من قال أن النظر للخلف مضيعة للوقت والجهد..؟ والحقيقة أنه حري بنا أن نتعلم من التاريخ، ونأخذ منه العبرة والفكرة والخبرة والنتائج، فهل سيظل بنا هذا التقاعس والالتفات إلى غير المجدي، واختيار المواقف حسب التلقين ورفع شعارات المصطلحات التي أريد لها أن تؤدي أهدافاً ليست لصالحنا؟ وهل سنظل نراوح أماكننا كالفاقد أصوله والقاطع درب مستقبله
فالظاهرة التاريخية هي حدث يجوز عليه التحليل والتعليل والمقارنة والبحث المستكمل أركانه، لأن الظاهرة التاريخية تتوضح ملامحها حين تدرس في سياقها الزمني والسياسي والاجتماعي والجغرافي، ويتم الخوض في أسبابها ودوافعها والبيئة الثقافية التي حدثت فيها، واشباعها بحثاً وتحليلاً واستنتاجاً، ومن ثم تتبع نتائجها على المدى القريب والبعيد..
هذه ميزة استفاد منها سدنة الغرب إلى أقصى مدى، وبات اجراءاً تكتيكياً تستخدمه الكيانات السياسية الراغبة في دعم قوتها والحفاظ على هيمنتها وامتدادها الزمني والجغرافي والحضاري، الغرب على سبيل المثال ومثلها فعلت اسرائيل درست الحرب الصليبية دراسة عميقة من جميع جوانبها، ولم تستثني حدثاً تاريخياً دون أن تدرس ظروفه وأسبابه ونتائجة من كافة الجوانب لاجراء المقارنة والمعادلة، ووضعت نصب عينيها نتائج تلك المرحلة لأنها تدرك أن العقل العربي لم يتقدم منذ ذلك العهد حتى اليوم مسافة الفتر، وتوصلت لأسباب تخلفه فكرياً وثقافياً، وبالتالي تعرفت طريقها لاستغلال التاريخ خير استغلال، وبثت في العرب فكر الفصل بين واقعهم الحضاري وتاريخهم وتراثهم، فازدادوا تباعداً عن تاريخهم وغاب عنهم الاستفادة من نتائج هذا التاريخ، فلم يمارسوا من التاريخ غير التبجح بمجد غاب وولى وأصبح مجرد أثر تاريخي غاب غيبته الطويلة بلا عودة.. ولم يدرسوا الحدث التاريخي بالعمق اللازم ليستفيدوا من الخبرة والعبرة
وراحت تجري على الانسان العربي التجربة تلو الأخرى من خلال خلق أحداث ووقائع واستفزازات تؤثر في العربي وتثير فيه رد فعل معين، حتى تيقنت في العرب طبيعتهم وطرائق تفكيرهم ونتائج رد فعلهم، فملكت الأدوات التي يمكن من خلالها أن تحركهم بالاتجاهات التي تريدها لهم فكرياً ورد فعل، وابتدعت علماً جديدا عرف بفن التأثير عن بعد في الجماعات والأفراد وتغيير المفاهيم والأفكار وحتى القيم والعادات فيتغير رد فعله مع المواقف تبعاً للنتيجة المأمولة التي تريد، ووجدت أن ارتباط هذا التأثير مرهون بتغير البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، و هو أمر في غاية الأهمية في دعم عملية التغيير هذه، فاشتغلت على ابتكار نظام العولمة ووفكر الليبرالية الحديثة، ودعمت مشاريعها بخلق مؤسسات دولية تعنى بترويج مصطلحاتها ومفاهيمها وتغيير البرمجة العصبية في دماغ العربي لاحداث الثورة في اتجاهاته العقلية والفكرية، وتوصلت للوسائل التي توائم طبيعته كما توصلت لطرائق استغلالها لكل الظروف وكيفية البدء معه وفي أي زمن تستطيع أن تطلقفيه شرارة التفجير، وإلى أي مدى يمكنها الاستمرار أو استخدام الخطط البديلة في وقتها ومكانها المناسب، ولهذا السبب نجدها تستخدم في كل بلد مستهدف وسيلة مختلفة عن الأخرى، فخرجوا علينا بجملة صراعات قابلة للتنامي في خطورتها، صراع الديانات الذي تلفع عنوان حوار الديانات، ومثلها صراع الحضارات وصراع الاقتصاد، والفروق الثقافية والحضارية،
ففي الوقت الذي استفاد فيه الغرب من خلال دراسته للتاريخ وأخذه العبرة والفائدة من نتائجها،فإن ذلك أتاح لها اكتساب علوم جديدة وخبرات أجدد، وتوصلت لنتائج جهنمية في الهيمنة على الشعوب ومقدرات الدول المهمة لاقتصادها وأموالها، وتعزيز مصالحها، فإنها استطاعت من خلال هذه الخبرة أن تستفيد من ترويج وتسويق مصطلحات تخرجه عن جادة الصواب وتفصله تماماً عن تاريخه وثقافته، ولم تأل جهداً في تجيير حالات نجاحها القليلة على أشخاص وقعوا ضحايا شيطتنها لضعف في نفوسهم وايمانهم، ورغبتهم باتيان الأعمال الجنونية ليشعروا بالتفرد حتى بالجنون متحملين هجمة الاستنكار لا لأنهم أقوياء، بل لأنهم تعرضوا لغسل دماغ مبرمج أثر على طريقة تفكيرهم وعلى قيمهم والسائد في تربية مجتمعهم، فتروج لهم اعلامياً بطرق مقززة للنفس لكن لها تأثير كبير على مجتمعهم من ناحية تفكيرها تجاه ذاتها، ولتجعل هؤلاء يحصلون على شهرة ترضي خرافة احساسهم بالتفرد، ولتجعل حالتهم قدوة للباقين، مشوهة بذلك حتى مفهوم القدوة عند العرب، مستغلة مفهوم التقليد والتبعية في التغيير لأبعد مدى ولأشد انحرافاً للعقل البشري، فإذا العربي يرضخ للتغيير ملقياً عن أكتافه عباءة عروبته وقيم ديانته وحتى هويته
العربي الآن بات مستعداً لتقبل كل ما تريده منه قوى الشر من تغيير فيه لدرجة خطيرة ومدمرة لحق الانسان والانسانية، لقد استهدفوا المرأة والطفل والشباب لأنهم يعلمون أن من يتلقى الظلم مستعد تقبل كل جديد يخرجه من عالم ظلامه، مع اعتذاري لاستخدام عبارة الظلام، لكنها واقع وقع في مرحلة ما على هؤلاء، فأصبحوا كالإسفنجة في امتصاص كل سائل مائع لا شكل له إلا من تشكله من خلال وعائه، وظلت دول القوة والهيمنة تدعم حكام الاستبداد إلى أن خلقت واقعاً جديداً في الجماعات وحولتهم إلى مشاريع ثورة يمكن تجيير اهدافها بسهولة ويسر، وكان رجالها حاضرين يسجلون اشارات نجاحم عملياً على أرض الواقع
لقد غير العربي رؤيته بمعزل عن قيود التراث، وغير نظرته للحياة والكون، لكن ليس عن طريق تراثه وقيمه وملامح هويته، فقد تغير باتجاه مخالف تماماً لاتجاه تصاعده حضارياً، وباتت تقلقه هوامش الأشياء على حساب الرئيس منها والحق فيها، تغير هو في شكله الظاهر تاركاً خيوط ارتباطه بتراثه معلقة في سديم الفضاء المظلم على انفلات غريب، وبدل أن تتسارع معه عجلة الحياة باتجاه حضاري واضح، شدته للخلف مئات السنين وعادت عليه بالسوء والتشرذم والتشتت، وبات الحال العربي مزري في وضعه الأمني والاجتماعي والاقتصادي والمالي، وبات في التالي العربي غريب عن واقع هويته، غائباً عن واقعيته، مهدراً لمصالحه، مفسداً للصالح في رؤيته،
العودة للتراث والتاريخ بالطريقة الحكيمة ليس ضرورياً فقط بل هو لازمة لزوم الهواء للتنفس للاستفادة منها كخبرة جاهزة وتجربة عملية تمنح الانسان رؤية مستقبلية لحقيقة الانسان وتطوره وبيان طرائق التحكم بالنتائج.. نحن بحاجة للتاريخ وفق النقد المنطقي والتعاطي مع السلب والايجاب بنفس القدر حتى نتمكن من الاستفادة من النتائج والتعاطي مع توصيف الحالة ووضع العلاج الشافي لها
لست بغائبة عن الوضع العربي ولا حتى الدولي وأعرف تماماً أن هناك رأين متناقضين في هذا الخصوص بالذات وبعضهم ينظرون للتاريخ على أنه حالة أتت بشكلها بما يوائم مرحلة ما في زمنها وظروفها، لا ينفع أن تدرس للاستفادة منها لوضع حالي مختلف في زمنه وتاريخه وظروفه وموجوداته، زمن مستجد بكل ظروفه وأطر حالاته، فلا قتال السيف كقتال الأسلحة الحديثة التي تقتل الجماعات في لمح البصر، ولا الحصان كالطائرة التي تصل أرض المعركة بقليل دقائق، ولا متتبع الأثر كأجهزة التنصت والترصد والرادار، ولا السهو كالأسلحة المتطورة والكيماوية يمكنها محو أثر الطرف الآخر عن الوجود لو أراد العدو ذلك وحسم النتيجة، وسرعة انتشار الخبر اليوم ليس كالسابق وقد غدا للتواصل وسائل جديدة تقلص حجم هذا العالم، لدرجة أن يستطيع أي انسان أن يشاهد الحدث في لحظة حدوثة من أي بقعة في العالم، وأن السلاح الجرثومي والكيميائي يمكنه حسم أي نتيجة لدرجة الابادة الكاملة.... لكن هناك دوماً أسئلة لا بد من وجودها.. هل الانسان حين تنسلخ عنه انسانيته ممكن أن ينسى أن الكون ليس له وحده وأن التنوع في الاجناس تتطلبها الحاجة أكثر منها العداوة، لقد ضربت أمريكا حين انسلخت عن انسانيتها اليابات بالقنبلة النووية فحسمت الحرب لصالحها، لكنها أبداً ما استطاعت ايقاف اليابان عن الحياة وعن حركة التسارع الحضاري، وقد تكون اليابان خططت لمستقبل تكون فيه يوماً محوراً للقوة لكنها استفادت من التجربة والحدث التاريخي بطرق ووسائل مختلفة عما هو معروف ومتداول، وهو بالطبع أتي نتيجة دراسة وتحليل ووضع استراتيجيات مستقبلية ترتكز على دراسة لما تعرضت له واتخاذ طرق ووسائل غير معهودة لمعالجة النتائج
إذن الحل الأمثل يتطلب أن نعتني بالخبرة من خلال دراسة الحدث التاريخي وأخذ العبرة والفائدة وتغيير نمط التفكير دون تغييب متطلبات الزمن ومتطلبات التفكير الابداعي ودون أن نتجاهل التراث والتاريخ لأخذ الخبرة والفائدة حتى لو عن طريق معرفة نفسية العدو وطرق تفكيره ورد فعله والوسائل المناسبة للتعامل معه ومع طرائق تفكيره
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق