قبل أسابيع قليلة من اندلاع ثورة 25 يناير، تبادلت أطراف الحديث مع صديقى الشاب المثقف فى شارع 26 يوليو حول أوضاع البلد، وضرورة اصلاح المنظومة الفاسدة التى أدت إلى تراجع مصر فى كافة المجالات، وتحدث صديقى عن أحلامه بأن يتم انشاء حزب ليبرالى حقيقى، ينشر ثقافة الاختلاف والتعدد، يكون من حق كل مواطن أن يعبر عن رأيه بحرية، وأن يحترم الآخرون وجهة نظره، مطلقا العنان لخياله، وحلقت معه أنا الآخر ولم أصحو إلا حينما سمعته يقول: ولكن لى شرط أن أكون أنا رئيس هذا الحزب.
بقدر ما أبهرتنى أفكار صديقى المثالية الراقية، بقدر ما صدمتنى الجملة الأخيرة، فقد رسم لوحة جميلة بتأنى شديد ثم نسفها فى لحظة حينما أشترط أن يكون هو الرئيس.
حال النخبة المصرية المثقفة والسياسية، لا يختلف كثيرا عن حال صديقى، فقد ظلت هذه النخبة ترسم لنا صور جميلة حول ضرورة الاصلاح ونشر ثقافة الحرية والديمقراطية، ولكن عند التطبيق العملى تخلت عن كل ذلك فى مقابل انتزاع مكاسب شخصية أو التعصب الأعمى لأفكارها وأيديولوجياتها.
لا أنكر أننى أنخدعت بهذه النخبة إلى أن وضعت على المحك، وكانت ثورة 25 يناير لحظة الاختبار الحقيقى، حينما خرجت الجماهير الثائرة لاسقاط النظام الفاسد، دون تخطيط أو دور حقيقى لهذه النخبة، وعندما سقط "مبارك" تصارعت هذه النخبة لتركب الثورة وتسرق جهود المواطنين البسطاء، الذين ضحوا فى سبيل هذه اللحظة بدماءهم .
لم تكن النخبة المصرية على مستوى طموحات الشعب المطحون، وبدلا من أن يتلقفوا الثورة ويعملوا على بلورة نظام ديمقراطى حقيقى، تسابقت هذه النخبة للاستئثار بالغنائم، بل لم يجد بعضهم غضاضة فى التحالف مع رموز النظام السابق ضد رفقاء الميدان، سواء أثناء فترة حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو خلال أحداث 30 يونيو و3 يوليو، وكشفوا ظهر الثورة فاستولى رموز النظام السابق على السلطة مرة أخرى.
نعم أضاعت النخبة برعونتها وأنانيتها وعمالة بعض رموزها لنظام المخلوع ثورة 25 يناير ومعها أحلام البسطاء، وكأن هذه النخبة لعنة على هذا الشعب، وسقطت أقنعة رموزها لتكشف ما تخفى خلفها من حقائق مخجلة، فرأينا أحزاب ليبرالية مثل حزب الوفد تنحاز لعودة العسكر للحكم، ضاربة بكل أدبياتها السياسية والأيديولوجية عرض الحائط، ورأينا أحزاب إسلامية مثل حزب النور السلفى "المتشدد" يتخلى عن حلفائه الإسلاميين، ويرتمى فى أحضان أحزاب علمانية، ورأينا الرموز الدينية سواء فى الأزهر أو الكنيسة يتخلون عن شعارهم"لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة" ويغرقون حتى آذانهم فى اللعبة السياسية، ورأينا إعلاميين وصحفيين كنا نعدهم من المعارضين لنظام مبارك، وفجأة أصبحوا من أشد المدافعين عنه وعن رموزه، ورأينا مثقفين ومفكرين كانوا من المدافعين عن كرامة وحقوق المصريين وقد تحولوا إلى أبواق لتبرير أعمال القتل والقمع الأمنى ضد المتظاهرين، ورأينا بعض مرشحى الرئاسة السابقين وهم يقررون عدم خوض انتخابات الرئاسة هذه المرة والتفرغ لمساندة "الملهم المزعوم"، ورأينا نماذج كثيرة أخرى تتساقط تباعا فى شتى المجالات.
ما يدعوا للسخرية أن بعض رموز النخبة حاولوا تصحيح أخطائهم، ولكن بعد فوات الأوان، فرموز النظام السابق كانوا قد أحكموا سيطرتهم على السلطة عقب الانقلاب العسكرى فى 3 يوليو الماضى، واستخدموا هؤلاء الرموز كغطاء لتمرير انقلابهم، بذريعة تصحيح مسار ثورة 25 يناير، فخرجوا يجرون خلفهم أذيال الخيبة، تطاردهم اللعنات واتهامات الخيانة والعمالة من الطرفين المتصارعين، فمنهم من اختار الرحيل، ومنهم من قرر الإنزواء، فيما قررت الشريحة الكبرى منهم الاستمرار فى دعم سلطة الإنقلاب ولسان حال بعضهم يقول:"إذا وجدت أنك تمر فى الجحيم فواصل".
للأسف كانت هذه النخبة من صنيعة النظام السابق وأجهزته الأمنية، ليلعبوا دور "المعارضة الكارتونية"، فيما كانت نسبة غير قليلة من كبار المثقفين والمفكرين تخفى فى أعماقها تعصب أعمى لانتماءاتها الأيديولوجية والحزبية، فهم يؤمنون بالديمقراطية إذا حققت لهم المكاسب، وإلا كفروا بها، وانقلبوا عليها.
ولكن رغم هذه الصورة التى تبدو شديدة السواد والقتامة، ورغم القتل والقمع الأمنى والانقسام الحاد، مازال الأمل قائم طالما استمر هذا الحراك الثورى المتواصل منذ شهور، هذا الحراك قادر على افراز نخبة حقيقية لم تتلوث أيديها بالعمالة لنظام حاكم، ولا تبحث عن مصالح شخصية، ولديها إيمان حقيقى بمبادئها قولا وفعلا، هذه هى النخبة التى ستحقق أهداف الثورة القادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق