23 نوفمبر 2013

شاهد واقرأ .. دراسة خطيرة للغاية حول جمهورية الضباط فى مصر


الجزء الاول

الجزء الثانى

فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر

المصدر
يدور الصراع في مصر بين المسؤولين الجدد المُنتَخَبين ديمقراطياً، وبين المجلس الأعلى للقوات المسلحة، حول قيادة مستقبل البلاد في حقبة مابعد مبارك. فالمجلس الأعلى، الذي حكم مصر منذ أوائل العام 2011، يسعى إلى ترسيخ وصايته على البلاد في الدستور. والسلطات المدنية تحاول بدورها انتزاع السلطة من مؤسسةٍ عسكريةٍ شكّلت دعامة الحكم السلطوي لعقود، وتسعى الآن إلى البقاء فوق القانون. وهذا الواقع إنما يضع مصير العملية الانتقالية في مصر على المحك.
بعد العام 1991، وسّعت القوات المسلّحة المصرية توغّلها التام في كلّ مجال تقريباً من مجالات نظام حسني مبارك القائم على المحسوبيات. وجرت استمالة كبار الضباط عبر وعدهم بتعيينهم بعد التقاعد في مناصب رئيسة في الوزارات والهيئات الحكومية والشركات المملوكة للدولة، ومنحهم رواتب إضافية وفرصاً مربحة تُمكِّنهم من كسب دخل إضافي وزيادة موجوداتهم المادية، وذلك مقابل ولائهم للرئيس. جمهورية الضباط هذه شكّلت أداةً أساسيةً للسلطة الرئاسية، ولاتزال تحتفظ بنفوذها السياسي المتغلغل حتى بعد سقوط مبارك، مخترقةً جهاز الدولة والاقتصاد على السواء، لا على مستوى القيادة وحسب، بل أيضاً على المستويات كافة.
لذلك، وبغية تفادي الوصاية العسكرية الصريحة، لابد أن يتوصّل كلٌّ من الرئيس الجديد، محمد مرسي، والأحزاب السياسية في مصر، إلى توافق راسخ على الحدّ من الصلاحيات الاستثنائية التي يسعى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى تضمينها في الدستور الجديد. كما أنه من الضروري تثبيت الرقابة المدنية الفعّالة على تفاصيل ميزانية الدفاع وأي مصادر أخرى للتمويل العسكري.
مع ذلك، يجب أن يلزم القادة المدنيون الحذر. فكلما أحرزوا مزيداً من التقدّم، كافحت جمهورية الضباط أكثر لإحكام قبضتها على ما لها من سلطات، مستخدمةً شبكاتها الواسعة المتغلغلة في جميع أنحاء جهاز الدولة بغية عرقلة سياسة الحكومة وإصلاحاتها، وإعاقة تأمين الخدمات العامة، وتقويض النظام الديمقراطي الناشئ. إن جمهورية مصر الثانية لن تولد إلا عندما تزول جمهورية الضباط عن الوجود.
اليد الطولى لجمهورية الضباط
قدَّمَ تسليم المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة رسمياً إلى الرئيس المنتخب محمد مرسي، في 30 حزيران/يونيو 2012، مؤشّراً مهماً على نهاية مرحلة مضطربة في عملية الانتقال السياسي في مصر وبداية أخرى يبدو أنها ستكون أطول وأكثر تعقيداً. إذ سيتعيّن على الرئيس المنتخب، في المستقبل القريب، أن يتعامل مع المجلس العسكري الذي يمارس السلطة التشريعية صراحةً، ويسعى إلى السيطرة على صياغة الدستور الجديد. أما على المدى البعيد، فسيواجه المسؤولون المنتخبون ديمقراطياً "جمهورية الضباط"، المتمثّلة بشبكات عسكرية مستديمة تخترق كل فروع ومستويات إدارات الدولة والقطاعات الاقتصادية المملوكة لها تقريباً. ومالَم يتم تفكيك جمهورية الضباط، فسوف تستخدم نفوذها السياسي الواسع وسيطرتها على الجيوب البيروقراطية والاقتصادية الرئيسة لمنع مرسي أو أي رئيس بعده من ممارسة السلطة الحقيقية، وإسقاط أي حكومة مستقبلية لاتكون على مزاجها.
واليوم بلغت جمهورية الضباط امتدادها الأوسع. فيتمتّع كبار الضباط بإمكانية الوصول إلى مجموعة واسعة من الوظائف الحكومية بعد التقاعد، وبرفض الحصول على الخدمات والسلع المدعومة، وبالسيطرة على الموارد والفرص الكبيرة ضمن الاقتصاد المدني، وبالمكانة الاجتماعية المرموقة. كما أن جمهورية الضباط تمارس سيطرة حصريّة على ميزانية الدفاع، والمساعدة العسكرية الأميركية، والشركات المملوكة للمؤسّسة العسكرية. يُضاف إلى ذلك أن جمهورية الضباط تستند إلى شعور عميق بالأحقيّة المؤسّسية والشخصية. ولذا، إن تقليصها وردّها إلى حجمها الطبيعي سيكون عملية دقيقة وطويلة تستغرق سنوات عديدة.
من جانبه، أخذ المجلس العسكري يحدّد المصالح التي يعتزم الدفاع عنها بصراحة متزايدة، فرسم الخطوط الحمراء، وأصدر تحذيرات غير مسبوقة في فظاظتها، ردّاً على كل مايعتبره تحدّياً للمكانة الاستثنائية التي يحتفظ بها لنفسه. ومن هنا تبدو المؤشّرات مثيرة للقلق. يسعى المجلس العسكري إلى فرض إدراج مواد في الدستور المصري الجديد تمنحه وصاية عسكرية دائمة. ولو نجح في ذلك، فستكون قدرة السلطات المدنية في المستقبل على وضع السياسات المستقلّة وتنفيذها لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي تواجه مصر مقيّدة بشدّة. وفي هذه الظروف، سوف تعاني أي حكومة منتخبة ديمقراطياً من عدم استقرار مزمن.
دمج المقرّبين
ظهرت جمهورية الضباط في الأصل في أعقاب إطاحة النظام الملكي على يد القوات المسلحة المصرية في العام 1952، وخصوصاً بعد تثبيت العقيد جمال عبد الناصر رئيساً للبلاد عن طريق الاستفتاء الشعبي في العام 1956. وقد جرى نزع الصبغة العسكرية جزئياً عن مجلس الوزراء إلى حدّ كبير في عهد خلفه أنور السادات في السبعينيات، واستمر هذا الاتجاه في ظلّ التهميش السياسي الظاهري للقوات المسلحة المصرية خلال رئاسة حسني مبارك، التي بدأت في العام 1981، وهو رابع عسكري يشغل هذا المنصب منذ أن تعيَّنَ اللواء محمد نجيب رئيساً للوزراء في العام 1952، ثم رئيساً للجمهورية في العام 1953. لم تَزُل جمهورية الضباط يوماً، بل توسّعت بأشكال جديدة لتصبح الدعامة الأساسية لنظام مبارك القائم على المحسوبيات، إلى أن خرجت من ظلّه لتتولّى السلطة الكاملة في أوائل العام 2011.
على النقيض من تصوير القوات المسلحة المصرية في عهد عبد الناصر على أنها عامل تغيير اجتماعي في "الثورة من فوق"، التي أطلقها الرئيس آنذاك، حيث أشرفت على إعادة توزيع الأراضي و"مَصْرَنة" القطاعين الصناعي والمالي في الخمسينيات، وثم على السياسات الاشتراكية بدءاً من أواخر العام 1961 فصاعداً. أدّى دمج القوات المسلحة ضمن نظام مبارك إلى تخلّيها الكامل عن مهمتها الإيديولوجية السابقة. فتم استقطاب كبار الضباط إلى النظام الرئاسي القائم على التمتّع بالنفوذ والمحسوبية، وجرت استمالة القوات المسلحة ونزع الصبغة والدور السياسيَّين عنها. لكن بدل أن تنأى المؤسّسة العسكرية بنفسها عن الساحة، باتت خفية بفضل حضورها الطاغي: حيث تغلغلت جمهورية الضباط في الحياة المدنية لدرجة أصبح معها وجودها أمراً اعتيادياً وطبيعياً، ليس في نظر الآخرين وحسب، بل أيضاً، وهذا الأهم، في نظر أفرادها أنفسهم.
طائفة الضباط
بعد العام 1991، سارت عملية الدمج في نظام المحسوبية التابع لمبارك، من خلال الوعد بمنح "بدل ولاء" يحصل عليه كبار الضباط عند التقاعد، وذلك مقابل امتناعهم عن الانخراط في السياسة وقبولهم لرواتب متدنّية نسبياً، خلال سنوات الخدمة في القوات المسلحة. بالنسبة إلى الغالبية العظمى، يتضمّن هذا البدل فرصة لمواصلة وظيفة في القطاع الحكومي، مايضيف راتباً ثانياً إلى المعاش التقاعدي العسكري، ولكل منهما العلاوات والبدلات المرتبطة به.
يمكن للمتقاعدين العسكريين الذين تربطهم علاقات مع جهات نافذة أن يأملوا في تعيينهم في وظائف في الجهاز الحكومي المدني توفّر لهم فرصاً مربحة خاصة تمكِّنهم من تأمين دخل إضافي أو مضاعفة موجوداتهم المادية إلى جانب الرواتب والمعاشات. بالنسبة إلى القلّة، يجري التعيين الثاني بالتزامن مع الخدمة الفعلية في القوات المسلحة، مايخدم تكوين السيَر الذاتية وبناء العلاقات تمهيداً للحصول على مناصب أفضل بعد التقاعد. في كثير من الأحيان، يكون هؤلاء الضباط في طريقهم إلى تولّي مناصب قيادية عليا في فروع القوات المسلحة التي ينتمون إليها، ويمكن أن يطمحوا إلى الانضمام إلى مجالس إدارات الشركات التجارية المملوكة للدولة بعد تقاعدهم من الجيش. وهؤلاء هم الأكثر حظاً، والأكثر ولاءً.
فضلاً عن ذلك، نشأ بدل الولاء بوصفه حافزاً قوياً للصفين الثاني والثالث من الضباط كي يمتثلوا للنظام ريثما يأتي دورهم. بالنسبة إلى الضباط الذين يتقاعدون برتبة لواء، ويحصلون على مبلغ مقطوع يصل إلى 00040 جنيه مصري (6670 دولاراً)، ومعاش تقاعدي شهري يصل إلى 0003 جنيه (500 دولار)، لابدّ أن يشكّل احتمال حصولهم على رواتب شهرية تتراوح بين 100000 ومليون جنيه (16670 إلى 166670 دولاراً)، بحسب بعض التقارير، حافزاً قوياً. لكن نظام المحسوبية بات يعمل اليوم بطريقة مغايرة للنمط السائد في الثمانينيات، عندما عمل وزير الدفاع آنذاك، المشير عبد الحليم أبو غزالة، لكي يحقّق توجُّه القوات المسلحة نحو الاكتفاء الذاتي اقتصادياً الفائدة لجميع الضباط بلا استثناء. أما في عهد المشير محمد حسين طنطاوي، الذي عُيِّن وزيراً للدفاع في العام 1991، فإن فئة قليلة من أصحاب الرتب العليا ظلّت تحقّق القدر الأكبر من المكاسب نتيجة دمجها في نظام مبارك، فيما خسر الضباط ذوي الرتب المتوسطة والدنيا الكثير من المكاسب والمزايا الصغيرة إثر تعديل الإنفاق العام في مصر بعد ذلك الزمن.
رسّخت سياسة مسار مزدوج غير رسمية هذا الفصل. وفقاً لضباط ومسؤولين حكوميين سابقين أُجريَت معهم مقابلات لإعداد هذه الورقة، فإن صغار الضباط، ممَّن يعتبرون ذوي توجّهات سياسية أو غير جديرين بالثقة، لاتتم ترقيتهم بعد رتبة رائد، وبدلاً من ذلك يستكملون سنوات الخدمة الاعتيادية ثم يتقاعدون كما هو معهود في أوائل الأربعينات من أعمارهم على أبعد تقدير. وحدهم الضباط الذين يعتبر ولاؤهم مؤكداً يتجاوزون هذا الحاجز غير المرئي. وعندما يصل هؤلاء الضباط إلى الرتب الوسطى – أي مقدم، عقيد، عميد - يميلون إلى تحمّل رواتبهم وظروفهم المعيشية المتواضعة على أمل أن دورهم سيأتي أيضاً.
هذا لايعني أن عدد المستفيدين كان متواضعاً. بل على العكس تماماً، إذ تضخّمت "طائفة" الضباط الكبار، كما وصفها عالم الاجتماع المصري أنور عبد الملك في أوائل الستينيات، بشكل كبير نتيجة لعدد من التدابير. وكانت باكورة ذلك استحداث رتبة عسكرية رفيعة جديدة، هي فريق أول، في نهاية فترة التدخّل المصري في الحرب الأهلية في اليمن بين العامين 1962 و1966. هذا أدى إلى زيادة كبيرة جداً، ودائمة، في عدد الضباط الذين يمكن ترقيتهم إلى رتبة فريق ولواء.
إضافةً إلى ذلك، ظلّ احتياج القوات المسلحة إلى كبار الضباط ثابتاً على الرغم من انتهاء حالة الحرب مع إسرائيل في العام 1979، حيث يبلغ عدد الجنود في الخدمة الفعلية 468500، و479000 في الاحتياط، و72000 في القوات شبه العسكرية المرتبطة بالقوات المسلحة. كما توفّر القوات المسلحة عدداً كبيراً من كبار الضباط التنفيذيين والإداريين في وزارة الداخلية ومديرية المخابرات العامة التي تتبع الرئيس.
ولعل مازاد من عدد كبار الضباط هي الترقية التلقائية من رتبة عميد عند التقاعد (السن القصوى 54 سنة) إلى رتبة لواء. هذا يزيد من مكافأة نهاية الخدمة والمعاش التقاعدي والعلاوات والبدلات الأخرى، ويزيد إلى حدّ كبير عدد الألوية المتاحين للتعيين في الجهاز الحكومي المدني والشركات التجارية المملوكة للدولة.
يرتكز هذا النظام أيضاً إلى آلية "الاستدعاء"، وهي العقود التي تبلغ مدّتها ستة أشهر قابلة للتجديد والتي يتم إصدارها لجميع الضباط الكبار عند التقاعد، وتسمح لهم بالبقاء في الزي العسكري وفي الخدمة الفعلية (باستثناء قيادة العمليات). ويمكن تجديد عقود الاستدعاء لمدة تصل إلى عشر سنوات، علماً أنها قد تمتدّ في بعض الأحيان إلى ضعفي هذه المدة. وتنفّذ العقود حتى لو كان المتقاعدون يشغلون مناصب أخرى مقابل راتب في القطاع المدني، سواء كان عاماً أم خاصاً. وبالنسبة إلى حَمَلة رتبة لواء، الذين يبلغ سن تقاعدهم الأقصى 58 سنة، فالاستدعاء يعزّز عضويتهم في جمهورية الضباط ويمدّ نفوذ القوات المسلحة بشكل كبير خارج الحدود الرسمية للمؤسّسة العسكرية.
عوامل الدمج في نظام محسوبية مبارك
ثمّة عوامل ثلاثة متضافرة دفعت دمج جمهورية الضباط في نظام المحسوبية التابع لمبارك. كان أولها تصميم مبارك على ألا يجازف بصعود رجل عسكري قوي آخر يمكن أن يشكّل تحدّياً لسلطته. وقد انعكس هذا في قيامه في العام 1989 بإقالة وزير الدفاع أبو غزالة، الذي كان يتمتع، بحسب اعتقاد الكثيرين، بشعبية تفوق شعبية رئيس الجمهورية، سواء داخل القوات المسلحة أم بين عامة الشعب. وبعد فترة فاصلة تولّى خلالها اللواء يوسف صبري أبو طالب (الفريق لاحقاً)، والذي يحظى بتقدير كبير، هذا المنصب، عُيّن طنطاوي وزيراً للدفاع في أيار/مايو 1991. في ظلّ طنطاوي، الذي وصفه ضباط مصريون لم يكشف عن أسمائهم بأنه "كلب مبارك"، حسب مانُقِل عنهم في برقية للسفارة الأميركية في العام 2008 نشرها موقع "ويكيليكس"، تم استقطاب المستوى القيادي في القوات المسلحة إلى قلب نظام المحسوبية.
ثانياً، أدّى الصراع المتصاعد مع الجهاديين الإسلاميين المسلحين، والذي ازداد مرارة بعد محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا في العام 1995، إلى تسريع ضمّ سلك الضباط في القوات المسلحة إلى داخل نظام مبارك، علماً أن ذلك لم يكن واضحاً في البداية، نظراً إلى الاتجاه نحو زيادة الاعتماد على الأجهزة الأمنية. فقد ازداد عديدها ليصل إلى مايقدّر بـ1.4 مليون، وفقاً لبعض التقديرات، عند إطاحة مبارك، أو مايعادل قرابة 1.5 أضعاف حجم القوات المسلحة واحتياطيها مجتمعَين. في غضون ذلك، ارتفعت ميزانية وزارة الداخلية السنوية ثلاثة أضعاف مقارنةً بالزيادة التي شهدتها ميزانية الدفاع (أنظر الجدول 1).1
شاع الاعتقاد أن ظهور "الدولة الأمنية" قد همّش القوات المسلحة، لكن صعود نجم الأجهزة الأمنية في المعركة ضد الإسلاميين، الذي حوّل الأنظار عن المؤسسة العسكرية، كان نوعاً من ذرّ الرماد في العيون لأن القوات المسلحة استمرت في لعب دور لاغنى عنه في المحافظة على النظام. أصبح المتقاعدون العسكريون يشغلون وظائف في جميع مستويات الحكم المحلي، حيث عملوا كذراع تنفيذية وأمنية موازية تتبع في نهاية المطاف الرئيس من خلال المحافظين الذين يعيّنهم. كما قامت القوات المسلحة، ولاتزال تقوم، بتقديم الضباط من الخدمة الفعلية لتولّي عدد كبير من المناصب القيادية والإدارية العليا في وزارة الداخلية ومديرية المخابرات العامة، مايدلّ ويؤكّد على دور القوات المسلحة العضوي في الحفاظ على نظام مبارك.
أما العامل المتضافر الثالث فتمثّل في نقطة التحوّل التي حدثت في العام 1991 عندما أطلق مبارك حملة كبرى لخصخصة المشاريع الاقتصادية التابعة للقطاع العام، على خلفية شطب جزء كبير من ديون مصر الخارجية، وإعادة التفاوض بينها وبين صندوق النقد الدولي على اتفاقية العام 1987، في أعقاب حرب تحرير الكويت. لم تؤدِّ الطريقة التي أُديرَت بها الخصخصة إلى "رأسمالية الدولة" ولا إلى اقتصاد سوق حرة حقيقي، بل إلى تطوّر رأسمالي مشوّه. وقد وفّر ذلك فرصة لكبار الضباط في القوات المسلحة للوصول إلى حيِّز كبير من الاقتصاد المصري الذي بقي مملوكاً للدولة. ويتم هذا الاحتواء للضباط ليس فقط من خلال التعيين في مجالس إدارات تلك الشركات، بل أوجدت الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية الجديدة في الفترة التالية فرصاً جديدة للضباط السابقين المتواجدين في الإدارة المدنية، للحصول على الثروة أو لزيادة أملاكهم وموجوداتهم.
العودة إلى المجتمع العسكري 
يمكن اعتبار جمهورية الضباط التي عاودت الظهور بعد العام 1991 شكلاً مسخاً من "المجتمع العسكري" الذي قام في عهد عبد الناصر، وفقاً للوصف الذي أطلقه آنذاك أنور عبد الملك. إذ كان الدمج في نظام مبارك يعني أن مبارك هو الذي يتولّى "مجمل سلطة القرار السياسي، وليس مجرّد السيطرة على جهاز الدولة".2 بقيت القوات المسلحة لاعباً أساسياً في "نظام الحكم متعدّد الأطراف المتصارعة" المؤلّف من قوى مؤسسية وسياسية متنوّعة بإشراف الرئاسة، ومنها الأجهزة الأمنية والاستخبارية، والجماعات الاقتصادية الرئيسة، والحزب الوطني الديمقراطي، وخصوصاً عقب صعود نجم جمال مبارك، نجل الرئيس، ومَن حوله من وزراء ورجال أعمال متنفّذين بعد العام 2000، الذي هدّد بإخفاء أو تقليص نفوذ القوات المسلحة.3 وعلى الرغم من تغلغل جمهورية الضباط إلى أعماق جهاز الدولة، لم يُضفِ ذلك على المؤسسة العسكرية دوراً سياسياً استثنائياً. في الواقع، لم يكتَفِ مبارك بتطبيق تحذير عبد الناصر بأننا "لانريد سياسيين داخل الجيش"، بل عكس أيضاً وبنجاح أطروحة عبد الناصر القائلة بأن "الجيش ككلّ يشكّل في حدّ ذاته قوة في العملية السياسية الوطنية".4 إن عملية دمج كبار الضباط من قبل مبارك، التي ضمنت ولاءهم وإذعانهم له، أبعدتهم في الوقت نفسه عن واقع مصر الاجتماعي والسياسي، وقلّصت قدرتهم على المبادرة أو الإبداع، لكنّها لم تقلّص من رغبتهم في حماية سلطاتهم المكتسبة وامتيازاتهم المتراكمة.
يظهر ذلك الإرث جلياً اليوم في سلوك المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تسلّم مقاليد الحكم التنفيذية والتشريعية الكاملة من مبارك في 11 شباط/فبراير 2011. ويتألّف المجلس في العادة من وزير الدفاع ومساعديه الأساسيين (للشؤون المالية والقانونية وغيرها)، ورؤساء أركان فروع القوات المسلحة الرئيسة، ورؤساء الاستخبارات العسكرية وغيرها من المديريات، وقادة المناطق العسكرية الخمس. ولقد عمل المجلس الأعلى جاهداً لإقناع الضباط وضباط الصف والأفراد بأنه يمثّل مصالح القوات المسلحة ككلّ، وليس فقط مصالح كبار الضباط أو الشريحة العليا منهم. لكن، في الواقع، سعى المجلس إلى الدفاع عن الموقع المتميّز للمؤسسة العسكرية، التي تمتطي جهاز الدولة واقتصادها من خلال شبكات الضباط العاملين والمتقاعدين التي تتكوّن منها جمهورية الضباط. وإذا مابدت الفواصل بين القوات المسلحة والمجلس الأعلى وجمهورية الضباط غير واضحة، فيعود ذلك إلى حقيقة أنها مغشية وضبابية فعلاً. فإن ذلك الغموض، ومعه إمكانية التنفّذ من هيئة إلى أخرى وحرية التصرف، هو بعينه مايجهد المجلس العسكري لإدامته.
غير أن المجلس العسكري اضطر، على الرغم من ذلك، إلى الخضوع إلى عملية اختبار وتعلُّم غير مألوفة حين خرج من ظل مبارك واحتلّ موقع الصدارة في السياسة المصرية في أوائل العام 2011. فقد وجد صعوبة جمة في تقديم رؤية اجتماعية أو برنامج اقتصادي أو خطة سياسية متكاملة للعملية الانتقالية، وتعثّر مراراً حين حاول أن يصوغ تحديداً واضحاً لمصالحه أو أن يبتكر صيغاً دستورية لحمايتها. لم يكن المجلس رافضاً تماماً للسماح بحدوث انفتاح سياسي وإعلامي، كما لم يكن قادراً بشكلٍ كامل على التنبّؤ به أو الحيلولة دون حدوثه. لكنه كان أيضاً عاجزاً عن تصوّر أي سياسة تتطلّب إصلاحاً جوهرياً أو تغييراً هيكلياً إذ يعتبر أن ذلك ينطوي بالضرورة على تهديد ضمني له، فكيف به أن يشرع بمثل هذه السياسة. بل على العكس تماماً، عندما وجد المجلس العسكري نفسه في مواجهة عملية انتقالية غير مألوفة ومقلقة، لجأ إلى قيمه الأبوية وإرثه السلطوي، فاتخذ المواقف المتحفّظة والدفاعية أكثر فأكثر كلما شعر بوجود تحدٍّ مباشر لمكانته أو مصالحه الأساسية. وهذا يفسّر الكثير من ارتباكه وتردّده وتغييره المتكرر للمسار طيلة تعامله مع العملية الانتقالية.
مع ذلك، كان المجلس العسكري يصرّ بعناد تام على احتكار السلطة لتحديد الترتيبات الانتقالية، وتسلسلها، وجدولها الزمني. فقد رفض أن يحذو حذو نظيره الجيش التونسي، الذي ترك مهام تخطيط العملية الانتقالية وإدارتها بعد هروب الرئيس زين العابدين بن علي في كانون الثاني/يناير 2011، إلى "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"، المؤلّفة كلياً من المدنيين. في المقابل، أجاب المجلس العسكري لمحاوريه من المدنيين الذين اقترحوا ترتيباً مماثلاً بعد إطاحة مبارك: "نحن لانعمل على هذا النحو. لانعمل من خلال لجان مدنية عسكرية مختلطة". لكن تبيَّن أن إدارة المجلس العسكري للعملية الانتقالية في مصر تتّسم بالفوضى، إذ شوّش المجلس على العملية الدستورية، وأخّر التشريعات التي تحتاج إليها البلاد جداً، وتدخّل بطريقة مزاجية في الإدارة المالية؛ كما فشل في إصلاح وزارة الداخلية وإعادة العمل الشرطيّ، مع أن هذا كان أحد المجالات التي كان يمكن أن يحقّق فيها تقدّماً حقيقياً.
هذا السجل الحافل يؤكّد أن تصوير المجلس العسكري لنفسه منذ إطاحة مبارك بأنه وصي على الثورة المصرية، ينطوي على قدرٍ كبير من التحوير. فهو لم يبدأ بالعملية الانتقالية، بل اضطلع فيها في أحسن الأحوال بدور القابلة الذي فرضته عليه حركة الاحتجاج الجماهيرية، أو تصرّف في أسوأها على نحو استباقي، حيث أزاح الرئيس لكي يجهض حصول تغيير ثوري أعمق ويحمي نفسه. ويجدر التذكير بأن طنطاوي قد شغل منصب وزير الدفاع على مدى السنوات العشرين الأخيرة لحكم مبارك، وهي أطول فترة يمضيها أي شخص في هذا المنصب منذ تأسيس الدولة المصرية الحديثة والجيش العصري على يد محمد علي في أوائل القرن التاسع عشر.5 كان طنطاوي، إلى جانب أعضاء آخرين في المجلس العسكري، بمَن فيهم كبار مساعديه في وزارة الدفاع، قد تجاوزوا بالفعل سن التقاعد الرسمي المحدّد لكبار ضباط القوات المسلحة، وذلك قبل نقل السلطة إليهم في العام 2011 بوقتٍ طويل. وهذا لايمكن تفسيره إلا من خلال دورهم في حماية نظام المحسوبية الذي أقامه مبارك والاستفادة منه. البقاء كل هذه المدة الطويلة في المنصب إنما يعكس الولاء السياسي من جانب طنطاوي وزملائه الضباط لمبارك، وليس كفاءتهم المهنية العسكرية.
هذا الاستنتاج أكّده التقييم المسرّب من موظفي السفارة الأميركية في برقية تعود إلى العام 2008 بأن "الجهوزية التكتيكية والعملياتية للقوات المسلحة المصرية قد تراجعت" في عهد وزير الدفاع. ويصف ضباط ومسؤولون أميركيون مطّلعون على برامج المساعدات العسكرية لمصر القوات المسلحة المصرية بأنها لم تعد قادرة على القتال. أما الخبيران البارزان في الشؤون المصرية، كليمنت هنري وروبرت سبرنغبورغ، فيقولان بصراحة: "ليس الجيش المصري قوة محترفة منيعة كما يصوِّره الكثيرون. فهو مترهِّل وتتكون نواته من ضباط مدلّلين تم تسمينهم ضمن نظام المحسوبية الذي أقامه مبارك. أما تدريبه فيتّسم بعدم الانتظام، في حين تعاني معداته من افتقار شديد إلى الصيانة، كما يعتمد على الولايات المتحدة للحصول على التمويل والدعم اللوجستي".6 ويظهر ضباط مصريون صغار تم الاستشهاد بهم من دون ذكر أسمائهم في برقيات ويكيليكس وفي تقارير صحفية نشرت مؤخّراً - إدراكاً مماثلاً لهذا التراجع، في حين يشكو كبار الضباط المتقاعدين الذين تمَّت مقابلتهم في إعداد هذه الورقة من كون القوات المسلحة لاتزال تتمسك بعقيدة العمليات السوفييتية ولاتزال تحتاج إلى تطوير قدرة حقيقية في العمليات القتالية بالأسلحة المشتركة، على الرغم من أن الأميركيين يتولّون منذ ثلاثة عقود أعمال التدريب إلى جانب إقامة المناورات الأميركية المصرية المشتركة.
باختصار، يبدو أن القوات المسلحة أصبحت أكثر انغلاقاً من دون أن تكتسب الكفاءة كقوة مقاتلة. وبمعزل عن المظهر الخارجي للمؤسسة العسكرية المصرية، وإبرازها لذاتها كمؤسّسة تتسم بالحرفيّة في المقام الأول، أصبحت بلا ملامح واضحة، تمثّلها شبكات الضباط غير الرسمية التي تتغلغل في جهاز الدولة واقتصادها عبر نقاط لاتعدّ ولاتحصى، بقدر ماتمثّله فروعه القتالية الرسمية. لم تُختبَر القوات المسلحة في القتال منذ أربعة عقود – باستثناء مساهمة محدودة في عملية "عاصفة الصحراء" في الكويت في العام 1991، ويصفها الضباط الأميركيون بأنها كانت "خائبة" - وبالتالي يبدو أن الروح الجماعية لدى كبار الضباط تعتمد على الذهنية الدفاعية والتصوّر المحافظ بأن الإصلاح والتغيير يشكّلان مصدر تهديد كامن لهم، أكثر من اعتمادها على شعور حقيقي بأنها تضطلع بمهمة وطنية. هذا التراجع في الاحتراف المهني لدى القوات المسلحة المصرية وفاعليتها العملياتية ناتج إلى حدّ كبير عن التحوّل الهام الذي شهدته جمهورية الضباط بعد العام 1991.
جمهورية الضباط، النموذج المُعدَّل
من الشائع أن يكون للمؤسّسة العسكرية في الأنظمة الديكتاتورية حضور كبير ليس في المواقع الحكومية وحسب، بل أيضاً في المجالات التي تقع تماماً خارج نطاق اختصاص القوات المسلحة في مجالات الإدارة العامة، والبنية التحتية، والخدمات، والشرطة وأجهزة حفظ النظام العام، وفي مجالات الاقتصاد التي تسيطر عليها الدولة. وقد سارت عملية تنحية القوات المسلحة عن المشاركة العلنية أو المباشرة في السياسة في عهد مبارك جنباً إلى جنب مع تغلغل كبار الضباط في جهاز الدولة، وبالتالي في الاقتصاد السياسي في البلاد، حيث بلغ ذلك حدّاً غير مسبوق. وبعد أن انحسرت جمهورية الضباط إلى حدّ ما في عهد السادات، وخلال العقد الأول من حكم مبارك، نجد أنها تتوغل حالياً في القطاعين المدني والاقتصادي على نحوٍ أوسع بكثير، وهي تفعل ذلك لا على مستوى "المرتفعات المُسَيطِرة" وحسب، بل أيضاً على جميع المستويات.
نظرة تشريحية
كتب عبد الملك في العام 1967 أن الضباط الذين "نزعوا زيّهم العسكري وتخلّوا عن كل امتيازات الرتبة... حصلوا في المقابل على وظائف رئيسة في الدولة، مشكّلين بذلك الأغلبية الساحقة من كبار الموظفين الدبلوماسيين، ونسبة كبيرة من رؤساء ومديري وأعضاء مجالس الشركات الحكومية، إلخ. كما شكلوا نسبة كبيرة جداً من الوزراء ووكلاء الوزراء، والمدراء العامين ومدراء الوزارات المختلفة، إضافةً إلى السواد الأعظم من كبار العاملين والإداريين في الأجهزة الأمنية، فضلاً عن نسبة كبيرة جداً من المناصب الرئيسة في مجال الثقافة والصحافة والإذاعة والتلفزيون".7 وقدّر عبد الملك أن قرابة 1500 ضابط "تم تعيينهم في المراتب العليا في المؤسسة غير العسكرية" بين العامين 1954 و1962. 8أدّى إضفاء الصبغة المدنية على المجلس الوزاري وإدارات الدولة في عهد السادات إلى تغيير هذه الصورة بشكل ملحوظ مع بداية الثمانينيات، لكن المثير للاهتمام أكثر هو أن تشخيص عبد الملك يصلح مجدداً وبشكل دقيق لوصف الوضع الحالي.
اليوم، يكاد لايوجد دبلوماسيون مصريون (عدا الملحقين العسكريين) من القوات المسلحة، كما أن عدداً قليلاً من كبار المسؤولين في وسائل الإعلام ينتمون إليها سابقاً، مع أن مَن انتمى إليها منهم يشغل مناصب رئيسة في تلك الوسائل. لكن ارتفعت نسبة الوزراء ذوي خلفية عسكرية مجدداً خلال حكم مبارك، مقارنةً بعهد السادات: فإن الضباط السابقين في القوات المسلحة قد احتفظوا بشكل شبه دائم بحقائب الدفاع، والإنتاج الحربي، والطيران المدني، والتنمية المحلية (الحكم المحلي)، كما أمسك بعضهم أحياناً بوزارات أخرى مثل النقل، والاتصالات، والبيئة، والتضامن الاجتماعي (الشؤون الاجتماعية). إضافة إلى ذلك، كثيراً مايكون وكلاء الوزراء والمدراء العامون للوزارات من العسكريين المتقاعدين.
بيد أن التركيز على عدد الضباط السابقين في المناصب الرفيعة، والذي يُعتبر تقليدياً مؤشّراً على عسكرة (أو تراجع عسكرة) السياسة والحكومة في مصر، يؤدّي إلى حجب عدد العسكريين المتقاعدين في المناصب الإدارية في جميع مستويات الإدارات المدنية والشركات التجارية المملوكة للدولة. فعدد هؤلاء يصل إلى الآلاف، وذلك خلافاً لما كان عليه الحال في عهد عبد الناصر، حيث كانوا يتركّزون في المراتب العليا من تلك القطاعات، وقُدِّر عددهم آنذاك بـ1500. كما أن أغلبية الذين يشغلون المناصب العليا هم ممَّن يحملون رتبة لواء، مايعني أن هناك آخرين كثراً وأقل وضوحاً للعيان من "الضباط الإداريين" من الرتب المتوسطة في وظائف أدنى في جميع أجهزة الدولة. فضلاً عن ذلك، يتوفّر الضباط السابقون على خيار البقاء في زيهم الرسمي إذ كانوا لايزالون يخدمون المؤسسة الدفاعية، والاحتفاظ عموماً بـ"امتيازات الرتبة"، وهذا أيضاً خلافاً لما كان عليه الحال في عهد عبد الناصر.
تُجسِّد جمهورية الضباط الشاسعة والمترامية الأطراف اليوم نتيجة تراكمية لوظيفتين رئيستين قامت بهما خلال السنوات العشرين الأخيرة من حكم مبارك. فقد عملت، أولاً وقبل كل شيء، كحامي السلطة الرئاسية للملاذ الأخير وأداة للمحافَظة على النظام عبر تغلغله البيروقراطي في الدولة المصرية. ولم يمارس سلطته من خلال السيطرة المباشرة على مجلس الوزراء، كما كان عليه الحال في عهد عبد الناصر. وتركّز التغلغل البيروقراطي بشكل خاص على هيئات رقابية وإدارية منتقاة، وعلى الحكم المحلي، وعلى الأجهزة الأمنية ولو بطريقة يشوبها التوتّر أحياناً.
وتمثّلت الوظيفة الثانية في توفير مسارات لمواصلة الوظيفة وضمان الدخل المالي لكبار الضباط في مرحلة مابعد التقاعد، وتأمين مصادر دخل رئيسة للقوات المسلحة ككلّ. ولعل هذا يشكّل الإرث السياسي لعملية الدمج في نظام مبارك، الذي تسعى جمهورية الضباط إلى الاحتفاظ به كأولوية اليوم. وقد تحقّق ذلك من خلال اختراق القوات المسلحة لجهاز الخدمة المدنية بشكل عام، والسيطرة على بعض الخدمات والبنية الأساسية والأشغال العامة، والبرامج المتعلّقة بالأراضي (حيث يتّخذ الكثير منها حالياً شكل شركات تجارية مملوكة للدولة)، والسيطرة الحصرية على المشروعات الاقتصادية المملوكة للمؤسّسة العسكرية.
الأجهزة الرقابية والإدارية المركزية
من بين أجهزة الرقابة المتعدّدة في الدولة المصرية، يمكن القول أن هيئة الرقابة الإدارية تُعتبر الأهم. وهي تمثّل أيضاً النموذج الأكثر أهمية لاختراق المؤسسة العسكرية للإدارات المدنية. تأسّست هذه الهيئة في العام 1958 للتحقيق في الانتهاكات الإدارية والمالية، ويشمل اختصاصها مكافحة الفساد في جميع أنحاء البلاد، وفي أجهزة الدولة كافة، باستثناء القوات المسلحة، التي لاتخضع إلى أي رقابة مدنية عدا رقابة الرئيس، الذي كان دائماً عسكرياً سابقاً إلى أن تم انتخاب مرسي.
كان من الواضح أن الهدف من هذه الهيئة هو أن تكون أداة للسلطة الرئاسية. فهي واحدة من بين "عدد كبير من الأجهزة والمبادرات الرامية إلى مكافحة الفساد... والتي يسيطر عليها الرئيس بشكل مباشر أو غير مباشر".9 ويطابق دورها دور هيئة النيابة الإدارية، التي أنشئت بموجب قانون وُضِع في العام 1954 لإجراء تحقيقات قضائية في الفساد المالي والإداري في جهاز الخدمة المدنية، كما يتقاطع مع وظائف الجهاز المركزي للمحاسبات، الذي كان أيضاً يرفع تقاريره حصراً إلى الرئيس منذ العام 1988. الفرق المهم هو أن رئيسَي وموظفي الهيئتين الأخيرتين هم من المدنيين، وتحديداً من المحامين والمحاسبين المؤهّلين، في حين يأتي رئيس وكبار مسؤولي هيئة الرقابة الإدارية دائماً من القوات المسلحة، حيث يرأس خليط من ضباط الجيش والشرطة أقسامها التنفيذية وفروعها الإقليمية.
في ظل حكم مبارك، عملت هيئة الرقابة الإدارية كوسيلة لترهيب المعارضين ومعاقبتهم، والسيطرة على مؤيّدي النظام. وكان بالإمكان أيضاً كبح جماحها عندما تهدّد تحقيقاتها السياسيين أو رجال الأعمال المقرّبين من الرئيس. في العام 1996، استُبدِل رئيسها اللواء أحمد عبد الرحمن، بعد إصراره على متابعة التحقيق في قضية فساد ضد وزير الإسكان إبراهيم سليمان.10 وكان بديله اللواء هتلر طنطاوي أكثر إذعاناً على مايبدو، حيث جدّد له مبارك ثلاث مرات. بعد تقاعد طنطاوي في العام 2004، نُشِرَت اتهامات بأنه استغلّ منصبه للحصول على عدد من الأملاك، بما في ذلك سكن ضباط مدعوم وأراض في مناطق تطوير عالية القيمة، حيث يُزعَم أنه نقل بعضها إلى أولاده وأحفاده.11 كما جُدِّد لخليفة طنطاوي، اللواء محمد التهامي، أربع مرات منذ أن انتهى تعيينه الأصلي في العام 2008، كان آخرها من جانب المشير طنطاوي رئيس المجلس العسكري في كانون الأول/ديسمبر 2011، على الرغم من المزاعم بأن التهامي كان أيضاً متورّطاً بممارسات فاسدة.
إضافة إلى ذلك، تمثّل هيئة الرقابة الإدارية وسيلة لاستعادة اختراق الجيش لإدارات الدولة. إذ يتلقى جميع وزراء الحكومة بشكل روتيني قوائم من هذه الهيئة - وكذلك من هيئة التنظيم والإدارة في القوات المسلحة - تحوي أسماء ومؤهّلات الضباط الذين شارفوا على التقاعد ويسعون إلى الحصول على وظائف جديدة. للوزراء إسمياً الحرية في عدم توظيف أي منهم، لكن من الواضح أن بعض الوزارات والإدارات المدنية أصبحت أشبه بإقطاعات عسكرية يشغل فيها الضباط السابقون دائماً المناصب العليا.
ويتعزّز هذا النمط من خلال عمل الهيئة المركزية للتنظيم والإدارة، المسؤولة عن تطوير وإصلاح جهاز الخدمة المدنية وعن "التعبئة للمجهود الحربي" وفقاً للمادة 8 من القانون الرقم 118 للعام 1964، الذي أنشئت بموجبه. رئيسها الحالي، اللواء صفوت النحاس، انضم أصلاً عند تقاعده من سلاح الجو، إلى طاقم مكتب رئيس الوزراء الدكتور عاطف عبيد، ليشغل منصب الأمين العام لمجلس الوزراء إلى أن تم تعيينه في الهيئة المركزية في العام 2004، مايؤكّد على وجود الحلقة التي تتعزّز ذاتياً من الشبكات والتعيينات لعسكريين في المناصب الإدارية المدنية.
الحكم المحلي
يشهد مجال الحكم المحلي المجال أكبر تركيز للضباط المعيَّنين في مناصب مدنية، حيث يلعبون دوراً مباشراً في المحافظة على النظام، على جميع مستويات السلطة البلدية بدءاً من المحافظات وصولاً إلى أحياء المدن والقرى. وقد برز الحكم المحلي أساساً في عهد عبد الناصر باعتباره وسيلة مهمة لتأكيد سيطرة الرئيس على أنحاء البلاد، وذلك عبر موازاة، والحدّ من، سلطات ومسؤوليات وحتى ميزانيات الوزارات الحكومية المركزية وغيرها من الهيئات والسلطات المدنية العامة. المحافظون هم ممثلو الرئيس وأعلى المديرين التنفيذيين وأرفع مسؤولي أمن في كل محافظة. ويُعتبَر التقسيم الموازي لمصر إلى خمس مناطق عسكرية مُكمِّلاً للهيمنة على الهيئات المدنية، باعتبار أن إحدى مهام قادة المناطق العسكرية هي التنسيق مع المحافظين والسلطات المدنية المحلية لضمان الأمن الداخلي.
ظل هيكل الحكم المحلي يتّسم بدرجة عالية من التراتبية الهرميّة منذ العام 1960، عندما أُعيد تقسيم البلاد إلى 26 محافظة، حيث تتدفّق السلطة حصراً من أعلى إلى أسفل. يوجد في مصر حالياً 27 محافظة، في أعقاب عملية إعادة التنظيم الأخيرة التي شهدها العام 2011، علماً أن محافظة القاهرة تنقسم أيضاً إلى أربع مناطق إدارية، يرأس كلاً منها نائب محافظ، ثلاثة منهم ضباط سابقين. في المرتبة الهرمية التالية يوجد 166 "مركزاً" و200 منطقة حضرية توصَف بأنها "مدن" على مستوى البلاد ككلّ (وفقاً لإحصائيات العام 2002). ثم تأتي مئات أحياء المدن– كان في القاهرة وحدها 23 حياً في العام 2002، و34 بحلول العام 2012 وفقاً لإحدى الإحصائيات، إلى جانب أحياء الجيزة، التي تشكّل محافظة منفصلة، علماً أنها جزء من مدينة القاهرة الكبرى - و4617 قرية، منها 920 قرية كبيرة بما يكفي ليكون لها مجلس محلي خاص بها (بحسب إحصائيات العام 2002).
يُشكَّل الهيكل بكامله عن طريق التعيين من أعلى. إذ يعيّن رئيس الجمهورية المحافظين في حين يتولّى رئيس الوزراء تعيين رؤساء المراكز والمدن والأحياء؛ ويعيّن المحافظون رؤساء القرى، أما وزارة الداخلية فتُعيِّن العمدة في القرى الصغيرة "التابعة" التي ليس فيها مجالس محلية. فهناك مجلس محلي على كل مستوى بدءاً من المحافظة نزولاً، يتألّف أعضاؤه من الموظفين برواتب الذين يعيّنهم رؤساء كل مستوى كي يتولّوا المهام التنفيذية، ويرأس كل مجلس أمين عام وأمين عام مساعد. وهناك هيكل موازٍ من "المجالس الشعبية المحلية" المنتخبة التي توفّر لمسة ديمقراطية، لكنها لمسة تجميلية بحتة كونها لاتملك أي صلاحيات تنفيذية على الإطلاق، وتقوم فقط بتقديم نصائح "استشارية" إلى جانب الموافقة اسمياً على الميزانيات المحلية.
وباستثناء "المجالس الشعبية المحلية" – وذلك لسبب واضح يتمثّل في أنها لاتتمتّع بأي صلاحيات أو موارد تُذكَر – يوجد عدد كبير من الضباط السابقين في مستويات وأنحاء هيكل الحكم المحلي كافة، مايوفِّر لهم الأمان الوظيفي بعد التقاعد، فيما يخدم وجودهم بسط نفوذ السلطة الرئاسية لتشمل كل ركن من أركان البلاد. يجدر الذكر أن 50-80 في المئة من المحافظين لهم خلفية عسكرية في أي وقت من الأوقات منذ التسعينيات، في حين جاء 20 في المئة آخرين من الشرطة أو أجهزة الأمن الداخلي.12فضلاً عن ذلك، يجري توزيع مناصب المحافظين وفقاً لنمط واضح، حيث يتولّى عادةً قادة المناطق العسكرية السابقون (وهم من القوات البرية) مناصب المحافظين في محافظات القاهرة (أو المناطق الفرعية الأربع)، والسويس وسيناء، على سبيل المثال، في حين يتولّى الدفاع الجوي وحرس الحدود والبحرية مناصب المحافظين في المحافظات الغربية والجنوبية والإسكندرية ومحافظة البحر الأحمر.
غير أن تركيز المعلِّقين عادةً على عدد المحافظين الذين يتم استقدامهم من القوات المسلحة يُخفي بشكل صارخ الحجم الحقيقي لتوغّل المؤسّسة العسكرية في الحكم. فالضباط المتقاعدون يشغلون نسبة أكبر من المناصب الثانوية، مثل نائب المحافظ، ومدير مكتب المحافظ، والأمين العام والأمين العام المساعد للمجلس المحلي في المحافظة. ويتكرّر هذا بشكل واسع النطاق في كل المستويات الإدارية الدنيا من المراكز والمدن وأحياء المدن والقرى. ويكفي ذكر مثال واحد لتلخيص النمط العام: في 22 شباط/فبراير 2012، وقَّع وزير الإنتاج الحربي، اللواء علي إبراهيم صبري، اتفاقاً لتطوير سوق الجملة في محافظة الجيزة، وقد وقَّع عن الطرف الآخر الرئيس التنفيذي لسوق الجملة اللواء محمد سامي عبد الرحيم، وذلك بحضور نائب محافظ الجيزة اللواء أسامة شمعة والأمين العام للمجلس المحلي اللواء محمد الشيخ ومساعده اللواء أحمد هاني. على الرغم من هذا المثال، وحتى لو كان هناك ضابط سابق واحد فقط يشغل منصباً في كل هيئة تنفيذية ضمن كل مستوى من مستويات الحكم المحلي – وهذا بالتأكيد افتراض متواضع جداً – يصل المجموع الكلي للمناصب التي يشغلها ضباط سابقون من القوات المسلحة في هيكل الحكم المحلي على المستوى القومي إلى نحو 2000.
ولاتنتهي المسألة هنا. فالحكم المحلي يكرّر عمل الوكالات الحكومية المركزية أو يشرف عليها، في مجال الخدمات والتنمية الاجتماعية والصحية والرعائية والتربوية، حيث يوجد للمحافظة، وكل مركز من المراكز والمدن التابعة لها، مدراء للتخطيط والعقارات المالية والمشاريع و الشؤون الفنية والهندسية. إضافةً إلى ذلك، يدير هؤلاء مجموعةً واسعةً من الدوائر الخدماتية وفروع شركات المرافق العامة والكيانات الحكومية الأخرى، التي تحتاج جميعها إلى الموظفين. في كثير من الحالات، تُملأ هذه الوظائف بالضباط السابقين. وفي كثير من الأحيان يتولّى أيضاً المتقاعدون من القوات المسلحة، وكذلك من أجهزة الشرطة أو الأمن، رئاسة الدوائر المتخصصة. وهذه تشمل، على سبيل المثال، دائرة المحاجر والخدمات الجيولوجية وشعبة البيئة في محافظتي سيناء والبحر الأحمر، وهما محافظتان غنيتان بالموارد الطبيعية المجزية وتوفران فرصاً للحصول على دخل إضافي غير رسمي. وبما أن لدى المحافظين مستشارين عسكريين، فمن الطبيعي أن يأتي هؤلاء المستشارون من القوات المسلحة. وبإضافة هؤلاء المتقاعدين إلى المجموع العام، يصل عدد الضباط السابقين الذين يشغلون مناصب إدارية في مفاصل الحكم المحلي كافة إلى آلاف عدة.
بدا أن ظهور "الدولة الأمنية" في عهد مبارك بعد العام 1991، التي احتلّت فيها الأجهزة الأمنية موقع الصدارة في فرض سلطة الرئيس في الحفاظ على النظام، أزاح القوات المسلحة إلى الهامش. وأدّى ذلك أحياناً إلى التنافس الحاد على الموارد والنفوذ المؤسّسي. وقد نظر ضباط القوات المسلحة إلى وزارة الداخلية وأجهزة الشرطة والأمن المرتبطة بها نظرة ازدراء تعمّقت خلال العقد الأخير من حكم مبارك، وعاد ذلك جزئياً إلى الاعتقاد أنها مشتركة في دائرة الفاسد التي أخذت بالتوسّع منذ صعود نجم جمال مبارك، نجل الرئيس، والسياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي تبنّاها. غير أن تغلغل ضباط القوات المسلحة في وزارة الداخلية ومديرية المخابرات العامة، ودور المتقاعدين العسكريين والأمنيين على حدّ سواء في هيكل الحكم المحلي، إنما يوحي أيضاً بدرجة من تكامل الأدوار بين المؤسستين العسكرية والأمنية في الحفاظ على النظام.
ويرجّح أن يزداد ذلك التكامل بشكل ملحوظ، بعد أن أكّد المجلس الأعلى للقوات المسلحة صدارته منذ تولّيه السلطة في شباط/فبراير 2011. فقد أضعف مباحث أمن الدولة وحجّمها، وترك الشرطة وقوات الأمن المركزي ذات المعنويات المنهارة تائهةً، فيما رفع من شأن مديرية المخابرات العامة لتكون ذراعه وأداته الداخلية الرئيسة إلى جانب الاستخبارات العسكرية، التي كان وزير الدفاع طنطاوي قد أوكل إليها ببعض مهام المراقبة الداخلية حتى قبل سقوط مبارك بسنوات عدة. وعلى الرغم من أن الشرطة والأجهزة الأمنية سوف تُلحَق مجدّداً بالسلطات المدنية من الآن فصاعداً، إلا أن ذلك سيكون اسمياً، والمجلس العسكري يتموضع بوضوح ليحتفظ بالنفوذ الحاسم. ومايشير إلى ذلك هو إعادة تأهيل مباحث أمن الدوة وقوات الأمن المركزي، الفاقدة للشرعية منذ انتفاضة 2011. فإن تحسين قدراتها البشرية وعتادها من شأنه إراحة أجهزة القوات المسلحة (الاستخبارات والشرطة العسكرية) من عبء حفظ النظام العام، غير أن سعي المجلس العسكري أيضاً إلى حسين صورة أجهزة الأمن الداخلي لدى الجمهور خلال مديح دورها في حماية الدولة منذ ثورة العام 1952، إنما يعزّز من ارتباطها بجمهوية الضباط ويعيد ضمناً اصطفاف قطاع الأمن بكامله خلف القوات المسلحة. وصحيح أن كل ذلك لن يزيل تماماً التنافس بين المؤسستين، غير أن المرجح أن يزداد التكامل في مابين اختراق المتقاعدين العسكريين والأمنيين لجهاز الدولة، مايعزّز مرتكزات جمهورية الضابط.
الخدمة المدنية
يخترق ضباط القوات المسلحة السابقون قطاعات الخدمة المدنية كافة، حيث يديرون الجامعات، أو يتواجدون في مجالس إدارة الكليات الأكاديمية أو مراكز البحوث المتخصصة، كما يعملون مدراء وموظفين في المعاهد القومية للمقاييس والمعايير وللتغذية، وجمعيات حماية المستهلك ومراقبة المياه، والمستشفيات الحكومية والملاعب الرياضية. كما يرأس ضباط آخرون هيئات متنوعة مثل الإذاعة والتلفزيون، والمجلس القومي للشباب، والهيئة العامة للأبنية التعليمية، والجمعية العامة للمعاهد القومية التي تتولّى إدارة المدارس الأجنبية التي صودِرَت في أواخر الخمسينيات، إضافة إلى الهيئة العامة للتنمية الصناعية. كما يتولّى المتقاعدون العسكريون رئاسة وشغل قسم كبير من الوظائف في الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء - التي تُعتبَر المصدر الرئيس للبيانات بالنسبة إلى جميع الجهات الحكومية والجامعات ومراكز البحوث والمنظمات الدولية - وفي العديد من الهيئات التي تخدمها. والقائمة تكاد لاتنتهي.
المرافق والأشغال والبنية الأساسية العامة
ثمّة عدد مُلفِت من الضباط (معظمهم من المتقاعدين، لكن بعضهم لايزال في الخدمة الفعلية) هم أعضاء في مجالس الإدارة لمجموعة كبيرة من المرافق العامة المملوكة للدولة ومشاريع البنية الأساسية الرئيسة ومايرتبط بها من أشغال وخدمات. العديد من هذه المرافق هي جزء من الشركات التجارية القابضة الكبيرة التي تأسَّست كمشاريع اقتصادية مملوكة للدولة خلال المرحلة الأولى من الخصخصة بدءاً من العام 1991 (أي تحويل المشاريع الاقتصادية للقطاع العام إلى شركات تجارية تعمل في إطار القواعد المالية للضرائب والأجور المطبّقة على الشركات الخاصة).
كما أن الضباط هم رؤساء أو أعضاء في مجالس إدارة الشركات القابضة للطيران والمطارات، والنقل البحري والبري (بما في ذلك جميع هيئات الموانئ البحرية) والكهرباء والمياه والصرف الصحي – والعديد من شركاتها الفرعية التي تملكها جزئياً أو كلياً. كما يهيمنون على قطاعي النفط والغاز الطبيعي التابعَين للقطاع العام، وعلى شركات الخدمات المتّصلة بها. والأمر نفسه ينطبق على بعض المرافق الأخرى مثل الشركة المصرية للاتصالات "إيجيبت تيليكوم" Egypt Telecom، التي هي الآن شركة مساهمة تحتكر خطوط الهاتف الثابتة، وتمتلك حصة متنامية في سوق الهواتف المحمولة، كما ينطبق ذلك أيضاً على الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات.
يتمتع المتقاعدون العسكريون أيضاً بتمثيلٍ كبير في الوزارات والهيئات الحكومية التي تتعامل مع القطاعات المتعلّقة بالأراضي مثل الإسكان، وإدارة العقارات، والأشغال العامة، والاستصلاح والتنمية الزراعية، والسياحة. فهم يهيمنون على الجهاز المركزي للتعمير التابع لوزارة الإسكان، والذي يتولّى بناء المساكن والطرق الدائرية في المدن والجسور. كما يضطلعون بدور قيادي في هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، التي يديرها لواء متقاعد في القوات المسلحة. ويرأس المتقاعدون العسكريون أيضاً الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية، وهي الهيئة المسؤولة عن مشاريع الري والاستزراع العملاقة في "توشكي" وفي شمال سيناء والعوينات الشرقية والوادي الجديد، والقطاعات ذات الصلة مثل الصوامع والتخزين الزراعي. كما يتولّى عسكريون متقاعدون إدارة هيئة التنمية السياحية وهيئة الأوقاف، التي تتولّى إدارة الأوقاف الإسلامية ومصادر دخلها بالتوازي مع وزارة الأوقاف.
يوفّر الحصول على وظيفة في هذه الهيئات المختلفة عملاً مضموناً للمتقاعدين. على سبيل المثال، ينتقل الضباط السابقون في سلاح الطيران مباشرةً إلى قطاع الطيران المدني والمطارات. كما ينتقل ضباط البحرية إلى العمل في مجال النقل البحري والموانئ البحرية وقناة السويس. أما نظراؤهم في سلك الإشارة فينتقلون إلى العمل في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات؛ في حين يتّجه أفراد الجيش إلى مجال البناء والنقل البري والأشغال العامة. ويتولّى عادةً رؤساء الأركان السابقون من مختلف أفرع القوات المسلحة، الذين يتقاعدون برتبة فريق، أكثر المناصب الإدارية ربحيةً، حيث يترأسون العديد من أكبر الشركات القابضة المملوكة للدولة. لكن حتى أولئك الذين يجري تعيينهم في مجالس إدارات الشركات الفرعية، أو يتم توظيفهم كمستشارين، يشكّلون أقلية تحظى بالامتيازات بالمقارنة مع العدد الأكبر من المتقاعدين العسكريين الذين يُدمَجون في إدارات الدولة المدنية (كما ستتم مناقشته ذلك لاحقاً).
المشاريع الاقتصادية العسكرية
تدير جمهورية الضباط اقتصادها العسكري الرسمي الخاص، الذي يدرّ عليها مصادر دخل لاتمرّ عبر الخزينة العامة. يوجد مكتب خاص في وزارة المالية يُدقِّق في حسابات القوات المسلحة والهيئات التابعة لها، وعلى الأرجح بالتنسيق مع مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية، إلا أن بياناته وتقاريره لاتخضع إلى سيطرة أو إشراف البرلمان أو أي هيئة مدنية أخرى. ويُعتقَد أن جزءاً من العوائد يُنفَق على بدلات الضباط ومساكنهم، وعلى إدخال تحسينات أخرى على مستويات المعيشة. أما الباقي فيُعاد استثماره أو يُستخدَم لتكملة الإنفاق على الصيانة والعمليات والمقتنيات التي لاتغطيها ميزانية الدفاع أو المساعدات العسكرية الأميركية.
يتكوّن الاقتصاد العسكري من أربعة أقسام رئيسة هي: الصناعات العسكرية التي تتبع وزارة الإنتاج الحربي، والهيئة العربية للتصنيع المملوكة للدولة، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابعة لوزارة الدفاع، والمشاريع المُدِرّة للدخل الخاصة بالقوات المسلحة، بما في ذلك النوادي والفنادق العسكرية وعقود الأشغال العامة المدنية التي تتولاها هيئة الهندسة العسكرية، ودائرة الأشغال العسكرية، ودائرة المياه التابعة لها. وقد تفرّع هذا القطاع بأكمله إلى مجموعة متشعّبة ومتنوّعة ومتزايدة الأهمية للإنتاج المدني وتقديم الخدمات في القطاع المدني منذ التسعينيات. وشيئاً فشيئاً يتصرّف اقتصاد المؤسّسة العسكرية كقطاع تجاري، ساعياً إلى إقامة الشراكات أو المشاريع المشتركة مع الشركات المحلية والأجنبية الخاصة، وباحثاً عن فرص للتصدير والاستثمار في الخارج.13
"هذا لنا": إعادة النظر في المجتمع العسكري المصري
إن أحد أكثر الأمور لفتاً للنظر المفارقة بين المدى الشمولي لحضور القوات المسلحة في حياة مصر، وبين قلّة مايعرفه أي شخص من خارج المؤسسة العسكرية، وربما من داخلها، بتركيبتها الاجتماعية. ويعكس هذا المزيج المتناقض من التغلغل والعزلة الطريقة الخاصة التي تفاعلت بها جمهورية الضباط في آن مع التحول الاقتصادي الليبرالي الجديد وتوطيد السلطوية السياسية منذ العام 1991. في العقد الأول، اتّسم تفاعلها أساساً بالتكيّف السلبي. فقد نُقِلَت الشبكات غير الرسمية، التي تشكّلت في الكلية العسكرية وخلال الخدمة الفعلية، إلى داخل الإدارات المدنية للدولة، وذلك مع قيام الضباط الموظفين في تلك الإدارات بتعيين زملائهم المتقاعدين في مناصب إدارية أو هيئات استشارية. كما استُنسِخَت تلك الشبكات في مشاريع تجارية مملوكة للدولة، حيث يقوم المدراء والإداريون ومسؤولو المقتنيات من ذوي الخلفيات العسكرية بمنح العقود إلى الإدارات الإنتاجية أو الخدماتية في القوات المسلحة، أو بتلقّي عقود منها لإنجاز مجموعة واسعة من خدمات البناء والتصنيع والتركيب والتجهيز والصيانة.
تعاملت جمهورية الضباط بدرجة أكبر من المبادرة مع الفرص الاقتصادية والاجتماعية التي وفَّرها تعميق الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية الجديدة منذ أوائل الألفية الثالثة. وتتمدّد شبكات الضباط حالياً على نحو متزايد إلى القطاع الخاص أيضاً، إذ إن عدداً قليلاً فقط من الشركات المسجَّلة رسمياً توظّف ضباط متقاعدين أو احتياط، كما أن الضباط قد يكونون في طور تشكيل شركاتهم الخاصة للفوز بعقود من الباطن. ولايقلّ أهمية عن ذلك طموحُ الشركات التجارية المملوكة للدولة التي يديرها عسكريون متقاعدون، والشركات المملوكة للمؤسّسة العسكرية، للعمل في الأسواق الإقليمية والدولية الأوسع.
باختصار، أصبح كبار الضباط المتجذرين بقوة في قطاعات الاقتصاد المدني أكثر ميلاً إلى المبادرة التجارية والاقتصادية. فهم يمتطون الحدّ الفاصل بين المجالين العسكري والمدني، والعام والخاص، لكنهم لايزالون يعتمدون حتى الآن اعتماداً كلياً على التعيين السياسي والمنصب الإداري في داخل الدولة لتأمين مدخل إلى الاقتصاد والحصول على الفرص. وسواء كانوا يطمحون بصورة متعمّدة إلى الاندماج التام في "الطبقة الوسطى الجديدة" الآخذة في الصعود أم لا، إنهم بالتأكيد يحاكونها عبر تلمّسهم للفرص التي تمكِّنهم من تأمين زيادات حادّة في الدخل القابل للتصرّف به، والمضاربة في قطاع العقارات، والانتقال إلى مايشبه المجتمعات المسوّرة.
لاتزال هذه الاتجاهات في طور النشوء. إذ لاتوجد حدود واضحة المعالم بين المرحلة الأولى من الدمج في نظام مبارك للمحسوبيات خلال التسعينيات، وبين المرحلة الثانية التي تزامنت مع تكثيف السياسات الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية الجديدة وتعميق الخصخصة بدءاً من العام 2000. كما أن الحدود مبهمة بين جناح جمهورية الضباط الذي يتّسم بميله البارز إلى المبادرة التجارية والاقتصادية، وبين السواد الأعظم من سلك كبار الضباط. لكن بالنسبة إلى الجميع شكَّل الارتفاع الكبير في المداخيل القابلة للتصرف بها الفائدة الأكبر، ولو أنها توزّعت على نحو غير متكافئ في أوساط جمهورية الضباط برمّتها.
الاستيلاء على فرص الدخل
يعتبر ضباط القوات المسلحة العاملون والمتقاعدون على حقّ أن الرواتب وظروف الخدمة متدنّية، ويدركون تماماً أن الرواتب في القطاع الخاص، وحتى في المؤسّسات التجارية المملوكة للدولة، قد ارتفعت أكثر بكثير من مرتباتهم خلال العقدين الماضيين من الخصخصة المتتالية. وكما يشير المتقاعدون على سبيل المثال، إن الحدّ الأدنى لراتب الطيار الذي يعمل في شركة الطيران الوطنية، مصر للطيران، يفوق بمرات عدة راتب طيار مقاتل من سلاح الجو يمتلك سنوات عديدة من الخبرة. وهذا يفسّر الشعور بالامتعاض الذي يبديه بعض المتقاعدين عند سماعهم الحديث عن "امتيازات" المؤسّسة العسكرية. لكن بالنسبة إلى غالبية الضباط المتقاعدين، الفرصة لزيادة المعاشات التقاعدية، وتعويضات نهاية الخدمة، وعلاوات التقاعد الممنوحة لمدى الحياة براتب مُكمِّل ثانٍ، والبدلات الإضافية المتّصلة به، هي الأمر الأهم.
تبدأ الفرص خلال الخدمة الفعلية في الواقع، بالنسبة إلى الضباط الذين يتم انتدابهم إلى وزارة الدفاع أو الكليات العسكرية أو الشركات أو المصانع المملوكة للمؤسّسة العسكرية، أو الذين يُعَيَّنون ملحقين عسكريين في السفارات المصرية في الخارج أو "أعضاء منتدبين" في مجالس إدارة الشركات التجارية المملوكة للدولة. جميع هؤلاء يتلقون راتباً ثانياً، إلى جانب المكافآت أو البدلات أو المزايا الإضافية المرتبطة بكل منصب.
يأتي في المستوى الأعلى التالي المتقاعدون العسكريون الذين يُعيَّنون كمستشارين في الوزارات وفي الهيئات الحكومية الأخرى، أو في الشركات التجارية التي تقدم خدماتها لتلك الوزارات والهيئات. ويتمكّن أصحاب النفوذ من الحصول على عدد من هذه التعيينات الاستشارية بالتوازي، التي ينطوي في الغالب أو في المُطلَق، على القيام بغير المهام الشكلية أو بالحضور الرمزي. وتشير التقارير إلى أن الرواتب الاستشارية تتراوح بين 6000 و28000 جنيه مصري (1000 و4670 دولاراً) في الشهر، إلى جانب البدلات والمكافآت التي تُقدَّر بـ10000 جنيه (1667 دولاراً) شهرياً. تُعتبَر هذه المبالغ لاتُذكَر وفقاً للمعايير الدولية، لكنها بالتأكيد أعلى من معاشات التقاعد التي يحصل عليها كبار ضباط القوات المسلحة في نهاية خدمتهم (حيث لايتجاوز راتب اللواء الـ500 دولار).
أما الأوفر حظاً فهم المتقاعدون العسكريون الذين يُعيَّنون في مجالس إدارة الشركات التجارية المملوكة للدولة، أي الشركات القابضة والشركات التابعة لها أو المشاريع المشتركة معها، التي يبلغ عددها الإجمالي نحو 150. ويشير بعض الضباط الذين يتحدّثون من داخل المؤسسة الأمنية أو الإدارية، إلى أنه من الشائع أن تتراوح الرواتب بين 100 ألف و500 ألف جنيه شهرياً (16666- 83333 دولاراً) شائعة، ويُعتقَد أيضاً أن الشراكات الخفيّة ترفع الدخل السنوي لمَن يحصلون على أعلى أجر إلى مابين 12 و100 مليون جنيه (مليونا دولار و16.67 مليون دولار).14 ثمة مقياس يُعيَّن بواسطته كبار القادة العسكريين في الشركات القابضة المملوكة للدولة الأكثر ربحية عند تقاعدهم، في حين يتم تعيين الأقل رتبة في شركات فرعية أو تابعة. ويتّبع منحُ المناصب الإدارية في المؤسسات التابعة للقوات المسلحة، مثل النوادي الاجتماعية والفنادق، منطقاً مشابهاً، مع أن جدول الرواتب فيها أدنى بكثير يُمنَح المتقاعدون العسكريون المتنفّذون أفضل المواقع، مثل وسط القاهرة أو المنتجعات الساحلية قرب الاسكندرية أو العريش، في حين يتولّى أصحاب الحظوة الأقلّ إدارة مرافق أقلّ جاذبية في أماكن نائية نسبياً.
إستنساخ طائفة الضباط
يُضاف إلى الدخل القابل للتصرف به توفير المساكن المجانية أو المدعومة للضباط، التي يحقّ لهم قانوناً تأجيرها أو بيعها. وكما هو الحال بالنسبة إلى حقهم في الحصول على راتبٍ ثانٍ، فإن الضباط العاملين، الذين يكلّفون بواجبات خارج القوات المسلحة، يحصلون على مسكن إضافي عن كل وظيفة جديدة يحصلون على راتب من خلالها. من الواضح أن هذا الأمر يفيد على وجه التحديد الضباط ذوي الرتب المتوسطة والعليا المؤهلين لهذه التعيينات، وليس صغار الضباط. كلما ارتفعت الرتبة، ازدادت جودة المساكن، إذ بات كبار القادة يحصلون الآن في العادة على فيلات بدلاً من الشقق. ويستخدم بعض الضباط الدخل الناتج عن الإيجار أو البيع لبدء مشاريع خاصة بهم، في حين يشتري بعضهم الآخر أسهماً في شركات القطاع العام المملوكة للقوات المسلحة أو التي يرأسها ضباط سابقون، أو يساهمون معاً في إطلاق مشاريع خاصة بهم، مثل المجمّعات السكنية ومراكز التسوق.
نطاق كل ذلك كبير. فبحلول منتصف الثمانينيات، "تم بناء مايقرب من خمسة في المئة من مجموع المساكن التي شُيّدت في البلاد من قبل الجيش ولأجل الجيش، بما في ذلك نسبة كبيرة داخل المدن العسكرية الجديدة المتناثرة في الصحراء".15 ومنذ العام 1991، أشرف وزير الدفاع طنطاوي على انتقال سكن الضباط بالجملة باتجاه مايسمى بالمدن العسكرية أو المدن "الصحراوية"، حيث شُيِّد 24 منها، في حين لاتزال ثلاث مدن أخرى قيد التخطيط والإنشاء ولايزال يُطلَق اسم "المدن العسكرية" على أول جيلين من هذه المدن، التي تم تخصيص قطع سكنية كبيرة منها ومايرتبط بها من مرافق للضباط. هذه المدن، التي يُطلق عليها حالياً اسم "المجتمعات العمرانية الجديدة"، مفتوحة أيضاً أمام الطبقة الوسطى الجديدة الصاعدة التي توسّعت مع تعميق خصخصة الاقتصاد المصري خلال العقد الماضي. وهي تفاخر حالياً بسكانها البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة، ويُتوقَّع أن يصل عددهم النهائي إلى 17 مليون نسمة. ومع انتقال الضباط إلى تلك المدن، استأجر أو استملك المدنيون المنتمون إلى الطبقة الوسطى أو دون الوسطى والتجار الصغار مساكنهم السابقة في مناطق مثل مدينة نصر في القاهرة، التي بنيت أصلاً لإسكان الضباط، مايقدّم دليلاً إضافياً على الفصل المترسّخ بين الفضائين العسكري والمدني.
وتعزّز العزلة نفسها بنفسها. تتجدّد شبكات الضباط في النوادي الاجتماعية الكثيرة التي يقيمها كل فرع وإدارة من القوات المسلحة، وحتى المصانع العسكرية كل على حدة، في المدن المصرية الرئيسة. توفّر هذه الأندية الخدمات المدعومة لسلك الضباط، سواء العاملين منهم أم المتقاعدين، حيث تُستخدم كصالات أفراح أو لتقديم الطعام في المناسبات الاجتماعية الأخرى، وذلك بنصف سعر الصالات التجارية. كما يوفّر بعضها الإقامة المؤقّتة للضباط، إضافة إلى الفنادق والمنتجعات التي تديرها المؤسسة العسكرية في المناطق الساحلية المرغوبة في سواحل الشمال وسيناء والبحر الأحمر. وبإمكان المدنيين أيضاً، الذين لديهم المال والعلاقات، استخدام مختلف هذه المرافق، وفي أغلب الأحيان هؤلاء هم أفراد الطبقة السياسية أو أجهزة الدولة أو أبناؤهم. ولعل مايكشف عن طبيعة الوعي الطبقي الجديد لجمهورية الضباط هو أن المنقّبات والرجال الذين يرتدون الجلابية الفلاحية، يُمنَعون من دخول النوادي العسكرية، وذلك لما لهذه الأزياء من دلالة واضحة على تدنّي المستوى الطبقي.16
فضلاً عن ذلك، تدير القوات المسلحة متاجر وتعاونيات استهلاكية ومحطات وقود خاصة بها، حيث يستطيع العسكريون وأفراد عائلاتهم شراء السلع الاستهلاكية بأسعار مخفّضة. كما تحصل العائلات على "كارنيه"، وهي قسائم لشراء الاحتياجات المنزلية الأساسية؛ وقد يحصل الضباط المتنفّذون على عدد إضافي من الدفاتر "الكارنيه" الإضافية، بدلاً من العدد المخصّص لهم والذي يكون عادةً اثنين أو ثلاثة، حيث يستطيعون إعطاءها إلى الأقارب أو الأصدقاء. هذه الميزات الأخيرة مُتاحة لجميع الجنود وضباط الصف والضباط المتطوّعين (أي غير المجنّدين) في القوات المسلحة والبالغ عددهم 148500، لكن هذا يحجب حقيقة أن معظم المزايا والامتيازات تُجيَّر لصالح كبار الضباط.
لايزال الدخول إلى سلك الضباط يوفّر وسيلة لارتقاء السلم الاجتماعي وضمان الأمان الوظيفي بالنسبة إلى الكثيرين.17 لكن فيما لحق سلك الضباط بالأنماط الاستهلاكية والسكنية المنفصلة للطبقة الوسطى الجديدة، أصبح الانضمام إلى السلك يتّسم بدرجة أقل بكثير من الديمقراطية. وأدّى ذلك إلى إلغاء تدريجي لأحد أهم مظاهر المساواة الاجتماعية التي تميّز بها عهد عبد الناصر، والتي سهّلت دخول أبناء العائلات الفقيرة أو الأمية وعائلات الطبقة دون الوسطى إلى الكليات العسكرية. أما الآن، فلا تتجاوز نسبة الترقّي من رتبة جندي متطوّع أو ضابط صف (غير المجنّدين) عشرة في المئة من نسبة الضباط الجدد الذين يتم قبولهم. أما الذين يصبحون ضباطاً بهذه الطريقة، فلا يُرَقَّون إلى مابعد رتبة نقيب، مايحدّ من عدد ونفوذ المقبولين ممَّن ينتمون إلى جماعات الدخل المحدود. ويشكّل التحصيل العلمي حاجزاً إضافياً، حيث يُحظَّر على المتقدِّمين الذين لايحمل والداهم شهادات جامعية من دخول الكلية العسكرية. وفي كل الأحوال، ينتمي الحاصلون على درجات عليا في امتحانات القبول عادةً إلى عائلات قادرة على تحمّل نفقات المدارس الخاصة أو الدروس الخصوصية الإضافية.
المدنيون بوصفهم أعيالاً
يتمثَّل الوجه الآخر لآثار الاندماج في نظام المحسوبيات الذي أسّسه مبارك على جمهورية الضباط، في تخلّيها عما تبقّى من تعلّق بإرث العهد الناصري المتمثّل في السياسات الحكومية الاجتماعية الهادفة إلى إعادة توزيع الثروة. وتبنَّت بدلاً من ذلك مقاربة أبوية تجاه الغالبية العظمى من المصريين الذين لم يستفيدوا من الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي طُبِّقَت خلال العقد الماضي. وقد تحولت الرعاية الاجتماعية والتنمية إلى صدقات وحظوات، بدل أن تكون استحقاقات، تمنح وفقاً لتقدير ومزاج القادة، باستخدام الأموال والأصول التي يتحكّمون بها حصراً.
فحين تبني القوات المسلحة الجسور والطرق السريعة بين المدن والطرق الدائرية والمخابز ومحلات الجزارة في الأحياء المدنية الفقيرة، ومحطات تنقية المياه وتحليتها، تصفها بأنها "هدية إلى شعب مصر"، متجاهلةً حقيقة أن الموارد المستخدمة في نهاية المطاف تأتي من المال العام أو ينبغي أن تدخل إلى خزينة الدولة. وحرصاً منها على تعزيز صورتها كفاعلة خير، تعلن القوات المسلحة دورياً كذلك عن توزيع عشرات الآلاف من "الشنطات" الغذائية المجانية على الفقراء والمستفيدين من الضمان الاجتماعي في عيدي الفطر والأضحى.
وقد لجأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة بصورة متزايدة إلى تبنّي هذا الموقف الأبوي، بعد أن بدأت علاقته بالأحزاب السياسية الجديدة، وخصوصاّ الإسلاميين، تتّسم بالخصومة بعد صيف العام 2011. ففي تشرين الأول/أكتوبر، على سبيل المثال، أعلن طنطاوي تخصيص 3876 فداناً من الأراضي التي يسيطر عليها الجيش لبناء مساكن للمدنيين في أسيوط، ثم أصدر مرسوماً يقضي بالتبرع بملياري جنيه مصري (333 مليون دولار) من أموال الجيش لبناء "مساكن اجتماعية" في المدن لذوي الدخل المحدود، وذلك في ذروة الاحتجاجات المناهضة للمجلس العسكري التي شهدها شهر تشرين الثاني/نوفمبر. كانت المبادرة الأخيرة جزءاً من خطة وطنية لبناء مليون وحدة سكنية في كل محافظات مصر على مدى خمس سنوات؛ وتقوم القوات المسلحة ببناء 25000 وحدة منها، إلى جانب "التبرع" بأراضٍ في القاهرة وحلوان ومدن أخرى. بعد ذلك بأسبوعين فقط، أعلن المجلس العسكري أنه سيقرض البنك المركزي مبلغ مليار جنيه (167 مليون دولار) لدعم الجنيه المصري حين تعرّض سعر صرفه إلى التراجع. باختصار، يزعم المجلس العسكري أنه ضخّ مامجموعه 12.2 مليار جنيه مصري (2.33 مليار دولار) من موارده الخاصة في جهاز الدولة خلال السنة المُنتَهية في آذار/مارس 2012.
تقوم هذه النزعة الأبوية للمجلس العسكري على ثقافة عسكرية تعتبر المدنيين أقلّ شأناً أو "أعيالاً". في عهد عبد الناصر كانت الجداريات والأشكال الفنية الأخرى في وسائل الدعاية السياسية تُظهِر الجنود وهم يصنعون المستقبل يداً بيد إلى جانب الفلاحين والعمال والمعلمين أو المثقّفين. لكن الملصق الذي تصدَّر الحملة الإعلامية التي أطلقها المجلس العسكري، في آذار/مارس 2012، تحت عنوان "الجيش والشعب إيد واحدة"، كشف عن نظرة مختلفة تماماً. يتمثّل الجيش، في هذا الملصق، في صورة جندي بكامل عدّته القتالية، أما الطفل الرضيع الذي يحمله هذا الجندي بين ذراعيه فهو كناية عن "الشعب". ويستحضر ذلك إلى الذهن المصطلح العامي المصري "عيال" (أي المُعالين) الذي يُستخدَم لوصف الزوجات والأطفال، والذي يذكِّر أيضاً بالنداء المباشر الذي وجّهه مبارك إلى "أبنائي" الشعب المصري في خطاب متلفز خلال الأيام الأخيرة من حكمه. وهذا يعكس الاعتقاد بأن المجلس العسكري هو بالضرورة "الأعلم" عندما يتعلّق الأمر بمصالح مصر واحتياجاتها، كما يعكس قناعته، التي لاتقل أنانيّة عن ذلك الاعتقاد، بأن السياسيين والبيروقراطيين المدنيين أقل كفاءة ونزاهة ووطنية، أو على أقل تقدير يحتاجون إلى التوجيه الأبوي.
وقد استخدم الخطاب المعادي للمدنيين لتبرير اختراق الضباط السابقين لجميع أجهزة الدولة، وإشراك القوات المسلحة والشركات والهيئات الاقتصادية العسكرية في تقديم الخدمات الاجتماعية والمنافع العامة الأخرى إلى جانب مجموعة واسعة من السلع الاستهلاكية. وتعود جذور هذا الخطاب إلى سعي عبد الناصر إلى تعزيز مؤهّلات كبار الضباط، ليجعل منهم "مجموعة من الكوادر التكنوقراطية القادرة على تحدّي نظرائها المدنيين بفاعلية".18 لكن الادعاء اليوم بأن المدراء العسكريين يستطيعون القيام بكل شيء على نحو أفضل من نظرائهم المدنيين، ينطوي على قدرٍ من التضليل والخداع. فإن قدرة المتقاعدين العسكريين على "تدبير الأمور" هي نتيجة مُتوقَّعة لأنهم هم الذين أوجدوا جزءاً كبيراً من النظام الإداري الذي يعملون ضمنه وتتوغل فيه شبكاتهم، مايسهِّل عليهم السلوك بسهولة وأمان عبر دهاليزه.
في الحقيقة، إن ارتفاع معدلات الفساد في مصر (صنّفتها منظمة الشفافية الدولية في العام 2011 في المرتبة 112 من بين 182 بلداً) ومؤشّراتها الاجتماعية الضعيفة (يعيش 40 في المئة من السكان عند أو تحت خط الفقر المتمثل بدولارين في اليوم، في حين عاودت الأمية الارتفاع لتصل إلى 27 في المئة وفقاً للأرقام الرسمية) لايُعتبَر مؤشراً إيجابياً على المساهمة التي قدمتها جمهورية الضباط لإدارة الدولة المصرية. لذلك، لجأ المجلس العسكري مراراً وتكراراً إلى خطاب قومي قائم على استحضار "انتصار" القوات المسلحة في حرب العام 1973 ضد إسرائيل، مقروناً بإشاراته المتكرّرة إلى "الأيدي الخفيّة" و"المؤامرات الخارجية"، للدفاع عن مصادرته الحقَّ في تحديد المصلحة الوطنية.
يستخدم المجلس العسكري هذا الخطاب ليدافع عن زعمه بأنه لايمكن عموماً ترك الشؤون الخارجية والدفاع في أيدي القادة المدنيين، وليؤكّد على حقّه في التدخّل في مجالات السياسة الداخلية مثل توفير الغذاء أو إعادة الهيكلة الاقتصادية بحجّة أنها قد تؤثّر على الأمن القومي من خلال التسبّب في حدوث اضطرابات اجتماعية وعدم استقرار سياسي. ويدّعي المجلس العسكري، عبر وضع هذه العناوين تحت عنوان "الأمن القومي"، أن له وضعاً خاصاً يستوجب اعتباره وصيّاً على النظام الدستوري في مصر، مايضفي عليه واجب منع التأثيرات المحتملة المُزَعزِعة للاستقرار الناجمة عن عملية التحوّل الديمقراطي "المفرط". وها هو يقوم بذلك الآن باسم "الثورة": فمن خلال مصادرته لهذا المصطلح، والخلط بينه وبين إطاحة القوات المسلحة النظامَ الملكي في العام 1952، يعيد المجلس العسكري تنصيب نفسه على أنه الأب المؤسّس للتحوّل الديمقراطي في مصر، ويبرّر احتفاظه بالسلطات التقديرية والاستقلال الكاملين.
الدفاع عن جمهورية الضباط
قام المجلس العسكري، وبعناد متزايد منذ إطاحة مبارك، بالتعبئة للدفاع عن مكانته الاستثنائية، وعن المصالح الجوهرية لجمهورية الضباط، فيما قدّم ذلك وكأنه دفاعاً عن القوات المسلحة. فبعد عقود نأى بنفسه فيها عن لعب دور مباشر في السياسة الوطنية والحكومة، أعاد منذ تولّيه السلطة في شباط/فبراير 2011 تعريف علاقته بالدولة المصرية، وبالتالي تأكيد أولوياته المؤسّسية والسياسية على نحو أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. ويسعى المجلس العسكري إلى الحفاظ على امتيازاته السياسية، ومكافآته المادية، ومكانته الاجتماعية التي يعتقد أنها جميعاً استحقاقات لقاء دفاع القوات المسلحة عن مصر، كما يسعى إلى تعزيزها بحصانة قانونية رسمية عن أي من أفعاله، ماضياً أو مستقبلاً، على حدّ سواء.
وبالنسبة إلى المجلس العسكري، هذا يفضي على وجه التحديد إلى تأكيد حقه في السيطرة المطلقة على ميزانية الدفاع، والمساعدات العسكرية الأميركية، واقتصاد المؤسّسة العسكرية الرسمي والمشاريع التابعة له. كما يمارس حرية التصرّف المطلقة في استخدامه الأصول والموارد الناشئة عنها جميعاً. فضلاً عن ذلك، يرغب المجلس العسكري في الحفاظ على النفوذ الفعلي لجمهورية الضباط في جهاز الدولة وفي الجزء المملوك للدولة من الاقتصاد المصري، وعلى الفرص التي يوفّرها هذا للتمدّد إلى القطاع الخاص أو القطاع المختلط على نحو متزايد. أما نجاح المجلس العسكري أو فشله في الحفاظ على الوضع الراهن من خلال إنشاء وصاية عسكرية رسمية، فيتوقّف على كيفية تطوّر العملية السياسية والدستورية في الفترة المقبلة.
تشكّل الوصاية العسكرية
كان فرض شكل من أشكال الوصاية العسكرية أمراً مرجّحاً على الدوام، لكنه لم يكن حتمياً. لقد أصبح المجلس العسكري أكثر قوة وأكثر عرضة في آن، بعد إطاحة مبارك. فالانتفاضة الشعبية قذفته إلى واجهة الصدارة السياسية، لكنها اضطرّته أيضاً إلى البحث عن وسائل يعوّض بها خسارة شبكة العلاقات الشخصية والتفاهمات غير الرسمية التي أمّنت جمهورية الضباط في ظل حكم مبارك. ولعلّ هذا يفسر سلسلة المحاولات التي يقوم بها المجلس العسكري لتحويل السلطات التي تولاها في شباط/فبراير 2011 إلى مبادئ "فوق دستورية" من شأنها إضفاء الطابع المؤسّسي الثابت على امتيازاته وحصانته ضمن ترتيبات رسمية، ووضعها بشكل دائم فوق الدولة المصرية.
كان آخر هذه المحاولات الإعلان الدستوري المكمّل الذي أصدره المجلس العسكري في 17 حزيران/يونيو 2012. بهذه الخطوة، أعلن المجلس عن نيته الانتقال إلى الموقع القيادي الأول، منهياً فترة العِرضة وعدم اليقين التي نجمت عن إطاحة مبارك في السنة السابقة. في ظاهر الأمر، فإن السلطات المُطلَقة التي أسبغها المجلس العسكري على نفسه صالحة فقط إلى أن يُصاغ دستور جديد يحدِّد صلاحيات الرئاسة والبرلمان ويسمح بإجراء انتخابات عامة جديدة. لكن عملياً، رتّب المجلس العسكري "المجالات المحجوزة" التي يسعى إلى تكريسها كصلاحيات واستثناءات دائمة في الدستور الجديد. وقد وضع المجلس نفسه في منزلة بارزة تمكّنه من فرض الشروط، وخصوصاً عبر تمكين نفسه من طلب إعادة صياغة المواد الدستورية التي يعترض عليها، وجعْل انتخاب برلمان جديد يتوقّف على إقرار الدستور الجديد.
إضافةً إلى ذلك، جاء الإعلان الدستوري المكمّل على الفور في أعقاب القرار الذي اتخذته المحكمة الدستورية العليا – التي يرأسها قاضٍ عسكري سابق عيّنه مبارك في العام 2009 – باعتبار انتخاب ثلث أعضاء البرلمان غير قانوني وقانون الانتخابات الجديد الصادر في تشرين الأول/أكتوبر 2011 غير دستوري. على ذلك، أصدر المجلس العسكري مرسوماً إضافياً أمَرَ بحلّ البرلمان برمّته. وبذلك ألغى الإعلانان الصادران عن المجلس العكسري كل شيء أُنجِز تقريباً خلال الأشهر الستة عشر السابقة من المرحلة الانتقالية. وهكذا، فرض فعلياً المجلس العسكري من جانب واحد مرحلة انتقالية ثانية، من دون التشاور مع الأحزاب السياسية ومرشّحي الرئاسة كما فعل في الماضي. وحدها الانتخابات الرئاسية جرت وفقاً للإجراءات والجدول الزمني اللذين حدّدهما المجلس العسكري في 30 كانون الثاني/يناير 2012.
حتى في ذلك الوقت، لم يُغامِر المجلس العسكري بالنتيجة، فتحرّك بسرعة لتعزيز موقفه. وبعد يوم من نشر الإعلان الدستوري المُكمِّل، أعلن المجلس العسكري إعادة تشكيل مجلس الدفاع الوطني، الذي كان قد أحياه قبل أربعة أيام، وأصدر القواعد والإجراءات التي تحكم عضويته. كان مجلس الدفاع حتى ذلك الحين غير فاعل، فقد أنشئ أصلاً في عهد عبد الناصر ثم أُسِّس رسمياً في دستور العام 1971 كأداة للسلطة الرئاسية، لكن لم يصدر قانون يحدّد نظامه الأساسي، ونادراً ما اجتمع أو مارس أي سلطة واضحة. ويسعى المجلس العسكري الآن إلى تحويل مجلس الدفاع إلى آليّة مؤسّسية يمكنه من خلالها ضمان استقلاله الدائم عن السيطرة المدنية، وفي الوقت نفسه ممارسة الرقابة والتدخّل، وفقاً لتقديره، في مجالات السياسة المدنية.
طبقاً للدستور، يترأّس رئيس الجمهورية مجلس الدفاع الوطني، لكن المجلس العسكري حشد كل الظروف ضدّه بإعلانه أن المجلس سيتكوّن من 16 إلى 17 عضواً، منهم 10 إلى 12 من صفوف المجلس العسكري. وقرّر كذلك أن مجلس الدفاع لاينعقد أو يتّخذ قرارات إلا بحضور أغلبية أعضائه. هكذا، فإن مجلساً عسكرياً مصغّراً سيقود فعلياً الدولة المصرية بشكل دائم.
وتأكيداً على استقلاليته وحرمان مرسي بشكل استباقي من سلطاته أكثر من ذلك، أعلن المجلس العسكري تالياً أنه عيّن جنرالاً مديراً للرئاسة. ثم أكّد المجلس أن رئيسه طنطاوي سيحتفظ بمنصب وزير الدفاع في الحكومة القادمة وبصلاحيات القائد العام للقوات المسلحة المصرية.
بين الوصاية العسكرية و"الدولة الخفيّة"
يتعيّن على مرسي والأحزاب السياسية في مصر التوصّل إلى توافق قوي على الحدّ من السلطات الاستثنائية التي يسعى المجلس العسكري إلى تضمينها في الدستور الجديد، من أجل تجنّب قيام وصاية عسكرية صريحة. كما عليهم تعزيز هذا التوافق من خلال ماتبقّى من العملية الانتقالية وبمستوى من الوحدة الوطنية لم يظهروه حتى الآن. وعليهم الإدراك بأن هواجس ضباط القوات المسلحة حيال رواتبهم وظروفهم المعيشية حقيقية، والبحث عن سبل لكي تعالج الحكومة تلك الاحتياجات الفعلية. غير أن ذلك يعزّز ضرورة تحقيق الرقابة المدنية الفعّالة على تفاصيل ميزانية الدفاع وأي مصادر تمويل أخرى تستفيد منها القوات المسلحة، بما في ذلك المساعدة العسكرية الأميركية والاقتصاد العسكري. فيجب توفير احتياجات القوات المسلحة كأحد واجبات السلطتين التشريعية والتنفيذية، وليس كاستحقاق يمليه المجلس العسكري عبر سلطاته التقديرية.
ولايقلّ أهمية عن ذلك بالنسبة إلى الهيئات المدنية الناشئة أن تقف في وجه ادّعاءات المجلس العسكري بأنه يقوم بدور الوصاية بوصفه "حامي" الدستور، أو أنه يتمتّع بوضع استثنائي يضعه بشكل دائم فوق السلطة والقانون المدنيَّين. ويظهر مرسوم أصدره طنطاوي في 10 أيار/مايو 2011، يمنع مقاضاة ضباط القوات المسلحة المصرية، العاملين والمتقاعدين على حدّ سواء، المتّهمين بـ"الكسب غير المشروع" أمام غير المحاكم العسكرية، أن عدم الخضوع إلى القانون المدني يشكّل هاجساً خاصاً للمجلس العسكري.
لم يتعلّم المجلس العسكري حتى الآن أنه لايمكنه أن يحتفظ بكل شيء وألا يتخلّى عن أي شيء. بيد أنه غير قادر على ترجمة السلطات التي لايزال يملكها أو المستويات العالية من الثقة والقبول التي لايزال ينالها من المواطنين عامةً، إلى تعبئة سياسية فعّالة، ولا إلى إضفاء الشرعية على تدخّله المستمر في المجال المدني. هذا يوفّر لمرسي والطبقة السياسية الجديدة الناشئة إمكانية توسيع الانفتاح الديمقراطي في مصر بحيّز ضيّق ولكن حيوي. لكن يجب أن يتوقّعوا أنهم كلّما تقدّموا، ازدادت مقاومة الشبكات والمعاقل الإدارية المتبقية لجمهورية الضباط. إن حضورها ونفوذها باديان تماماً للعيان حتى الآن، غير أن قيام السلطات المدنية بتقليصها في ظلّ التحوّل الديمقراطي قد يجعلها تتحوّل إلى "دولة خفيّة" مُبطَّنة، تعرقل سياسات الحكومة والإصلاحات وتعيق تقديم الخدمات العامة، مايؤدّي إلى تقويض أداء وشرعية السلطات المدنية المنتخبة ديمقراطياً. ولن تولد الجمهورية الثانية في مصر إلا عندما تُفَكَّك جمهورية الضباط وتُستَخرَج من باطن الدولة المصرية بالكامل

ليست هناك تعليقات: