لأنّ الثوراتِ الشعبيةَ أمرٌ جديدٌ علينا في تاريخنا الحديث، ولأنَّ المشهدَ السياسيَّ المصريَّ صار
مُعقَّدًا إلى حدٍّ ما وسط فوضى التفسيرات والتحليلات؛ فإنَّه يغدو ضروريًّا التدقيق في ربط الأحداث وفهمها بشكل يؤثّر بفاعليّة في ردود الأفعال والمواقف المُتخَذة، وبطريقة تُمكّننا من الإجابة عن التساؤل الذي أثار جدلًا ضخمًا داخليًّا وخارجيًّا حول ما إذا كان قيام الجيش بعزل الرئيس السابق مُرْسي انقلابًا عسكريًّا أو لم يكن، ولأنَّ تدخُّل الجيش تزامن مع موجات جماهيرية شعبية هائلة متوحِّدًا معها في هدف الإطاحة بحكم الإخوان دون التوحُّد بالضرورة في كلِّ الغايات والأهداف، ما وضعنا أمام تفسيرينِ كلاهما ممكن بحيث يعتمده أيٌّ من الطرفينِ المُتصارعينِ حسب تقديراتهما للمصالح والميول.
مُعقَّدًا إلى حدٍّ ما وسط فوضى التفسيرات والتحليلات؛ فإنَّه يغدو ضروريًّا التدقيق في ربط الأحداث وفهمها بشكل يؤثّر بفاعليّة في ردود الأفعال والمواقف المُتخَذة، وبطريقة تُمكّننا من الإجابة عن التساؤل الذي أثار جدلًا ضخمًا داخليًّا وخارجيًّا حول ما إذا كان قيام الجيش بعزل الرئيس السابق مُرْسي انقلابًا عسكريًّا أو لم يكن، ولأنَّ تدخُّل الجيش تزامن مع موجات جماهيرية شعبية هائلة متوحِّدًا معها في هدف الإطاحة بحكم الإخوان دون التوحُّد بالضرورة في كلِّ الغايات والأهداف، ما وضعنا أمام تفسيرينِ كلاهما ممكن بحيث يعتمده أيٌّ من الطرفينِ المُتصارعينِ حسب تقديراتهما للمصالح والميول.
فهو انقلابٌ عسكريٌّ يُمَهِّد للحكم العسكري المباشر من وجهة نظر الإخوان والسلفيّين ومؤيّديهم ومحبّيهم وأصدقائهم عربيًّا وعالميًّا، وهو ثورة شعبية فرضت على الجيش التدخُّلَ لإنقاذ البلاد من الانهيار والخراب من وجهة نظر العسكريّين والمعارضين والقوميّين ومناهضي الحكم الديني إضافة للثوريّين (ليس بالطبع كلُّ الثوريّين)، وبالقياس نفسه أيضًا، فإنّ 30 يونيو بالنسبة للإخوان ومؤيّديهم كان "مؤامرة" خطّط لها السيسي ورجالُ دولة مبارك بمساعدة القضاء والإعلام وتحت غطاء شعبي صنعته المخابراتُ وأجهزةُ الدولة الخفية والعميقة، بينما كان بالنسبة للجيش والمعارضة والقُوى الثورية امتدادًا لثورة يناير أو ثورة ثانية أو "ثورة تصحيح" كما يحلو لبعضهم التسمية ضمن فوضى المسمّيات والمفاهيم، فأيّ التفسيرين إذن يمكن اعتماده كحقيقة موضوعية لتدخّل الجيش؟!!.
ووَفقًا لمزاعم أنصار الجيش، فإنّ التدخُّل العسكري كان عملًا وطنيًّا من أجل الله والوطن، وهو أمرٌ لا يمكن تصديقُه إلّا بافتراض أنّ الجيش مؤسسةٌ وطنيةٌ نزيهةٌ تُحلِّقُ فوق طبقات المجتمع دون تمثيل لمصالح أيٍّ منها، وهذه الفرضية ليست سوى وهمًا في بحر الأوهام الذي يسبح فيه مجتمعُنا، فمنذ بداية ثورة يناير والجيش هو الممثّل الأبرز للطبقة الحاكمة ومؤسساتها ورجالها وإعلامها وأموالها المرهونة لخدمة الثورة المضادة، والجيش جزءٌ لا يتجزّأ من الطبقة الرأسمالية ومكوّن رئيسٌ مهمٌّ من مكوِّنات الدولة الطبقية التي تمارس كلّ أنواع الاستغلال الاقتصادي والاستبداد والقهر ضدّ طبقات الشعب العمّالية والفقيرة والكادحة.
وبرغم أنّ جنود الجيش وضباط صَفّه وصغار ضباطه ليسوا سوى أولئك العمّال والفلاحين والمهنيّين والفقراء وعامّة الشعب برداء عسكري، وليسوا سوى "نور أعيننا" و فلذات أكبادنا فلا جدال في أنّه من الصعب أن يستخدم "نور أعيننا" سلاحَهم ضدّ الشعب الذي هم أبناؤه، غير أنّ هناك حقيقةً لا يمكن تجاهلُها وهي أنّ فلذاتِ أكبادِنا يخضعون ويلتزمون بالأوامر العسكرية التي تُصدرها "قيادات الجيش" ، ولا توجد أي احتمالية لعصيان الجيش لأوامر القيادة في حالة الحروب الخارجية رغم أن الجنود أقل وعيا من القيادة بالأهداف الحقيقية من وراء الحرب، غير أنه في حالة الحرب الداخلية أو الأهلية تطفو على السطح احتمالية أخرى بعصيان الجنود للقيادة أو انقسام الجيش لفريقين حسب معطيات الأمور والهدف المطلوب، وهنا يجب التمييز جيّدًا بين الجيش وقيادته، فالقيادات يمثّلون بامتياز القطاع العسكري من الرأسمالية، ولأنّ معاهدة السلام تجعل من سيناء أرض عازلة بين مصر واسرائيل بما يحفظ أمن اسرائيل، ولا يخفى على أحد أن الجيش المصري لا يستطيع احكام قبضته على سيناء التي تمثل وكرا للجهاديين وتنظيم القاعدة ومواجهة ذلك الارهاب إلا بعد التنسيق مع الجانب الاسرائيلي حول عدد الجنود ونوع الأسلحة، وطالما أن المناورات التدريبية وتسليح الجيش المصري بالوكالة للولايات المتحدة الحليف المناصر لاسرائيل مما يحدد ويضعف قوة الجيش المصري قياسا بجيش اسرائيل ويضع قيودًا ثقيلة على "وطنية" الجيش وبوصلة قراراته السياسية، فلا ينبغي إذن المبالغةُ في إضفاء القدسية والحيادية الطبقية على الجيش وتنزيهه، فبدلًا من تقييم الجيش بمجرّد وصف نظري كسول لابدّ من الاجتهاد في تحليل الواقع العيني والحدث الفعلي وشروطه.
الجيش المصري أطاح برئيسين بعد الثورة، في المرّة الأولى قام بخلع مبارك وتولَّى الحكم مباشرة بقيادة طنطاوي بعد تحالف اضطراري مع الإخوان المسلمين والسلفيين بهدف صرف الجماهير عن الميادين وتفادي مواجهة مباشرة مع الثورة الشعبية قد تورّطهم خطر الحرب الأهلية المحتملة في حالة انضمام الإخوان لصفوف الثورة التي سرعان ما انقلبوا عليها بعد توظيفها في سبيل الوصول للسلطة، برغم أنّ الجيش فشل بعد ذلك في السيطرة على الاخوان وتحجيمهم ما أدّى لوصولهم للحكم وقصر الرئاسة مؤقّتًا وحتّى إشعار آخر والذي كان في 3 يوليو، لنكون أمام المرّة الثانية التي يتدخّل فيها الجيش ويعزل مرسي لكن هذه المرّة لم يتولَّ الجيش الحكم إنّما ولّى غيره عن طريق دمج قيادات من المعارضة والثورة في سلطة الدولة لتضليل الجماهير واحتوائهم ثم المُضي مجدَّدا في عملية تصفية الثورة تدريجيًّا وجرّها الى المسار الانتخابي المرهق جدًّا والعبثي جدًّا، وفي المرّتين كان أساس شرعية الجيش في الإطاحة بحكم قائم وتنظيم حكم لاحق سواء بالذات أو بالواسطة هو امتلاك القدرة المادية والعسكرية الحاسمة القادرة على فعل ذلك ولا علاقة بالطبع بين القدرة العسكرية والشرعية بأيِّ حال من الأحوال إلا بارتداء عباءة الشرعية الثورية المستمدّة من ثورة الشعب.
غير أنّ وصف ما قام به الجيش من تدخّل في 3 يوليو بالانقلاب العسكري لا يعدو أكثر من أن يكون وصفًا سهلًا ومبتذلًا لا يلائم حقائقَ التناقضات والصراعات داخل الطبقة الرأسمالية الحاكمة بين قطاعيها القومي والإسلامي والتي قد تصل في ظروف بعينها حدّ الحروب الأهلية كما يطالعنا التاريخ الحديث في بقاع مختلفة من عالمنا، فكان التدخّل من الجيش لحسم الصراع وتتويج انتصار القطاع القومي على الإسلامي بعد صراع مرير بينهما من أجل السيطرة على السلطة والاقتصاد، ولا يمكن بأيّ حال تسمية انتصار قطاع على آخر بانقلاب عسكري ما دام يمثّل ذروة صراع أطول، فعدم الإدراك الجيّد لحقائق الصراع داخل الطبقة الرأسمالية لا تقود إلا للالتباس والتشخيص الخاطئ.
والجيش لم يدخل معركته مع الإخوان بالوكالة عن الشعب وثورته كما جرى التقديم، إنّما كان يحارب بالأصالة عن نفسه مستفيدًا من العاصفة التسونامية الشعبية، وبعد استعداد أمني جيّد لخوض معركته معزَّزًا بأبواق الدعاية الإعلامية والشعارات القومية وإضفاء صبغة وطنية زاعقة على معركته، غير أنّ هذا التدخّل قد خلّصنا من شبح الحكم الديني وجنّب البلاد الانزلاق في براثن الحرب الأهلية التي لم يكن هنالك مفرٌّ منها إلَّا بما حدث، فهل أخطأ الجيش حينما تدخَّل لعزل مرسي !؟ وهل أخطأ الجيش سنة 1952 حينما انقلب على الملك وخلّصنا من فساد نظامه؟!.
ومع وجود بعض القُوى الثورية التي ما إن رأت تحرُّكًا من الجيش في اتجاه السياسة، سرعان ما تبادر بتقييم الأمور على أنّنا أمام انقلاب عسكري كتمهيد لحكم عسكري مباشر مهما كانت طبيعة هذا التحرُّك وظروفه وشروطه، وهو أمر تنشأ معه آراء بالغة التطرّف نتيجة للفصل غير العلمي بين تلك الآراء وحقيقة الأساس الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، غير مدركين أنّنا إزاء صراع بين قطاعين يملك كلاهما أداة عسكرية لحسم صراعه، تتمثّل في الجيش بالنسبة للقطاع القومي، وفي الميليشيات والفرق القتالية بالنسبة للقطاع الاسلامي، فما التسمية لو كان انتصر القطاع الاسلامي على القطاع القومي !!؟ ومَن يُندّدون بتدخّل الجيش لعزل مرسي تمامًا كأنّهم يرفضون مشاركته في معركة ضدّ الإخوان، وكأن من الأفضل لنا أن يستمرَّ تحالف الجيش مع الاخوان في حالة من التعايش والوفاق نتجه معه بخطى ثابتة نحو كابوس الدولة الدينية التي كانت تُخيّم بظلالها السوداء وشبحها الثقيل على المجتمع المصري، مع أنّ التخلُّص من الحكم الديني من ضرورات استمرار الثورة !! (غريب أمركم أيُّها المصريون).
غير أنّه ليس من التهذيب أن أستمرّ في مقالي هذا محاولًا تفسير ما حدث متجاهلًا خروج ملايين المصريِّين بهدف التخلّص من الحكم الاخواني السلفي أملًا في تغيير أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كما لا ينبغي غضُّ البصر وصمّ الآذان عن مظاهرات مؤيّدي "الشرعية" والمندّدين بما أسمَوه "الانقلاب العسكري"، وهنا يجب العلم أن المظاهراتِ المؤيّدة لعودة المعزول تنظّمُها جماعاتٌ إرهابية تكفيرية مدجَّجة بالسلاح ومدفوعة بحكم تطرُّفها الديني تارة، وبحكم المصالح والميول تارة أخرى، إضافة لميولها التراثية السلفية ورغبتها في الماضوية التي من شأنها إعادتنا إلى ما قبل العصور الوسطى على خلفية أوهامهم عن حلول الدولة الدينية "السحرية" لمشكلاتنا الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة، مع أنّ هؤلاء المجاهدين في سبيل الله مصابون بأقصى الدنيوية التي تجعلهم أجرأ من مُجَلَّحَة الذئاب.
أمّا عن المليونيات التي طالبت برحيل مرسي فمثلها كالتي طالبت برحيل مبارك أطلقها جحيم الظلم والاستبداد والبؤس والحرمان الذي صار يعبث بحياة الطبقات الشعبية في سبيل تحسين أوضاعهم المعيشية وتحقيق الحد الأدنى من كرامة الإنسان، إضافة للرغبة التي دوّنها خرط القتاد في الحرّية والتحرُّر، وبرغم ما قد يبدو بسبب التزامن بين الضربة الشعبية لحكم الإخوان وبين تدخُّل الجيش، إلّا أنّ كلًّا منهما سار منفردًا وضرب منفردًا بعيدًا عن أيّ جمع تآمريّ بين الحركتين.
والوقوف على مسافة واحدة بين الجيش والاخوان أمرٌ غاية في الظلم، فالجيش يستحيل التخلّصُ منه كمؤسسة من مؤسسات الدولة الطبقية طالما بقي هذا المجتمع طبقيًّا، فبرغم كونه أداةَ الدولة في سيطرتها على باقي طبقات بل وتنظيم استغلالها، إلا أنّ له دورًا مهمًّا في تخفيف حدّة الصراع بين الطبقات والحيلولة دون الاقتتال بينها، ولا يعني التخلّص من الجيش سوى تحويل المجتمع المصري لغابة حقيقية ليس فقط في جوهره كما هو الحال، بل في كلّ مظاهر الحياة تحت سيادة قانون واحد هو (أن تأكُل أو تُؤكل) ، أمّا الإخوان فهم الإخوان جماعة أصولية وصولية إرهابية فاشية متطرّفة ينبغي التخلّص منها ومن خطرها مهما كانت نتائج هذا التخلّص ومهما كان حجم خطرها وإرهابها، فالأفكار التطرّفية لا مناص من أن تلقى مصيرها الحتمي وهو العزل والإقصاء مهما كانت تمثّل من قوّة في زمن ما.
وقد يبدو لبعضهم أنّ ثورتَنا هي العظمى في التاريخ قياسًا بحجم الملايين والمليونيات، غير أنّ تلك الأعداد تعطي مدلولًا سلبيًّا حول انفجار سكاني في مجتمع لا يجيد سوى إنجاب أعداد هائلة من البشر دون أدنى تأمين لمتطلّبات معيشتهم، بل وإقرار شعبي بالفقر الوحشي والجهل والبؤس والشقاء والحرمان الذي فجّر ذلك الغضب، فلا داعي لاعتبار تلك الأعاصير الجماهيرية نوعًا من التميز في عالمنا هذا الذي لا يعترف إلّا بما يبذله البشر من مجهودات، وأتعجّب من استمرار كتابنا وفلاسفتنا في التمجيد الأعمى والتقديس للشعب وثورته في سياق الشوفينية القومية والتغنّي بعظمة الشعب المصري وتاريخه ومصر أمّ الدنيا وأد الدنيا وفوق الجميع، وهي إشارة لا تخطئ لسمات التدهور والانحطاط في حياة الشعوب ، فهل هو تعويض نفسي عن غياب إنجازات حقيقية للثورة أو الشعب؟!! أعتقد أنّ دوري ككاتب ليس سوى إرشاد الجماهير ورفع درجة وعيها وإنارة الطريق أمامها بدلًا من الدفاع العقائدي الأجوف عن شرعية هذا أو تقديس ذاك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق