كنا، يومها في أواخر يونيو/ حزيران 2011، نسجل حلقة مع بعض أهالي الشهداء في برنامج (في الميدان) الذي شاركت في تقديمه عدة أشهر، في قناة التحرير قبل بيعها، وكنت أسأل السيدة نجية عبد الملك، والدة الشهيد مصطفى كمال (25 عاماً) عن ملابسات استشهاد ابنها أمام قسم الزاوية الحمراء، لأفاجأ بها تمدّ يدها إليّ برصاصةٍ، أخرجتها من ملابسها، قائلة "دي الرصاصة اللي كانت جوه ابني، وقعت وهو على المغسلة، نزلت من صدره وهم بيعدلوه، كان واخد رصاصتين، التانية في بطنه جابت له نزيف داخلي، وديتها النيابة طلبت منهم يخلوها معايا لما تطلبوها أنا أوديها، مش هاين عليا أسيبها فيها ريحة ابني، كل يوم أشمها بالليل وأبص فيها، ماباشيلهاش من صدري".
في هذا الفيديو الذي لم يبق من الحلقة كلها سواه على الإنترنت، سترى كيف فشلت في التخلص من ارتباكي، لأكمل الحوار، وأسأل أم الشهيد عن سجله الجنائي، للرد على موجاتٍ تصاعدت، وقتها، تتهم كل من استشهدوا أمام أقسام الشرطة ومديريات الأمن بأنهم بلطجية وأرباب سوابق، ليتم تصوير الحكاية بوصفها خناقة بين حرامية وعسكر، لتهرب الدولة الشائخة من مواجهة حقيقة إسقاط الثائرين، خلال ساعات، لنظامها القمعي الذي صرفت عليه مليارات الجنيهات، وكأن وجود سابقة جنائية لبعض الضحايا ربما كانت ملفقة في عهد ساده الظلم والتزوير، يبرر القتل الجماعي، ويعفي القتلة من المحاسبة والعقاب.
لم يكن لدى الشهيد مصطفى كمال سجل جنائي يدينه، بل إن علاقته بالسياسة لم تبدأ إلا يوم جمعة الغضب التي ذهب فيها إلى "التحرير" بصحبة عمه الحداد الذي كان يعمل في ورشته، بعد أن زهق من العمل حسب التساهيل مع والده، مبيض المحارة، ولم يصدق مصطفى، يومها، أنه عاد من "التحرير" سالماً، ليستحم ويأكل وجبته الأخيرة من يد أمه، قبل أن يغادر البيت للاطمئنان على عمه الموجود مع المتظاهرين حول قسم الزاوية الحمراء، والذين كان قد بدأ إطلاق النار بكثافة عليهم من داخل القسم، وحين حاول مصطفى إسعاف شاب مصاب، جاءته الرصاصة القاتلة في صدره، ليزيد في فجيعة أسرته أنها خسرت، برحيله، مصدر رزقها الأهم، المتمثل في الثلاثين جنيهاً التي كان يعطيها لأمه، كل يوم، من حصيلة يوميته، البالغة 50 جنيهاً.
وقت تصوير الحلقة، كان أمين الشرطة الذي أطلق النار على الشهيد مصطفى، هو رجل الشرطة الوحيد الذي تلقى حكمين بالمؤبد والإعدام، لقيامه بقتل المتظاهرين، قبل أن تتوالى بعد ذلك أحكام البراءة على كل الضباط ومدراء الأمن المتهمين بقتل المتظاهرين، فيحصل هو، أيضاً، على البراءة، بعد محاكمات عبثية، حصل فيها القتلة على البراءة، لأنهم حوكموا بقوانين، وضعها الذين أمروهم بإطلاق الرصاص، لتدور الأيام، ويستند القاضي الظالم محمود كامل الرشيدي على نتائج تلك المحاكمات الظالمة، لتبرئة مبارك كبير القتلة وأعوانه، متصوراً أنه لو قام بوعظ المصريين بكلام عن الدين ومكارم الأخلاق والبعد عن اللغو، سيمحو عار حكمه المستند على أباطيل برامج التوك شو وأكاذيب أذرع دولة عبد الفتاح السيسي.
دين سيادة القاضي هو كدين غيره من القضاة واللواءات والمسؤولين الذين يعتبرون ما يحصلون عليه من امتيازات وأموال عطاءً ساقه لهم الله تعالى، لأنهم يذهبون، دوماً، إلى العمرة والحج، ويؤدون الفروض والنوافل والصدقات. ولذلك، حين ينحاز القاضي وزملاؤه لمن قتلوا مصطفى ورفاقه، فهم، بذلك، يؤدون شكر النعمة ليديمها الله، لأنها لو زالت لن يحظى أبناؤهم وأقاربهم بالامتيازات التي يُحرم منها مصطفى، وغيره من "الرعايا" الذين جعلتهم الثورة يسعون إلى استرداد حقهم في وطنهم الذي يريدون لهم أن يعيشوا فيه غرباء، كما عاش آباؤهم وأجدادهم.
ليس مقبولاً في دين سيادة القاضي أن يعترض المواطن على قضاء الله، فيرفض أن يبقى منهوباً مسلوباً منزوع الكرامة، وليس من مكارم الأخلاق، كما يعرفها كل السادة المنتفعين بمصر أن يثور شباب مصر من مختلف الطبقات على كبير العائلة الذي جعل بلادهم تقبع في مؤخرة الأمم. المقبول في دين سيادة القاضي فقط أن يتقرب إلى الله، بمطالبة كبير القتلة الجديد بهز جيب دولته أكثر ببعض الفتات لأهالي الشهداء والمصابين، ليدفنوا أحزانهم، ويقبلوا بإفلات قتلة أولادهم من العقاب، لتبقى الرصاصة التي سكنت قلب الشهيد، ساكنةً دائماً إلى جوار قلب أمه، تنتظر عدلاً يطفئ نار "قهرتها" من هذه البلاد التي أضاع أهلها الحق، واختاروا بناء حياتهم على الباطل، مع أن ما بُني على باطل لن يقود إلا إلى المزيد من الدم والعفن.
"وبكره تشوفوا مصر"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق