أخطر ما تواجهه مصر في معركة النهوض الحضاري، هو تغييب دور الدولة في عملية التنمية، والاستمرار في السير في ذات الطريق الذي تسبب في انهيار الاقتصاد المصري خلال العقدين الماضيين.
لا يمكن أن تنهض مصر بالاعتماد على الخارج، أو بالخضوع لمؤسسات التمويل الدولية، أو بالاستثمارات الأجنبية التي تعمل لأهداف ليست في صالح استقلالنا ونهضتنا، أو حتى من خلال دائرة ضيقة من رجال الأعمال المرتبطين بدوائر خارجية، وستفشل أي تجربة لا تعتمد على الدور الرئيسي للدولة كمحرك وموجه لعملية التنمية.
ما تعاني منه مصر من أزمات اقتصادية متنامية يرجع لاختفاء الدولة وغياب الحكم الذي يقف أمام الهجمات العابرة للقارات التي تعمل على استمرار الهيمنة الخارجية على مقدراتنا واستنزاف ثرواتنا، والقضاء على أحلامنا.
ونفس الخطأ نراه في اتجاه صناع القرار إلى الشرق بذات التفكير وفتح الأبواب للصين وغيرها بدون ضوابط، الأمر الذي قد يتسبب في كوارث أكبر مما نعاني منه الآن، فالمنتجات الغربية نوعية بينما المنتجات الصينية شاملة وتقضي بلا شك على كل صناعة وتكتسح أمامها أي محاولة محلية للمنافسة على الأرض المصرية.
ما وصلنا إليه من شل يد الدولة والسعي المتواصل لإلغاء وجودها وجعل صناع القرار يعتمدون على اقتصاديين مرتبطين بشكل أو بآخر بمؤسسات التمويل الدولية سيؤدي بنا إلى الدولة الفاشلة التي يخطط لها من لا يريدون خيرا لمصر.
للأسف، ورغم ثورتنا المجيدة لازال لوبي صندوق النقد والبنك الدولي، يعمل كي نضع رقابنا تحت مقصلة القوى الدولية التي تستخدم المؤسستين الماليتين لاستمرار السيطرة على بلادنا. هؤلاء يروجون إلى أننا مضطرين للخضوع للصندوق من أجل الحصول على شهادة بحسن السير والسلوك، رغم أن الصندوق والبنك كان لهما الدور الأكبر في تدمير الاقتصاد المصري خلال العقدين الماضيين من خلال سياسات أفضت إلى إضعاف دور الدولة وإبعادها عن توجيه الاقتصاد الوطني وفرض سياسات شجعت على إيجاد نموذج رأسمالي مستنسخ من الرأسمالية الأمريكية المتوحشة، التي جعلت المواطن المصري يعيش في معاناة متواصلة لا أمل في الخروج منها إلا بالثورة.
فالدولة باعت المصانع والشركات وبددت ممتلكات الشعب، في وقت لم يكن في مصر رأسمالية وطنية تحافظ على مقدرات البلاد، فدخلت شركات لها أغراض أخرى، وصار البعض وكلاء لشركات دولية احتكارية تحارب الصناعة الوطنية، وواجهات لا تعمل من أجل صالح مصر وشعبها، فضاع القطاع العام وتشرد العمال، وأغلقت المصانع وتم تفكيك الآلات وبيعت أراضي المصانع في عملية فساد رهيبة.
هذا التخريب المخطط أنهى دور الدولة فضاع المواطن البسيط، وسقطت الطبقة الوسطى في براثن الفقر، واختل المجتمع فتفشى الفساد، وضاعت القيم وانهارت قلاعنا الصناعية الواحدة تلو الأخرى وتفكك المجتمع وأصبح الفقر هو السائد.
ومع تجريد الدولة من ممتلكاتها ضربها الفقر، وتخلت عن دورها في التوظيف فتعطل الشباب المتخرج من الجامعات بالملايين، وتخلت الدولة عن دورها في بناء المساكن، فظهرت مشاكل الإسكان والذي ترتب عليه توقف قطار الزواج فزادت العنوسة والعزوبية، وظهرت مشاكل اجتماعية بالغة التعقيد.
يا سادة: قروض صندوق النقد والبنك الدولي ليست مجرد قروض بفائدة بسيطة كما يحلو للمروجين، إنما هي منظومة جهنمية تعمل على استبعاد الدولة وإنهاء دورها وعزلها، وصناعة قطاع خاص جشع مرتبط بالخارج، لا هدف له غير الربح، يدوس في طريقة القيم والمواطنين، ويدمر الحاضر والمستقبل.
وهذا الخلل في بوصلة الحركة إن لم يتم تصحيحه، فإن ما يتصوره البعض من فرص سيتحول مع الوقت إلى إخفاقات، وتجارب فاشلة لن تزيد أوضاعنا إلا سوءا.
لدينا امكانات هائلة، وفرص حقيقية، ولكن الأمر يحتاج إلى عقول ذكية فاهمة وقلوب مخلصة، تعمل على استعادة دور الدولة الغائب وتسخير الاقتصاد لخدمة المواطن وليس تسخير الدولة والمجتمع من أجل المستثمرين الأجانب والشركات الدولية العابرة للقارات.
---------------------------
رئيس تحرير جريدة الوادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق