الحياة اللندنية ـ 30/4/2014
لا تفلح الأنظمة السلطوية فى الإمساك بالسلطة من دون السيطرة على عملية تشكيل وعي الأفراد والجماهير ومحاولة تدجينها بشكل يخـــدم بـــقاءها فى الســـلطة لأطول فترة ممكنة. وتعد اللحـــظة التي يتم فيـــها تغيير هذا الوعي بمثابة «الضربة» الأولى في عملية سقوط مثل هذه الأنظمة وذلك على غرار ما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية على نحو ما أخبرتنا الانتفاضات العربية.
ومنذ انقلاب الثالث من تموز (يوليو) في مصر وحتى الآن، فإن ثمة حملة ممنهجة ومنظمة تُشرف عليها وتقودها أجهزة سيادية تقوم بصناعة وترويج أساطير وأوهام سياسية بهدف تحويلها إلى حقائق يتداولها الناس لاحقاً كما لو كانت مسلّمات لا يجب مناقشتها أو الاختلاف معها. وذلك كله في إطار التمهيد لقيام نظام سلطوي ذي نزعة فاشية وإقصائية لا يمكن أحداً محاسبته أو مراجعته. وهي الأساطير والأوهام التي يبثها الإعلام المصري بكل أشكالها المرئية والمسموعة والمقروءة ليل نهار من دون توقف في ما يشبه حملة منظمة «لغسيل العقل» المصري.
فى حين أن الواقع يكشف عن مدى تهافت هذه الأساطير وزيفها. وهنا يمكن الإشارة إلى خمس من الأساطير السياسية التي تهيمن على الفضاء العام في مصر ويجرى صناعتها وترويجها بشكل فج. أولى هذه الأساطير هي أن ثورة ٢٥ يناير لم تكن سوى «مؤامرة» حيكت بليل خططت لها جماعات وقوى وشخصيات محلية بمساعدة دول وأجهزة استخباراتية دولية. وهي الأسطورة التي تجرى تحت عباءتها ليس فقط تصفية الثورة والتخلص ممن قاموا بها، وإنما أيضاً استخدامها كفزاعة لتخويف المعارضين للوضع الراهن وتهريبهم، ومنع توجيه النقد أو الاختلاف مع ما تراه السلطة القائمة.
وهي أسطورة متهافتة لأسباب عدة ليس أقلها أن من يروجونها كانوا في وقت من الأوقات جزءاً من الثورة مثل بعض الإعلاميين والسياسيين والناشطين الذين انقلبوا على الثورة وعلى أهدافها وباتوا جزءاً من الوضع الجديد. ثانية الأساطير هي أن المرشح الرئاسي عبدالفتاح السيسي هو «المنقذ» لمصر من الضياع.
وهي الأسطورة التي مثلت الخلفية الأساسية لانقلاب ٣ تموز (يوليو) حين قام الإعلام الرسمي والخاص بتصوير السيسي باعتباره الشخص «الذي أنقذ مصر من حكم الإخوان»، وأنه الشخص الوحيد القادر على فرض الأمن وتحقيق الاستقرار في البلاد. وهي أسطورة تتجاهل أسطورة أخرى صنعها الإعلام ذاته حول «الملايين» التي خرجت في الثلاثين من حزيران (يونيو) وطالبت بانتخابات رئاسية مبكرة ووفر من خلالها غطاء للسيسي للقيام بالانقلاب ليس فقط على مرسي وإنما أيضاً على هذه الجماهير الحالمة. وقد وصلت صناعة هذا «البطل» الأسطوري إلى حد الهوس والتماهي والتقديس للرجل بشكل لم يعد موجوداً إلا في ديكتاتوريات صريحة مثل كوريا الشمالية. أسطورة «السيسي-المنقذ» يفضحها الواقع.
فمعدل العنف والقتل منذ تموز وحتى الآن لم يحدث فى تاريخ مصر الحديث. كما أن البلاد لم تشهد أي نوع من الاستقرار أو الهدوء، بل على العكس ازداد الانفلات الأمني وزادت معدلات العنف، وفقدت الدولة الكثير من هيبتها أمام هجمات الجماعات الراديكالية التي وجهت ضربات قوية الى الجيش والشرطة.
ومن المفارقات أن من يدافعون عن هذه الأسطورة لا يدركون أن وصول السيسي الى السلطة كفيل بإنهائها. فالرجل لن يقدر على وقف مسلسل العنف لسبب بسيط وهو أنه أصبح جزءاً من المشكلة وليس الحل. الأسطورة الثالثة هي أن السيسي سيخلّص مصر من التبعية لأميركا إن لم يتصد لها ويتحداها. وهي أسطورة متهافتة تنقضها ليس فقط تصريحات السيسي الأخيرة التي أثنى فيها على الولايات المتحدة وناشدها إرسال مساعداتها العسكرية المتوقفة، وإنما أيضاً لأن السيسي ومعه وزير الدفاع الجديد صبحي صديقي يمثلان طليعة الجيل الحالي من كبار القادة العسكريين المصريين الذين تلقوا تعليمهم ودراستهم العليا فى الولايات المتحدة.
ويتمتع السيسي بعلاقات قوية مع البنتاغون وأجهزة الاستخبارات الأميركية وغيرها من مؤسسات الأمن القومي ليس فقط بحكم أنه كان وزيراً للدفاع، ولكن، وهذا هو الأهم، أنه كان رئيساً للمخابرات الحربية فى عهد مبارك.
ويبدو أن عكس هذه الأسطورة هو الصحيح، فالسيسي يعد الشخص المثالي بالنسبة الى أميركا كي يقود مصر خلال المرحلة المقبلة. أما الأسطورة الرابعة وهي بمثابة الوجه الآخر للأسطورة السابقة، أن الولايات المتحدة تدعم جماعة «الإخوان المسلمين». وهي أسطورة ليست فقط ساذجة وإنما أيضاً تعبر عن جهل حقيقي وتكذبها الأسطورة السابقة.
وقد وصلت هذه الأسطورة في الإعلام المؤيد للسيسي إلى الحد الذي جرى فيه اتهام الرئيس الأميركي باراك أوباما بالانتماء الى جماعة الإخوان، وقد كان ذلك عنواناً عريضاً لإحدى الصحف الكبيرة المنتمية الى ما يطلق عليه التيار الليبرالي في مصر. ناهيك عن عدم وجود دليل يدعم موقف من يروجون لهذه الأسطورة، فإن هناك الكثير من الدلائل التي تثبت عكسها. من جهة، فالولايات المتحدة تخلت عن محمد مرسي على رغم أنه كان أول رئيس مدني منتخب في مصر بطريقة نزيهة وديموقراطية. كما أنها لم تُسمّ عزله من جانب وزير دفاعه انقلاباً على رغم وضوح ذلك. ومن جهة ثانية، فقد كانت المرة الأولى التي لا يعتبر فيها رئيس أميركي مصر حليفاً استراتيجياً في عهد محمد مرسي وذلك حين وصف أوباما العلاقات مع مصر باعتبارها علاقات مع دولة «ليست عدواً أو صديقاً». ومن جهة ثالثة، وعلى عكس العرف الأميركي فلم يتم توجيه الدعوة الى مرسي لزيارة واشنطن وحسب بعض المصادر فقد كان البيت الأبيض يتهرب ويتجنب تحديد موعد للقاء مرسي مع أوباما لأسباب مختلفة.
ومن جهة أخيرة، فإن واشنطن لم تمارس أي ضغط حقيقي على سلطة الثالث من تموز من أجل دمج جماعة الإخوان فى العملية السياسية ويبدو أنها استسلمت لضغط القاهرة بعزل الإخوان وإقصائهم نهائياً. ولم يكن غريباً أن يكون قرار الإفراج عن الجزء الذي تم تجميده من المساعدات العسكرية الأميركية لمصر قبل أسبوع مرتبطاً بأمرين هما الحفاظ على السلام مع إسرائيل ومحاربة الإرهاب من دون أي حديث يذكر عن الديموقراطية أو حقوق الإنسان فى مصر. أما الأسطورة الخامسة والأخيرة فهي استقلالية القضاة في مصر وحيادهم. وهي أسطورة ليست فقط تناقض الواقع وإنما أيضاً يتم استخدامها كسيف على رقاب كل من ينتقد تسييس القضاة أو التعليق على أحكامهم على رغم عدم معقوليتها. ويكفى لنقض هذه الأسطورة مراجعة سجل المحاكمات والأحكام القضائية التي صدرت منذ ثورة يناير وحتى الآن، خصوصاً تلك التي صدرت خلال الأسابيع والأيام الماضية، وهو ما يكشف حجم المأساة التي يعيشها القضاء المصري ووضعت تاريخه وسمعته على المحك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق