انتظرت أياما لعل هناك مبادرات كثيرة أو قليلة تسجل هذا الحدث الوطني الهام لكن ذلك لم يحدث ففيما نستغل هذا الفضاء السحري إن لم يكن في إصلاح حالنا والقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت .. هذا واحد من الكبار بكل المعايير يرحل عنا فجأة دون أن نقول فيه كلمة وداع وهو الذي حمل السلاح ضد الاستعمار الغاشم في سن العشرين وخاض المعارك الضارية والأحداث الجسام وعندما استرجعت السيادة الوطنية بثمن باهظ دفعه شعبنا العظيم دون تردد انخرط المغفور له في مسار البناء والتشييد بكل ما يملك من قدرات عالية وثقافة سامية وراح يخدم بلده وشعبه في مجالات شتى ليصبح ضابطا ساميا في الجيش الوطني الشعبي وسفيرا ماهرا في بلدان عدة ووزيرا مناضلا في الحكومة وعضوا في مجلس الأمة وعضو في اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني وكان على وشك تبوإ منصب الأمانة لها قبل أن يختطفه الموت في غير أوانه كما قال صاحب المقال التأبيني الآتي صديقه الكاتب أحمد عظيمي عبد الرزاق بوحارة خدم شعبه ووطنه باجتهاد نادر وعاش شريفا عفيفا نظيفا وغادر كذلك دون أن تمتد يده إلى دينار واحد من المال العام وبالرغم من المناصب الكبيرة التي شغلها لم تسول له نفسه النبيلة أن يستحوذ على شيء بدون موجب حق .. فكيف نتجاهل رحيله المفاجئ؟؟؟ .. رحمة الله عليك رحمة واسعة يا حاج عبد الرزاق ونم هنيئا يا ابن الجزائر البار فلن يضيع ما غرست و سينبري تباعا من بين أبناء هذا الشعب الكريم من يحمل عنك المشعل ويرفعه عاليا منيرا وسوف تظل أيادي الأجيال تتداوله إلى أبد الآبدين .. رحمك الله وطيب ثراك يا بوحارة وإنا لله وإنا إليه راجعون. عبدو المعلم
بوحارة.. الرحيل في غير أوانه
بقلم أحمد عظيمي
قال السلف: "الموت تخير"؛ وها هو اليوم يختار الرجل المناسب في الوقت الغير مناسب. أختار عبد الرزاق بوحارة، أو الحاج، كما كان يحلو له أن نناديه.
الفقيد عبد الرزاق هو من ذلك النوع النادر من المجاهدين الذين بقوا أوفياء لخطهم النضالي ولعهدهم الذي قطعوه على أنفسهم عندما اختاروا طريق الجهاد من أجل الوطن.
علاقته بالثورة التحريرية لم تكن عرضية ولا بمحض الصدفة بل كانت اختيارا وتصميما وتفضيلا على حياة رغدة كانت في انتظاره. في سنة 1955، لم يكن في الجزائر كلها إلا بضع مئات من أبناء الجزائريين الذين تمكنوا سواء بفضل علاقات عائلاتهم بالإدارة الفرنسية أو بفضل ذكائهم الخارق من الوصول إلى المرحلة الثانوية من التعليم. عبد الرزاق كان من الفئة الأخيرة، فذكاؤه ومثابرته على الدراسة مكناه من بلوغ السنة النهائية رياضيات، لكن صوت الواجب كان أقوى وأهم من أية شهادة يتحصل عليها في ظل إدارة الاحتلال، فغادر مقاعد الدراسة ليلتحق بالرعيل الأول للثورة المسلحة.
عرفت عبد الرزاق منذ عشرين سنة، وخلال العقدين من الزمن، كنت أزوره من حين لآخر في بيته أو نلتقي في مناسبات معينة، قضيت معه ساعات طويلة كنت أفضل باستمرار أن أستمع إليه لأستفيد من معلوماته وآرائه وأفكاره، ومع ذلك أنتبه الآن إلى أنه لم يحدثني يوما عن نفسه وعن دوره وعن جهاده.
عندما كنت أستمع إليه وهو يتحدث عن الثورة التحريرية كنت أشعر أحيانا وكأني أمام من نظروا وخططوا لهذه الثورة. هو لا يتكلم أبدا عن نفسه بل عن أهداف الثورة وإشعاعها وإنجازاتها للجزائر وللبشرية. الجلوس مع عبد الرزاق كان دوما جلوسا مع التاريخ ومع الفكر وفي عالم الكتاب.
يمكن أن نقول عن الحاج عبد الرزاق، بدون مبالغة، بأنه أخر المفكرين من جيل الثورة، فهو اهتم دوما بالجوانب الفكرية والإيديولوجية لهذه الثورة التي كانت إضافة كبيرة في حياة البشرية وساهمت في تحرير العديد من الشعوب وقوضت الظاهرة الاستعمارية بشكلها القديم. كان يقرأ كل ما يتحصل عليه من كتب، ويناقش مع من كانوا يزورونه من مناضلين ومتعلمين محتويات تلك الكتب. في إحدى زياراتي له أعارني كتابا هو عبارة عن مذكرات ضابط فرنسي عمل، أثناء الثورة التحريرية، بالجزائر، ولما كنت أودعه أمام باب بيته ذكرني بأن أغلى ما يحافظ عليه في حياته هي الكتب مما يعني أنه علي أن أعيد له الكتاب بعد قراءته، فما كان علي سوى أن ذكرته بالحكمة الفرنسية التي تقول بأن من يعير كتابا هو غبي أما من يعيده فهو أبله، فابتسم وقال لي: أنا لست غبيا وأنت لست أبلها لكن عليك أن تعيد لي كتابي.
غداة استعادة السيادة الوطنية، كان عبد الرزاق برتبة نقيب في الجيش الوطني الشعبي وكان من ضباط الجيش القلائل، في ذلك الوقت، الذين ملكوا الكفاءة العسكرية والمستوى التعليمي العالي. أرسل للتكوين في المدرسة الحربية بحمص (سوريا) فتخرج الأول في الدفعة، وأرسل إلى مصر فعاد بليسانس في العلوم العسكرية بامتياز، ولما قبلت الحكومة الفرنسية بفتح أبواب مدرستها الحربية أمام أول ضابط جزائري ليشارك في دورة الأركان أختاره بومدين لهذه الدورة فكان النجاح الباهر حليفه.
على إثر هزيمة الجيش المصري في حرب جوان 1967، كلفه بومدين بقيادة الوحدات العسكرية الجزائرية التي أرسلت للدفاع عن الأراضي المصرية من همجية الجيش الإسرائيلي، فكان أن أدى مهمته على أكمل وجه مما جعل قيادة الجيش المصري تنظر بكثير من التقدير والاحترام لهذا الضابط الجزائري الشاب. نذكر هنا بأن بعض جنرالات الجيش الإسرائيلي الذين شاركوا في تلك الحرب تكلموا في مذكراتهم عن دور القوة العسكرية الجزائرية المواجهة لهم وعن كفاءة قيادتها.
كانت كل الظروف مواتية ليكون لمثل هذا الضابط الشاب شأن ودور في المؤسسة العسكرية غير أن مواقفه الرافضة لممارسات سلبية بدأت تظهر في تسيير بعض هياكل ومؤسسات الدولة، منذ الأشهر الأولى لاستعادة السيادة الوطنية، جعلت الكثير من مسؤولي تلك المرحلة يعتبرونه شخصا مزعجا وجب إبعاده.
لعنة المسؤولين تابعت بوحارة طوال حياته، ففي كل مرة يجد نفسه يعمل تحت مسؤولية من هم أقل نضالا وكفاءة ونظافة يد وأخلاقا ورجولة. اختير (أو أبعد) إلى آسيا ليمثل الجزائر في موسكو وفيتنام والصين ثم أعاده بومدين إلى الجزائر في سنة 1975، وهو برتبة مقدم في الجيش، ليكلفه بتسيير ولاية الجزائر العاصمة. عن هذا التكليف، الذي رأى فيه البعض إنقاصا من قيمة الرجل والضابط السامي، قال لي في أحد لقاءاتنا، إن بومدين كان يعلم بأن بعض المسؤولين الكبار استباحوا العاصمة إذ راحوا يستولون على الأملاك الشاغرة التي تركها الكولون، فكان منهم من أخذ العديد من الفيلات والأراضي والمحلات، فأراد أن ينظف العاصمة من هذه الممارسات فلم يجد من يمكنه القيام بهذه المهمة سوى عبد الرزاق بوحارة فاستدعاه ليكلفه بذلك.
رغم التهميش الذي طاله، في زمن بومدين، إلا أن عبد الرزاق بوحارة، بقى يتكلم عن الرئيس الجزائري بكثير من التقدير والاحترام. عندما كنت أسأله عن بعض القضايا التي حدثت في زمن بومدين، كان يجيب بمستوى الرجل المفكر الذي يزن الأمور بعيدا عن الحسابات الشخصية. بومدين بالنسبة إليه، ورغم الأخطاء التي وقعت في فترة حكمه والتي ندد بها بوحارة علنية في وقتها، يبقى رجل دولة لا يشك أي واحد في وطنيته وإخلاصه.
رفاق النضال بشكليه المسلح والسياسي من الذين جعلوا مؤسسات الدولة مطية تركب وأموالا تنهب، كانوا يروجون عن الحاج بأنه شيوعي. قالوا عن الرجل المؤمن الذي لم يذق قطرة خمر واحدة طوال حياته رغم مساره الدبلوماسي وزياراته لمعظم دول العالم، إنه ماركسي حينا وانه ماوي حينا آخر لأن نفسه الكريمة ومنبته الطيب وأصوله الضاربة في عمق الجزائر كانت تأبى عليه أن يمد يده لمال الدولة أو يستفيد من الريع. كل الإيديولوجيات بالنسبة إليه كانت تختزل في بيان أول نوفمبر الذي قال ببناء دولة ديمقراطية يعيش فيها الناس في كنف العدالة الاجتماعية.
كان مؤمنا بضرورة بناء دولة القانون التي يتساوى فيها الغني والفقير، المسؤول والمواطن. هو آمن بهذه الدولة وحلم بأنها ستتحقق يوما. إيمانه العميق بالجزائر العادلة والمزدهرة والقوية والعصرية لم يتزعزع يوما رغم كل النكسات التي تعرضت لها. كنت عندما أفقد الأمل في كل تغيير إيجابي ممكن أن يتحقق في هذا البلد أذهب إليه لأقول له ذلك فيرد علي بأن التغيير ممكن إنما هي مسألة وقت.
لكن الوقت يمر والبلد يغرق أكثر فأكثر في الفساد وفي الجهوية المقيتة والجريمة بكل أشكالها، والأعمى وحده من لا يرى الأخطار المحدقة اليوم بالجزائر. الوضع أفقد أكثر الناس تفاؤلا وإيمانا بأن دماء الشهداء لا تذهب هدرا، أفقدهم الأمل. إنه ما لاحظته على الرجل خلال السنوات الأخيرة. في فصل الصيف من ثلاث سنوات، اتصل بي صديقنا المشترك المرحوم لخضر بلعز ليقول لي إنه علي أن أذهب للاصطياف في مدينة القل لأن الحاج عبد الرزاق موجود هناك ويطلب مني الالتحاق به.
كانت أياما جميلة قضيناها متجولين بين دشر وقرى جبال القل، وكانت أيضا فرصة للحديث الطويل حول الوضع في الجزائر. وقتها قال لي بالكثير من الألم بأنه عندما نختار طريقا علينا أن نتحمل تبعات ذلك الاختيار. أدركت بسرعة ما كان يشير إليه ولم أشأ أن أثير إشجانه وجروحه.
أخيرا، وجب القول أنه في كل المناصب التي تولاها في الجزائر (ضابط سامي بالجيش الوطني الشعبي، والي لولاية الجزائر في عهد بومدين، وزير الصحة في زمن الشاذلي بن جديد ..) كان قاسيا على نفسه وعلى كل أفراد عائلته فلم يمد يده يوما للمال العام ولا سمح لأي أحد من أقاربه باستعمال المنصب لتحقيق فائدة ما.
رحم الله الحاج عبد الرزاق بوحارة وأسكنه فسيح جنانه.
منتديات الصمود الحر الشريف
http://elsoumoudelcharif.mescops.com/t11522-topic#19817
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق