوها فيه؟ وإذا كانوا هم القيادة أو القسم الأكبر من قوامها، ألا ينطبق عليهم قول السيد المسيح : إذا فسد الملح فبماذا يملّح؟
والرؤوس فاسدة للأسف، ولعب فسادها دوراً خطيراً في إفساد الجسد، علماً بأن فسادها سياسي، والفساد السياسي هو في الثورات أخطر وأحط أنواع الفساد، فكيف إذا اقترن بالاستيلاء على مال الشعب المشرّد والمعذب والمقتول، وبحرمان من يستحقونه منه. بالمناسبة، فإن أخطر مظاهر الفساد السياسي يتجسد في تقديس السلاح وعبادته وربط مصير الشعب به، ورسم السياسات انطلاقاً من احكام مسبقة تزدري الواقع والوقائع، وتفرض عليهما قوالب جاهزة يحشر العقل فيها فيفقد عقلانيته ويتحول إلى عبء على الإدراك والفهم، في حين يتم تجريم واحتقار السياسة كأداة يمكن وضعها في خدمة الثورة، سواء في ما يتصل بضبط مسارها، ام بتقويم حركتها وتعزيز الالتزام بقيمها، وبترجمة ما ارادة الشعب إلى خطط عملية قابلة للتنفيذ. وقد شجّع على انتشار هذا النمط من الفساد تخلف القادة السياسي، وتدني وعيهم ومستوى ثقافتهم ونمطها، وقلة خبرتهم وعجزهم عن التأقلم مع جديد الحراك وحملته، واعتبارهم الثورة مجرد انعكاس لما يريدونه او يؤمنون به من ايديولوجيات شمولية، ويعتنقونه من أحكام عشوائية، ويعتمل في صدورهم من انفعالات... الخ.
هل من قبيل المصادفة ان قيادات معارضتنا تفتقر الى مستشارين متخصصين ومكاتب تشاورية وعلاقات منظمة بمؤسسات الدراسات والبحوث وبما يدور وراء كواليس السياسة الدولية وفي المراكز التي تصنع قراراتها، ناهيك عن متابعة التغيرات التي تحدث على مستوى المجتمع السوري وعلاقاته. وقد بلغ الجهل بها حداً دفع أحد كبار «ثوار» الائتلاف الحاليين إلى إصدار بيان قبل نشوب الثورة بشهر ونيّف يعلن فيه اعتزاله السياسة والعمل العام، لأنه لم يعُد هناك من جدوى للمعارضة، ولأن الشعب ميت، بينما يسيطر العقل السحري القائم على «التعزيم»، والحدس والتخمين، وينتفي العقل العملي القائم على حسن التقدير والتعاطي المحسوب مع الواقع ومفرداته، وعلى ربط الجهد بالهدف وبالعكس
لا عجب أن الفشل السياسي بلغ أوجه، والاستهتار بمصالح الشعب وحياته صار قاعدة العمل العام، لدى هؤلاء الفاسدين، وأن سياساتهم لم تكن شيئاً آخر غير ملاقاة سياسات النظام في منتصف الطريق، وأنهم أسهموا بكل ما لديهم من قدرة على تطييف وعسكرة ثورة سلمية قامت لنبذ الطائفية وضدها، ولم يكن بين مطالبها ما يعلو على مطلب الحرية، الذي تلاشى مع ظهور «امراء الحرب»، الذين أنتجهم أمراء الفساد السياسي. حدث هذا، بينما كان الشعب يصحح بدمائه أخطاء من وضعوا على رأسه وبويعوا قادة له، ولم يكن يعرف أياً منهم، لأنه لم يكن لأي منهم أي دور في ثورته، حتى بعد نشوبها بأشهر عديدة، قبل أن تلملم مخابرات دول اقليمية وعربية بعض هؤلاء وتضع فضائية فتاكة في خدمتهم، وتمدهم بالمال الذي اشتروا به الضمائر الرخوة والرخيصة
هل يمكن ان تنتصر الثورة بقيادات من هذا النوع، يرفض بعضها - وبصورة خاصة ذلك «الثائر» الذي اعتزل السياسة قبل شهر ونيف من قيام الثورة لأنه لا فائدة من المعارضة والشعب الميت - مطالبة التيار الديموقراطي بتوسعة الائتلاف الأعرج وإقامته على توازن وطني لا وجود له اليوم داخله، لاعتقاده أن وضعه سيفتضح وعجزه سيبدو جلياً للعيان، إن تمت التوسعة المتوازنة، بدل أن يبادر هو إلى المطالبة بهذا التوازن والعمل لتحقيقه، ليس فقط لأن تحقيقه مصلحة وطنية عليا، بل لأنه أدرك أيضاً ما الحقته عقلية المحاصصة التي اعتمدتها خلال عامين من ضرر بالعمل العام الوطني وبالحراك المجتمعي، وما تطلبته من تضحيات كلفت عشرات آلاف السوريات والسوريين حياتهم وأطالت عمر نظام كان ولا يزال قابلاً للكسر، لكنه يعيش على أخطائها أكثر مما يعيش على حساباته الصائبة وقواه الخاصة؟
يرفض الائتلاف اليوم توسعة صفوفه، تارة بحجة أنه يصعب اتخاذ قرار بتسعين عضواً، لأنه يصعب إيجاد قاعة تتسع لهم، كما قال أحد اعضائه في التلفاز، وطوراً لأن توسعته ستأكل من شرعيته، كأنه كانت له في اي يوم شرعية ما لدى الشعب، إلا إذا كانت الشرعية تصدر عن كم السباب والشتائم الذي ينهال يومياً كالمطر على رؤوس قادته وممثليه، وعما ينعم به هؤلاء من احتقار شامل وصريح لدى السوريات والسوريين.
أية شرعية تبقى لائتلاف يخون أعضاؤه رئيسه الشيخ معاذ الخطيب، ويتبادل أمينه العام والثائر الذي لم أذكر اسمه في اجتماع رسمي حديثاً يقول فيه الأول للثاني: اسكت وإلا فضحتك وكشفت فسادك ومقبوضاتك وحقيقة مواقفك، فيرد الثاني: وإذا لم تسكت أنت كشفت المستور وهتكت الأسرار وبينت ارتباطاتك، ثم لا يطلب أحد من الحاضرين فتح تحقيق رسمي في الكلام الخطير الصادر عن «قائدين» يفترض أنهما يعملان لخدمة ثورة لا أسرار تُهتك فيها، ولا كذب يمارس عليها، ولا تبعية لدول أو لمال سياسي يفسد قادتها؟
أليس هذا منتهى الفساد السياسي، القاتل للثورات والمؤسس لفوضى شاملة تنتشر اليوم في كل مكان، وتنزل هزائم جدية بالثورة؟ أم أنه لا مصلحة للمتكسّبين في إنزال هزائم كبرى بالنظام، ممن يقومون بأفعال جرمية مخربة للثورة، وبمزايدات سياسية رخيصة ومؤذية هي الوليد الشرعي لعجزها عن انتاج عقول صاحية ومواقف واضحة ومدروسة، لا تخاف السباحة ضد التيار، والاقرار بإخطائها والمبادرة طوعياً الى تصحيحها، إن هي ارتكبت اية اخطاء؟
أليس فوضى ما بعدها فوضى أن يوزع تنظيم منشورات طائفية من شأنها إثارة حرب مسيحية/ سنية في منطقة الغاب، لو لم يكن الشعب هناك محصناً بوعي وطني رفيع، من دون أن يحتج أحد من القادة المدنيين والعسكريين على هذا التنظيم، ويبادر إلى وضع مدونة وطنية ملزمة تتضمن حدوداً عليا ودنيا للعمل الثوري لا يجوز لأحد انتهاكها من دون عقاب، كي لا تضيع الثورة بلعب الصغار والفوضويين؟
يستعين النظام في التخطيط لعملياته بخبرات روسية وإيرانية على مستوى رفيع من الدراية والمعرفة، ويبادر إلى إزاحة القادة العسكريين الفاشلين واستبدالهم بغيرهم، بينما يأتمر قادة المجالس العسكرية بإمرة اصحاب مهن حرة من معلمي دهان وتلييس وكومجية وخبازين ودكنجية وبائعي خضار وشوفيرية وشرطيين ومربي دجاج وعاطلين سابقين عن العمل وكومسيونجية... الخ، فإن بقي هناك في مكان ما عسكري على قدر من النفوذ كان من جماعة سياسية تمارس الانتقائية في توزيع الأسلحة والمعونات والذخائر وتحرم مقاتلي الميدان الحقيقيين منها!
يتراكم بسرعة نوعان من الخطأ: أحدهما ينجب الفوضى، وثانيهما ينتج عنها.... إذا استمرت هذه الجدلية القاتلة، لن يطول الزمن قبل أن نجد أنفسنا امام معادلة مميتة، حدها الأول الهزيمة، والثاني موت أعداد هائلة من شرفاء الشعب المضحين بأرواحهم للحيلولة دونها
ماذا نختار: فعل كل ما هو ممكن وواجب لوقف الفوضى، أم استمرارنا في اتخاذ مواقف لا تكترث لموت شعبنا المظلوم؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق