التقرير
سبع وصايا لثائر استبد به اليأس
أولًا: لا تخجل من اليأس
يبدو لي أن من أطلق شعار “اليأس خيانة” فعل ذلك لكي يخفي عن الناس شعوره الدفين باليأس، أحيانا أظن أن من يبالغون في رفع هذا الشعار لا يفعلون ذلك عن إيمان مطلق بمضمونه، وإنما لكي ينكروا تسرب اليأس إلى دواخلهم، تماما كما يصرخ التقي مستعيذا من الشيطان لينفي افتتانه إن وقع بصره على مفرق صدر سكارليت جوهانسون. لو قلت لك إنه ليس من حق أحد أن يصادر على مشاعر وأفكار الآخرين لكي يتهمها بالخيانة، سيكون ذلك أيضا مصادرة على مشاعرك وأفكارك حتى لو كانت عدوانية، ما يمكن أن أقوله إن اليأس شعور إنساني إذا أصبت به فأنت إذن إنسان طبيعي لا تشكو من تبلد الحس، عليك فقط ألا تسمح بتبلد أحاسيسك و”تبليطها” في خط اليأس، وأن تواصل البحث عن الأمل لعلك تصاب يوما به كما أصبت باليأس، وحتى تحدث تلك الإصابة السعيدة، لا أظن أن هناك وصفة للنجاة أكثر حكمة وواقعية من تلك التي صكها العم نيتشه عندما دعا إلى الجمع دائما بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، إذا كنت تسب سنسفيل أفكاري الآن فدعني أهنئك لأنك أثبت أنك إنسان طبيعي لا تنقصك البذاءة التي لم تعد الحياة ممكنة بدونها.
ثانيًا: لا تواسِ أحدًا
في ظل مناخ فاشي هستيري لا يوجد أمل في أن تقنع من حولك بأن كل ما يحدث يؤكد أن السلطة القمعية تصنع لنفسها كل يوم بغبائها مأزقا جديدا وعدوا شرسا، لأن البعض سيظنك متفائلا والعياذ بالله، وسيصرخ في وجهك إن كان مهذبا صرخة محمود عبد العزيز الشهيرة “يا عم باقولك أنا مش أنا.. صدق العليل ولا تصدق التحاليل”، لذلك لا تحاول عندما ينعي لك ثائر ثورته أن تواسيه مثلا بعبارة المفكرة روزا لوكسمبورج الرائعة: “الثورة هي شكل الحرب الوحيد الذي لا يأتي النصر فيه إلا عبر سلسلة من الهزائم”، فكثيرا ما يكون الشعور باليأس أكثر راحة للنفس البشرية من تحفيزها على الصمود حتى يتحقق نصر غير مضمون الموعد.
ستتبدد حتما سكرة نصر راكبي السلطة الموهومين، ليجدوا أنفسهم مطالبين بتقديم حلول لمشاكل الواقع التي تسببت أصلا في اندلاع الثورة، وعندها لن تنفعهم رطرطة الكلام عن المؤامرات الدولية والثوار الملاعين، لأن الناس يمكن أن تأكل الأونطة، لكنها لا يمكن أن تعيش عليها إلى الأبد، وحتى يحدث ذلك سيبقى ما يشعر به أي ثائر من مشاعر المرارة والحزن أمرا يخصه وحده، وربما حمل له بعض العزاء إدراكه أن نهر الثورة لم تفجره إلا مطالب شعبية، ولذلك، مهما تم تحويله ليصب في مصلحة مؤسسات الدولة الفاسدة، أو وضعوا سدودا قمعية لتمنع تدفقه، فإن الوسيلة الوحيدة للسيطرة على نهر الثورة، ستكون بإيقاف الأسباب التي فجرته منذ البداية، والتي يمكن أيضا أن تجدد ثورته في أي وقت.
ثالثًا: لا تدعها تأكلك.. بسهولة
نحن الآن نعيش تلك الأيام التي تأكل فيها الثورات أبناءها، فلا تدع ثورتك “تاكلك”. كان الكثيرون من أبناء هذه الثورة يتعاملون مع جملة (الثورات تأكل أبناءها) باستخفاف لأنهم يعتبرونها قادمة من عصور المشانق والمقاصل التي لم يعد لها مكان في زماننا، لكنهم لم يدركوا أن معنى العبارة أعمق من الأكل بمفهومه المادي القمعي، فالثورات تأكل معنويا أبناءها الذين لا يدركون تقلبات الخلق أيام الثورات، ولا يكونون مستعدين للتعامل مع تلك التقلبات العنيفة التي تجعل المرء يصبح ثائرا ويمسي خائرا، ليس بتغيير جلودهم وفقا لتلك التقلبات، بل بفهم أسبابها والتعامل الإيجابي معها، حتى لا يأكل الثائر نفسه من الغيظ.
لكي أكون صادقا معك، ليس هناك أي ضمانة ستنجيك من أن تأكلك ثورتك، لكن حاول قدر ما استطعت تأخير ذلك، ودعني أذكرك بما سبق أن كتبته منذ ثلاثة أعوام في هذا الصدد لكي تتضح لك رؤيتي أكثر: “الثورات تأكل أبناءها، ليس لديّ أدنى ميل لمقاومة هذه الحقيقة، أنا ابن ثورة الخامس والعشرين من يناير كما يسميها الكثيرون، أو ثورة الثامن والعشرين من يناير كما أسميها أنا وقليلون غيري، وأعلم أنني كأي ابن لأي ثورة، سأؤكل قريبا، كل ما أستطيع أن أعد به أنني حتى تعرضي لذلك وأثناءه سأجعل آكليّ يقضون وقتا طويلا سيئا في مضغي وابتلاعي وهضمي وتمثيلي الغذائي، وأنهم سيترددون بعد أكلي كثيرا على الحمامات وأطباء الباطنة ومعامل التحليل، هذا كل ما أملكه للمقاومة، وهو لو تعلمون عظيم”.
رابعًا: تمسك بذاكرتك
عندما يغني كُلٌ على ليلاه، تمسك بذاكرتك فهي سلاحك الوحيد، وتذكر أن “ليلاك” هي مصر الحالمة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ولذلك لا تدخل في مناقشات عبثية تستهلك طاقتك الإيجابية، ولا تضيع عمرك وأنت تحاول إقناع الذين اختاروا العبودية بأن كل ما نشكو منه من فضلات لم يخرج إلا من مؤخرة نظام مبارك، وأنه لا سبيل لنا لكي نحظى بالتقدم والرخاء إلا بتفكيك القنابل المفخخة التي تركها لنا نظام مبارك. تذكر أن من ترغب في إقناعه ببديهيات كهذه، ربما كان يحتفل مع مبارك وأنجاله بكأس الأمم الأفريقية في اليوم التالي لغرق عبارة ممدوح إسماعيل وعلى متنها ألف ومائة مصري في قاع البحر الأحمر، وأنه بالتأكيد لم يكن يجد أدنى أذى في كونه يعيش في وطن يتم فيه انتهاك كرامة الناس وتعذيبهم وهتك عرض حريمهم ونفخهم وصعقهم بالكهرباء، لذلك هو يرى الحل لكل ما نحن فيه أن يعود ثانية ذلك العهد المبارك ليفعل ذلك بمن يكرههم من رافعي الشعارات الإسلامية، دون أن يسأل نفسه: “إذا كان ذلك حلا فلماذا ظللنا نحتفظ بمشكلة انتشار تيارات الشعارات الإسلامية في بلادنا برغم كل ذلك القمع؟”، ومثل هذا لا تحاول أن تسأله “كيف تدعي أنك تحارب الفاشية الدينية وكل ما يخرج من فمك ليس سوى فاشية وعنصرية واستعلاء على البشر وكسل عن مواجهة تعقيدات الواقع واستسهال للقمع والتعذيب”، لا تسأله كيف تشجع الميليشيات التي تحرق ممتلكات الناس وتعتدي على المدنيين دون أن تفكر أنها سلاح ذو حدين يمكن أن يستخدمه من يعارضك الرأي، صدقني لا أمل بإقناع هذا، فقط اترك الواقع لكي يلقنه نفس الدرس الذي سيلقنه للمتطرف الإسلامي، ذلك الدرس الذي يمكن تلخيصه في “يا نعيش سوا عيشة فل.. يا نخربها إحنا الكل”.
خامسًا: انس المنطق أحيانًا
“إنما الأمر في نظري أن مسائل الحياة لا تجري على المنطق دائما، وخاصة أيام الثورات، وحوادثنا القريبة في ثوراتنا الحديثة أكبر شاهد على ذلك، فكم انتقل رأي الكبراء من ناحية إلى ناحية تحت تأثير تيار الرأي العام”، هذه العبارة البليغة كتبها المفكر العظيم أحمد أمين في كتابه (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) وهو يروي سيرة الإمام محمد عبده وموقفه من الثورة العرابية الذي بدأ بكراهية مفرطة لأحمد عرابي الذي كان يراه رجلا بالغ الضرر على المصريين لأن حلمه الثوري سيجهض الحلم الإصلاحي الذي كان يسعى إليه محمد عبده بشتى السبل. كان محمد عبده متشككا في جدوى الثورة العرابية مع أنه -كما يقول أحمد أمين- كان بدعوته الإصلاحية “سببا بعيدا من أسبابها ولم يكن سببا قريبا كعبد الله النديم… لكن شكه فيها استمر حتى رأى كل الأمة في ناحيتها، فاشترك فيها المسلمون والأقباط واليهود، ولم يصبح الأمر أمر حزب أمام حزب، بل أمر مصر أمام الإنجليز”، هنا انضم محمد عبده إلى الثورة متأخرا، لكنه دفع ثمن ذلك غاليا، حيث حوكم وسُجِن ونُفي خارج مصر، تماما كعرابي الذي ظل محمد عبده يلومه دائما على مواقفه العنيدة المتصلبة، لكن أعداء الثورة عندما قاموا بكسرها لم يفرقوا بين الإصلاحي والثائر، لم يفرقوا بين من كان مع الثورة من بدايتها ومن انضم إليها متأخرا بل سعوا للقضاء على الثورة وكل من ارتبط بها، لكن الثورة العرابية برغم انكسارها بقيت كفكرة، ونجحت بعد مرور سنوات قليلة في أن تتغلب على اتهامها بأنها هوجة عابرة، لتنبعث ثانية في وجدان المصريين، ولينصف الزمن فرسانها كلٌ حسب دوره وجهده وعطائه، ولتبقى سيرتها ملهمة للثائرين بكل بطولاتها العظيمة وأخطائها الجسيمة أيضا.
سادسًا: اتبع قلبك
عندما تتعدد الاجتهادات وتتضارب الاختيارات وتتناقض التفسيرات وتترطرط الجبهات وتبدو كل الروايات مقنعة، “فُكّك” من كل هذا واتبع قلبك، فلن ينجيك غيره، لا يعني هذا أن تلغي عقلك، على العكس في أيام كهذه لن يستجيب عقلك لأي محاولة إلغاء، وسيظل يعمل طيلة الوقت بشكل مرهق، وستكون محاولة تعطيله الكاملة غباوة مفرطة ومضيعة للوقت والجهد، كل ما في الأمر أنك محتاج لأن يكون قلبك هو صاحب القرار، فنحن في أيام يسهل فيها أن يضل العقل ويزل الإدراك ويصبح الحليم حيرانا ويمسي الحيران ملدوعا.
لذلك تذكر أن الثبات الانفعالي سلاحك الوحيد للبقاء في قارب النجاة الذي يصارع الأمواج العاتية، ولن يساعدك على ذلك سوى التشبث بمجدافين: الفهم والسخرية، إذا كنت قد وصلت إلى قارب النجاة ولم تغرق أصلا تذكر أنه لن يصل إلى بر النجاة الذي هو موجود بالتأكيد في مكان ما لا نراه الآن سوى من يتمسك بالفهم والسخرية، لأن الاكتفاء بمجداف السخرية وحده بلاهة واستخفاف بالخطر، والاكتفاء بمجداف الفهم وحده سيفضي بك إلى الاكتئاب وكسر المجداف ولبسه، والسخرية هنا بالغة الأهمية لأنها ستذكرك دائما أن كل ما تصل إليه من فهم للعاصفة التي تصارعها ليس سوى استنتاج مبدئي قابل للمراجعة مع أول هجوم لموجة شاهقة العلو تهدد بقلب المركب رأسا على عقب.
أهم ما يجب أن تنتبه إليه الآن أن الظروف حكمت عليك أن تركب في نفس المركب إلى جوار كثيرين يقومون بالتجديف معك بنفس الهمة بحثا عن بر النجاة، لكن أول ما سيفعلونه فور الوصول إليه قتلك أو تسخيرك لتكون عبد الجزيرة الأول، ليس لديك للأسف خيار ترك المعركة ورمي نفسك في البحر، لأن الشهادة أكثر شرفا من الانتحار العاجز، وضميرك لن يقبل بخيار رمي المجداف والاستسلام للمصير المجهول، لأن الطرف الآخر لو حقق النصر ستكون أنت أيضا هدفه الأول، فأنت وحدك الذي تهدد الجميع في هذه البلاد، فلولاك لاستمروا في التعايش مع الخرابة التي ألفوا عفونتها وعرفوا مداخلها ومخارجها واتخذوها مستقرا ومستودعا، لذلك ليس أمامك سوى خيار وحيد أن تأخذ دائما زمام المبادرة على متن المركب وأنت تقاتل بكل شرف وذكاء من أجل ما خرجت مضحيا بروحك من أجله في الثامن والعشرين من يناير 2011، وأن تحرص على إعلان أهدافك ونواياك دائما وأبدا لأن ذلك هو وحده السبيل الذي سيجعلك تتبين عدوك من حبيبك.
سابعًا: ابنِ ذاتك فعليها يتوقف كل شيء
أكثر ما يمكن أن يلهمك في هذه الأيام الخنيقة التي تمر بها البلاد كلمات المفكر الثوري علي شريعتي في كتابه الرائع (بناء الذات الثورية) وهو يقول بعد تأمل طويل لتاريخ الثورات: “إن الإنسان لا يستطيع أن يبقى مخلصا وصادقا في ثورة اجتماعية حتى النهاية ووفيا لها، إلا إن كان ثوريا قبلها ومتناسقا معها، فليس الإنسان الثوري هو الذي يشترك في ثورة اجتماعية فحسب، فما أكثر الانتهازيين والمغامرين والنفعيين الذين يشتركون فيها، وهم جرثومة الانحراف في كل الانتفاضات، وفشل كل الانتفاضات من جراء اشتراكهم فيها، لأن الثوري قبل كل شيء جوهر أعيدت صياغة ذاته”. لذلك لا تراهن على أحد سوى على نفسك وأحلامك ومبادئك، فلن تنتصر هذه الثورة إلا بالقليلين الذين آمنوا بها قبل أن يروها، صدقني لن ننتصر إلا عندما يعيد كلٌ منا بناء ذاته الثورية وننجو من آفة الزياط الثوري التي تجعل بعضنا يجبن عن مواجهة الواقع بما فيه من عك وتناقضات وأخطاء بما فيها الأخطاء التي نرتكبها والتناقضات التي نقع فيها، لأننا إذا هربنا من تلك المواجهة لن نكون قد اختلفنا عن الخرفان الذين نسخر من إدمانهم لنطاعة السمع والطاعة.
أنت يائس، وماله؟ مجهد؟ ليس عيبا. اتخنقت؟ ومن منا ليس كذلك؟ اليأس ليس عيبا، ليس خيانة كما نحب أن نقول أحيانا لكي نحمس بعضنا البعض، لا تستسلم لمن يلعن اليأس، ولا لمن يروج للأمل، لا تستسلم لمن يقول أي شيء، بما فيه ما أقوله أنا، يمكن فقط أن تتذكر “أبونا” صلاح جاهين وهو يجيب قرار الحياة بقوله “صبرك ويأسك بين إيديك وإنت حر.. تيأس ما تيأس الحياة راح تمر.. أنا شفت من ده ومن ده عجبي لقيت.. الصبر مُرّ وبرضك اليأس مُرّ”. فاختر لنفسك ما شئت، ونم على الجنب الثوري الذي يريحك، لكن لا تستهن بقوة اليأس أبدا، فلولا اليأس ما انفجرنا في 28 يناير، ومن يدري، ربما كان اليأس أملنا الوحيد الآن، وربما لا، الله أعلم.
(هذه الوصايا مقتطفات من كتابات متفرقة نشرتها على مدار عام 2013، وكانت نافعة لي وللبعض كما زعموا، إذا كنت ممن يستبد بهم اليأس الآن، جَرِّبها، فإن نفعتك كان ذلك خيرا، وإن لم تنفعك فاعتبرها بجملة خسائر الأعور الذي ضربوه على عينه فقال: أهي خسرانة خسرانة).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق