قبل أشهر صفع إخوانى متظاهرة أمام مكتب الإرشاد فاشتعلت البلاد كلها غضبا، وكاد مذيعو وضيوف التوك شو أن يصابوا بالفتاق على الهواء من حدة الغضب على كرامة المرأة المصرية، وبالأمس تعرضت متظاهرات سلميات للصفع والركل وشد الشعر والتحرش والإهانة على أيدى أشاوس الشرطة قبل أن يتم رميهن فى الصحراء، فأدارت البلاد وجهها الناحية التانية و»عملت نفسها نايمة»، وكاد مذيعو وضيوف التوك شو أن يصابوا بالفتاق على الهواء من فرط التبرير لما قام به الضباط والجنود، ومن شدة الإدانة لما قام به المتظاهرون الأوغاد.
عندما حاول الإخوان ورئيسهم سيئ الذكر محمد مرسى فرض قانون التظاهر الذى لا يختلف فى جوهره عن قانون التيار السيسي، هاجت الدنيا وماجت دفاعا عن الحريات، وهجا الجميع الرئيس الذى جاء بالتظاهر فقرر أن يمنع التظاهر، لكن عندما فرضت «حكومة الأيدى المرتعشة فى كل شيئ إلا القتل» قانونا ألعن وأضل، لم تستنكر إلا أصوات قليلة منع التظاهر على يد سلطة لم تصل إلى مقاعدها إلا بالتظاهر، وأطل «متحنجلو» المسار الديمقراطى من كل حدب وصوب ليتحدثوا عن موازين القوى وإدراك اللحظة الفارقة و»
كل واحد يثور على قد رجليه»، وبعد أن كانت كلمة «التعايش» تجلب لقائلها الشتيمة، كثر الحديث عنها فجأة فى معرض واحذف النقطة لو أحببت الترويج لأهمية التعايش مع أجهزة الأمن دون تطهير ولا محاسبة، فنحن ضد من يقتل المصريين إذا كان بدقن، أما إذا كان بدبورة وكاب فلا بد أن يحصل على فرصته فى القمع والقتل كاملة.
عندما قامت الدولة الأمنية بإرتكاب مذبحة رابعة لاحقت اللعنات كل من اعترض أو أدان أو حتى تساءل، وعندما قتلت الدولة الأمنية بدم بارد أكثر من ثلاثين مواطنا مسجونا فى سيارة ترحيلات لم يعلن أحد من المدنيين المرتمين فى أحضان الدولة الأمنية والمقدرين لجميلها، عن إستيائه مما حدث ولم يهدد بالإنسحاب من موقعه، لأن القتلى كانوا من «الأغيار» الذين لا يستوجب قتلهم الإدانة، ولذلك تعامل أصحاب الأفكار المدنية الحضارية مع هؤلاء بوصفهم «خسائر جانبية»، تماما، كما تعامل كثير من أنصار تيارات الشعارات الإسلامية مع الضباط والجنود الذين يتم إغتيالهم كل يوم والثانى على أن دمهم مباح طالما أنهم يقفون فى صف الدولة التى أطاحت بمرسى من على كرسيه
والكل يواصل العطاء فى سفك الدماء دون إستعداد للتراجع أو التفاوض، على أمل أن يرفع الطرف الآخر رايات الإستسلام فيحل الإستقرار على البلاد، ويثبت سافكو الدم فى الطرف المنتصر أنهم كانوا على حق منذ البداية.
بالأمس، وعندما أعلن بعض أعضاء لجنة الخمسين المعينة تجميد عضويتهم احتجاجا على ما جرى أمام مجلس الشورى، لم يتأخر رد سلطة اللواءات طويلا، شاهدت فى نفس اليوم مثقفا حصل مؤخرا على رتبة عقيد يهدد المعترضين فى برنامجه بأن الشعب يمكن أن يطيح بهم فى أى لحظة لأنهم لا يمثلون الشعب أصلا، وبعده بكذا ساعة صرح مصدر فى جهة سيادية طبقا لما نشرته (الشروق) أن هناك قوى دولية رصدت خمسين مليار دولار لتعطيل خارطة الطريق، مؤكدا أن من يعلن الإنسحاب من اللجنة يمارس الخيانة العظمى.
قبلها بيوم وعندما قال رئيس الوزراء حازم الببلاوى أنه لا يستطيع أن يصف جماعة الإخوان بأنها جماعة إرهابية، لأن هذا هو دور القضاء، وأنه لا يستطيع أن يضع أى عضو فى جماعة الإخوان فى السجن، تعرض لنوبات شرسة من العقر فى برامج التوك شو التى أدمنت وصفه بالإرتعاش والتخاذل، لأنه لم ينجح فى تحطيم رقم يوم رابعة الذى قتل فيه سبعمائة مواطن فى مكان واحد، ولأنه لم يكرر هذا الرقم كثيرا لكى يرضى عنه رموز الحضارة والمدنية فى الفضائيات الذين يطلبون النقيضين معا: المزيد من الدم والكثير من الإستقرار.
للأسف لم يفهم الببلاوى وكل الذين قبلوا الإستمرار فى تحالف الوطنية الدموية داخل السلطة أو على ضفافها، أن سلطة اللواءات لن ترضى عنهم إلا إذا سلموا أنفسهم لها تماما، كما يسلم أى جندى نفسه لقائد الكتيبة، وأن تفريطهم المتواصل فى مبادئ الإنسانية والحرية لن ينفى عنهم تهمة أنهم من مؤيدى نكسة يناير ومن الخلايا النائمة، ولن يعصمهم من التخوين والتشنيع وقلة القيمة.
لم يدرك هؤلاء برغم ما يفترض من رجاحة عقولهم أن سلطة اللواءات اتخذتهم جسرا ورقيا ترعى عملية إحراقه بانتظام لمواصلة تكفير الناس بأى حل مدنى ديمقراطي، ليصفق الناس بإنبهار لعمليات نصب الجسر الميرى المؤبد الذى سيزيل ورقة التوت المدنية عن جسد البلاد، ويكسوها كلها بالكاكى وسط تصفيق حاد من فرقة الموالسين الجدد الجاهزين بالإستشهادات التاريخية والمعاصرة والتبريرات الأخلاقية والفكرية من جميع المقاسات والألوان والموديلات.
«يعنى إنت كنت عايزنا نعمل إيه.. ماكانش قدامنا بديل تاني»، مثلما ستسمع هذه العبارة من عاهرة مقفوشة، ومن حرامى معكوش، ستسمعها أيضا من مثقف أو سياسى يوالس على القتل والظلم، وليس غريبا أن تسمع من جميع هؤلاء أحط الشتائم لو حاولت تذكيرهم بأن البديل دائما موجود فى التمسك بالمبادئ والقيم التى تفصل المجتمعات المتحضرة عن المجتمعات المتخلفة، وأنه لا يمكن أن نتقدم شبرا إلى الأمام إذا لم نقم بتوحيد المعايير التى كنا نحكم بها على سلطة مبارك وطنطاوى ومرسى لتكون هى ذاتها التى نحكم بها على ما يجرى الآن، فلا نقع فى فخ النفاق الذى وقع فيه الإخوان من قبل فلم تنفعهم السلطة التى وصلوا إليها وظنوا أنها ستدوم إلى الأبد، فلا هم كسبوا السلطة ولا هم كسبوا أنفسهم.
هذا وإلا فلا تعلموا أبناءكم المبادئ والأخلاق والقيم، بل علموهم التحايل على المبادئ من نعومة أظافرهم لكى يكبروا سفاحين ولصوصا وعاهرات ومنافقين وخبراء أمنيين وشيوخ سلطة، لكن قبلها ساهموا فى إيقاف نزيف دماء الذين يحلمون بأن تكون هذه البلاد دولة مدنية متحضرة تساوى بين مواطنيها وتحفظ كرامتهم ودماءهم، بأن تعلنوا بالمفتشر أنها ستصبح رسميا غابة البقاء فيها للأقوى والأحقر، «واللى مش عاجبه يهاجر كندا».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق